- النّقطة الثّانية: في بيان المعنى الصّحيح للآية الكريمة.
- النّقطة الثّالثة: في توجيه مذهب ابن عبّاس رضي الله عنهما في المسألة.
النّقطة الأولى: في تعظيم القتل العمد بغير حقّ.
فإنّ القتل العمد بغير حقّ إهدارٌ لأعظم حقوق الإنسان، وهو حقّ الحياة، وقد بالغ الشّرع في تعظيم هذا الحقّ من وجوه كثيرة:
1- النّهي عنه بأبلغ صور النّهي:
فقد قال عزّ وجلّ:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النّساء من: 92]، والإتيان بصيغة (ما كان)، أو (لم يكُن) يعدّ من أبلغ وأشدّ صُور النّهي والزّجر.
قال القرطبي رحمه الله:" وتتضمّن الآية على هذا إعظامَ العمدِ وبشاعةَ شأنِه، كما تقول: ما كان لك يا فلان أن تتكلّم بهذا إلاّ ناسيا إعظاما للعمد والقصد".اهـ
2- أنّه ليس للعبد التصرّف في نفسه كما يشاء:
فقد أمر الله تعالى العبدَ باجتناب كلِّ أسباب الهلاك، فقال عزّ وجلّ:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النّساء: من الآية29].
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النَبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(( مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا )).
3- وخطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في النّاس عام حجّة الوداع فعظّم هذا الحقّ:
ففي الصّحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ )) فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ، قَالَ: (( أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ )) قُلْنَا: بَلَى ! قَالَ: (( فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا )) فَسَكَتْنَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: ((أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ ؟)) قُلْنَا: بَلَى ! قَالَ: (( فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ )).
4- أنّ الأنفس أوّل ما يقضى فيه يوم القيامة:
ففي الصّحيحين عن عبدِ اللهِ بنِ مسْعودٍ قالَ: قالَ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ )).
5- وجعل القتل من السّبع الموبقات:
ففي الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ !)) قَالُوا: يَا رسولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ ؟ قال: (( الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ )).
وفي صحيح البخاري عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ: (( لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا )).
ومعنى قوله: ( مِنْ دِينِه ) أنّه يضيق عليه دينُه حتّى يصير قريبا من الكفر ! قال ابن العربي رحمه الله: الفسحة في الدّين سعةُ الأعمال الصّالحة، حتّى إذا جاء القتلُ ضاقت؛ لأنّها لا تفي بوزره.
لذلك كان ابن عمر رضي الله عنه يقول:" من وَرَطَات الأُمور الّتي لا مخرج لمن أَوْقع نفسَه فيها، سفكُ الدّم الحرام بغير حلِّه ".
6- أنّ حرمة المؤمن فاقتْ حرمةَ المقدّسات:
فقد روى ابن ماجه بسند حسن عن عبدِ اللهِ بنِ عمْرٍو رضي الله عنه عنْ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ )).
وروى ابن ماجه عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يطُوفُ بِالكَعْبَةِ ويقولُ: (( مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ ! مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ حُرْمَةً مِنْكِ: مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا )).
7- أنّ الله تعالى قد حرّم قتل المعاهدين والذمّيين: فكيف بالمؤمن ؟!
روى البخاري عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضي الله عنه عنْ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا )).
8- وأعدّ الله للقاتل بغير حقّ أشدّ العقاب:
روى التّرمذي عن أبي سعِيدٍ الخُدْرِيِّ وأبي هريْرةَ رضي الله عنهما يَذْكُرَانِ عنْ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمْ اللهُ فِي النَّارِ )).
وروى أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: (( يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنْ النَّارِ يَتَكَلَّمُ يَقُولُ: وُكِّلْتُ الْيَوْمَ بِثَلَاثَةٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ، وَبِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَيَنْطَوِي عَلَيْهِمْ فَيَقْذِفُهُمْ فِي غَمَرَاتِ جَهَنَّمَ )).
9- سُدّت جميع السّبل إلى قتل المؤمن بغير حقّ.
- فنهِينا عن ترويع المسلم:
روى أبو داود والترمذي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ، فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا )).
- ونُهِينا عن مجرّد الإشارة للمؤمن بالسّلاح:
روى البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ : (( لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ )).
وروى مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ )).
- وأُمِرنا بالاحتياط عند حمل السّلاح:
روى البخاري ومسلم عن أبي موسَى رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا وَمَعَهُ نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا أَوْ قَالَ فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا شَيْءٌ )).
- النّقطة الثّانية: في بيان المعنى الصّحيح للآية الكريمة.
فإنّ ظاهر قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} أنّه خرج من ملّة الإسلام؛ لأنّ الله حكم عليه بالخلود في النّار، والغضب، واللّعنة، والعذاب العظيم.
وكذلك هو ظاهر بعض الأحاديث والآثار، منها:
- ما رواه أبو داود وابن حبّان والحاكم عن أَبِي الدَّرْدَاءِ قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أَنْ يَغْفِرَهُ، إِلَّا مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا، أَوْ مُؤْمِنٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا )).
واشتهر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: القاتل ليس له توبة.
وروى التّرمذي والطّبراني في "الكبير" و"الأوسط" واللّفظ له عن ابنِ عبّاسٍ أنّه سأله سائِلٌ فقال: يا أبا العبّاس هل للقاتل من توبة ؟ فقال ابن عبّاس كالمعجَب من شأنه: ماذا تقول ؟ فأعاد عليه مسألته. فقال: ماذا تقول ؟! مرّتين أو ثلاثا، ثمّ قال: أنّى له التّوبة !؟ سمعت النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ:
(( يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقاً رَأْسَهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّباً قَاتِلَهُ بِاليَدِ الأُخْرَى تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَماً، حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ العَرْشَ، فَيَقُولُ الْمَقْتُولُ لِرَبِّ العَالَمِينَ: هَذَا قَتَلَنِي. فَيَقُولُ اللهُ لِلْقَاتِلِ: تَعِسْتَ، ويُذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ )).
وروى البخاري عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ قال: أَمَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى قَالَ: سَلْ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا أَمْرُهُمَا ؟:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}، و{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} ؟ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ:
" لَمَّا أُنْزِلَتْ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ قَالَ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ: فَقَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، وَدَعَوْنَا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وَقَدْ أَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ ؟! فَأَنْزَلَ اللهُ:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ ...} الْآيَةَ، فَهَذِهِ لِأُولَئِكَ، وَأَمَّا الَّتِي فِي النِّسَاءِ: الرَّجُلُ إِذَا عَرَفَ الْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَهُ، ثُمَّ قَتَلَ، فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ".
وفيه أيضا: قال: سمعتُ سعيدَ بنَ جُبَيْرٍ: آيَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَرَحَلْتُ فِيهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلْتُهُ عنها فقال: نزلتْ هذه الآية:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ، وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ.
وتمسّك بهذا من يُكفّر بالكبائر !
والجمهور على تصحيح توبة القاتل إذا تاب قبل موته، وإن مات دخل تحت المشيئة الإلهيّة.
وأدلّة الجمهور ما يلي:
1- قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: من الآية178].
ووجه الدّلالة أنّه وصفه بالأخوّة، وذلك يقتضي إيمانه.
2- وقوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: من الآية9]، فوصفهم بالإيمان على الرّغم من اقتتالهم.
3- ما رواه البخاري ومسلم عن عبد اللهِ بنِ مسعودٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ )).
قالوا: لو كان القتل العمد كفرا لدخل مع المرتدّ.
4- قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا ))، فلم يُخرجْه من الدّين، وإنّما أخبر أنّه ضاق عليه.
5- ما رواه البخاري ومسلم عنْ عبادةَ بنِ الصّامتِ رضي الله عنه قال: بَايَعْتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي رَهْطٍ فقالَ: (( أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ فَذَلِكَ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ )).
فجعل القتل من الكبائر الّتي تكفّر بالحدّ، وإلاّ دخل تحت المشيئة.
وأجاب الجمهور عن آية النّساء بأجوبة كثيرة، أقواها ستّة:
1- قال الطّبري رحمه الله تعالى (9/69):
" وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمنا متعمّدا فجزاؤه جهنّم خالدا فيها، ولكنّه يعفو ويتفضّل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يُجازيهم بالخلود فيها.. ".
وكذا قال ابن خزيمة رحمه الله في "كتاب التّوحيد" (2/869).
2- أنّ هذا على سبيل التّغليظ الشديد، كما هو الشّأن في أحاديث كثيرة تنفي شمَّ رائحة الجنّة، وهذا جواب الجمهور.
3- أنّ هذا الوعيد في حقّ المستحلّ للقتل؛ لأنّه كافر، وأمّا من اعتقد تحريمَها فلا يلحقه وعيد الخلود في النّار، وإن لحقه وعيد الدخول، كما في "مدارج السالكين" (1/395).
وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله هذا القولَ، وقال: لو استحلّ ذلك ولم يفعله كان كافرا.
4- أنّ ذلك كناية على طول البقاء، حتّى يظنّ الظانّّ أنّه خالد فيها، وهذا مُستعمل في اللّغة فيطلقون الخلود وهم يريدون طولَ البقاء، كما قال زهير:
ألا لا أرى على الحوادث باقيا *** ولا خالدا إلاّ الجبال الرّواسيا
وتقول العرب: خلّد الله ملكه، أي: أطال الله بقاءه.
5- ذكره ابن القيّم رحمه الله فقال:
" هذا وعيد وإخلاف الوعيد لا يذمّ، بل يمدح، والله تعالى يجوز عليه إخلاف الوعيد، ولا يجوز عليه خلف الوعد.
والفرق بينهما أنّ الوعيد حقّه فإخلافه عفوٌ وهبةٌ وإسقاط، وذلك موجب كرمه وجوده وإحسانه والوعد حقّ عليه أوجبه على نفسه:{وَاللهُ لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ}.
وقد تناظر في هذه المسألة أبو عمرو بن العلاء وعمرو بن عبيد، فقال عمرو بن عبيد:
يا أبا عمرو ! لا يخلف الله وعدَه، وقد قال:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا...} الآية، فقال له أبو عمرو:
ويحك يا عمرو ! من العُجمة أُتِيت، إنّ العرب لا تعُدُّ إخلاف الوعيد ذمّا، بل جودا وكرما، أما سمعت قول الشّاعر:
ولا يرهب ابنُ العمِّ ما عشت صولتي *** ولا يختشـى من سطـوة المتهدد
وإنّـي إن أوعـدته، أو وعـدتـه *** لمخلفٌ إيعـادي، ومنجزٌ موعدي
لذلك قال الخطّابي رحمه الله:
" الآية الأولى:{إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} خبر لا يقع فيه الخُلف، والآية الأخرى:{فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ} وعيد، يُرجى فيه العفو، والله أعلم"اهـ.
6- قال الخطّابي رحمه الله:
" القرآن كلّه بمنزلة الكلمة الواحدة ... ولو جُمِع بين قوله تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} وألحق بها (لمن يشاء) لم يكن متناقضا، فشرط المشيئة قائم في الذّنوب كلّها ما عدا الشّرك "اهـ.
ومن أراد بسطَ هذه المسألة فليرجع إلى المصادر المذكورة مع "شعب الإيمان" (2/103)، و"الإيمان" لأبي عبيد (89)، و"مجموع الفتاوى" (7/287)، و"شرح الطّحاويّة" (361).
- النّقطة الثّالثة: توجيه مذهب ابن عبّاس رضي الله عنهما.
لم يقُل ابن عبّاس رضي الله عنهما إنّ القاتل كافرٌ، وإنّما استبعَد التّوبة، وكلامه غاية في الصحّة، وتوضيحه:
أنّ القتل من حقوق الآدميّين الّتي لا يكفي فيها مجرّد النّدم والعزم على عدم الرّجوع، والإقلاع عن المعصية، فالتوبة من قتل المؤمن عمدا متعذّرة إذ لا سبيل إليها إلاّ باستحلاله، أو إعادة نفسه التي فوّتها عليه إلى جسده.
وقد يقول قائل: إنّ الشّرك أعظم من القتل ومع ذلك تصحّ التّوبة منه ؟
والجواب عن ذلك: أنّ ذلك محض حقِّ الله تبارك وتعالى، فالتّوبة منه ممكنة، وأمّا في حقّ الآدميّ فالتّوبة موقوفة على أدائه إليه، واستحلاله، وقد تعذّر.
ويحمل كلام ابن عبّاس: (لم ينسخها شيء ) على أنّه موقوف على عفْوِ القاتل يوم القيامة.
والله أعلم، وأعزّ وأكرم، وهو الهادي للّتي هي أقوم.