أخبار الموقع
***تقبل الله منا ومنكم، وكل عام أنتم بخير أعاده الله على الأمّة الإسلاميّة بالإيمان والأمن واليمن والبركات***
لطرح استفساراتكم وأسئلتكم واقتراحاتكم اتّصلوا بنا على البريد التّالي: [email protected]

مختارات

- معركة العربيّة.

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فـ" ما ذلَّت لغةُ شعبٍ إلاّ ذَلَّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمرُه في ذَهابٍ وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمِر لغته فرضًا على الأمة المستعمَرة ... فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثةً في عملٍ واحد:

أمّا الأوّل: فحبسُ لغتِهم في لغته سجنًا مؤبّدًا.

وأمّا الثّاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا.

وأمّا الثّالث: فتقييدُ مستقبلِهم في الأغلال الّتي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تَبَع ".

[" من وحي القلم " (2/23) للرّافعي رحمه الله].

ومن مظاهر إذلال اللّغة العربيّة هجرُها، واتّخاذ العامّية خدناً بدلها.

- التّقويم الميلاديّ، وزمن مولد المسيح عليه السّلام.

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد: وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته.

فقد أجمع أهل العلم على أنّ الأولى هو استخدامُ التّأريخ والتّقويم الهجريّ، وإنّما اختلفوا في وجوبه، وفي حكم من قوّم وعدّ الأيّام، والشّهور والأعوام بغيره.

وأوسط الأقوال وأعدلها إن شاء الله، هو: المنع من إفراد التّاريخ الميلادي بالذّكر، بل يجب أن يذكر قبله التّاريخ الهجريّ، ثمّ يُذكر التّاريخ الميلادي بعده بحسب الحاجة والاضطرار إليه، كما هو حال كثير من بلاد الإسلام ردّها الله إلى دينه ردّا جميلا -.

ووجوه المنع من الاقتصار على التّأريخ الميلادي ما يلي:

- التّرهيب من الاِحتفَال بِأعْيادِ أهْلِ الصّلِيب.

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين، محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذه نصيحةٌ ونداءٌ، إلى المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الّذين نأمل أن يكونوا كما وصفهم ربّ الأرض والسّماوات:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36]..

والّذين نرجو أن يكون شعارهم ودثارهم:{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: من الآية285].

- شهر رجب في سطور ...

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على محمّد وعلى آله أجمعين، أمّا بعد:

فقد قال أهل العلم:" إنّ لله تبارك وتعالى خواصّ، في الأزمنة والأمكنة والأشخاص "؛ وإنّ من الأزمنة الّتي خُصّت بالفضيلة: شهر رجب، ولا أدلّ على تعظيمه من تسميته بذلك، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ولكن كشأن كلّ فضيل، فقد نُسجت حوله الأقاويل والأباطيل، وعلقت بأذهان كثير من المسلمين اعتقادات في شهر رجب ما عليها من دليل، فرغبت في بيان أهمّها في شكل سؤال وجواب، سائلا المولى تعالى التّوفيق إلى الصّواب.

- لماذا يحتفل المسلمون بأعياد الكفّار والمشركين ؟

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى كلّ من اتبع سبيله واستنّ بسنّته واهتدى بهداه، أمّا بعد:

فلك أن تتساءل - أخي الكريم - عن أسباب انتشار هذه المظاهر في بلادنا ؟ .. وما سبب ضياع شخصيّتنا ؟ وما سبب ذهاب نور معالمنا ومبادئنا ومناهجنا ؟ ..

فاعلم أنّ هناك أسبابا كثيرة، وإنّنا نذكر منها ثمانية:

- Mise en garde contre la célébration des fêtes des impies

Louange à Allah le Seigneur de tous, et que le salut et la bénédiction soient sur son prophète Mohammed صلى الله عليه وسلّم, et sur ses proches et ses compagnons.

Ceci est un appel à tous les musulmans, hommes et femmes, aux croyants et aux croyantes en cette foi qui est l'Islam.

Ceci est un conseil à ceux et à celles qu'Allah a adressé la parole dans Son saint Coran en disant :

- تذكير أهل الإيمان بتعظيم لغة القرآن

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:

فهذه نصيحة إلى إخواننا وأخواتنا الّذين رضُوا بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيّا ورسولا، ثمّ بالعربيّة لغةً ولسانا.

لغة نزل بها القرآن العظيم، ونطق بها النبيّ المصطفى الأمين صلّى الله عليه وسلّم ..

نصيحة إليهم كي يجتنبوا التّحدّث بغير اللّغة العربيّة فصيحها أو عامّيتها قدر الإمكان، فيكفي أنّ الحاجة والضّرورة تقودنا إلى التحدّث بغيرها في كلّ مكان.

- الغارة على الأسرة المسلمة (1) المرأة بين الكرامة والمهانة

خطبة الجمعة ليوم 13 محرّم 1425 هـ الموافق ليوم 5 مارس 2004 م

الخطبة الأولى: [بعد الحمد والثّناء] أمّا بعد:

فقد روى البخاري عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: قالت النّساءُ للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ. فوعدهنَّ يوماً لَقِيَهُنَّ فيه، فوعظهنّ، وأمرهنّ.

ومثله ما رواه البخاري ومسلم - واللّفظ له - عن جابرِ بنِ عبد اللهِ رضي الله عنهما قال: شهِدتُ مع رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم الصّلاةَ يومَ العيدِ، فأمرَ بتقوَى اللهِ، وحثَّ على طاعتِهِ، ووعظَ النّاس وذكّرَهم، ثمّ مضى حتّى أتى النّساءَ، فوعظهنَّ، وذكّرهنَّ، فقال: (( تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ )) ... الحديث.

Previous
التالي

شرح الأصول الثّلاثة (17)

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:فيسرّنا أن نعلِم الإخوة الكرام والأخوات الكريمات بأنّ الشّيخ أبا جابر يشرح رسالة الأصول الثّلاثة وأدّلتها للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بمسجد الغزالي "بلدية الحمّامات (باينام)" .وذلك كلّ يوم أحد وأربعاء، بين المغرب والعشاء.

الرقم

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

01 الشريط الأول :(مقدّمة مهمّة)
02 الشريط الثاني :( أهمّية العلم بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم)
03 الشّريط الثّالث (منزلة العمل والدّعوة والصّبر.)
04
الشّريط الرّابع : (تفسير سورة العصر وأدّلة المسائل الأربع)
05 الشّريط الخامس : (الإقرار بالرّبوبيّة وبعثة الرّسل )
06
الشّريط السّادس : (الإقرار بتوحيد الألوهيّة)
07 الشّريط السّابع : (الولاء والبراء من أصول الدّين)
08
الشّريط الثّامن : (مسائل في الولاء والبراء)
09 الشّريط التّاسع: (ملّة إبراهيم عليه السّلام)
10
(الشّريط العاشر : لماذا التّذكير بتوحيد الألوهيّة)
11 (الشّريط الحادي عشر: الأصل الأوّل:معرفة الله عزّ وجلّ)
12
(الشّريط الثّاني عشر: السّبيل إلى معرفة الله عزّ وجلّ)
13 (الشّريط الثّالث عشر: توحيد الرّبوبيّة يدعو إلى توحيد الألوهيّة)
14
(الشّريط الرّابع عشر: معنى الكفر وموانع التّكفير)
15 (الشّريط الخامس عشر: الدّعاء هو العبادة)
16
(الشّريط السّادس عشر: منزلة الخوف من الله تعالى)

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (01) مقدّمة مهمّة.

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

- فهذه الرّسالة رسالة نافعة كتب الله تعالى لها القبول. 

- رسالة " الأصول الثّلاثة " للإمام العلاّمة: محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله، الّذي رفع رايةَ التّوحيد بعد أن انتشرت من جديد في هذه الأمّة معالم الشّرك، يوم أصبح النّاس يستغيثون بغير الله سبحانه وتعالى، ويعظّمون الأضرحة والقبور، فقام هذا الشّيخ المجدّد رحمه الله برفع راية التّوحيد، فهدى الله به الخلق في ذلك الزّمان وما زالت دعوته المباركة يجني المسلمون ثمارها إلى أيّامنا هذه. 

- وقد اعتنى كثيرٌ من أهل العلم بشرحها والتّعليق عليها، وطبعت عشرات المرّات، وهذا يدّل على صدق المؤلّف رحمه الله في النّصح لهذه الأمّة. 

- اعتنى العلماء بهذه الرسالة لأهميتها: لموضوعها أولا ثمّ لأسلوبها ثمّ لأدّلتها. 

- أمّا موضوع هذه الرّسالة: فهي تعتني بالقضيّة الكبرى والمسألة المصيريّة الّتي تعتبر نقطة البدء، وتعتبر في الوقت نفسه محطّة الوصول، فإذا أدرك الإنسان موضوع الرّسالة عظمت في قلبه، وعظم اهتمامه بها. هذه القضية: هي قضية أسئلة القبر الثلاثة: من ربك؟ وما دينك؟ و من نبيك ؟

هذه القضيّة هي الّتي ينبغي أن تشغلنا وأن نهتمّ بها كثيرا؛ لأنّها قضيّة مصيريّة إمّا ينتج منها السّعادة الأبديّة السّرمدية، وإمّا ينتج من ورائها الشّقاوة والعياذ بالله. فحريّ بالمسلم أن يهتمّ بالقضايا الكبرى الّتي تمسّ مستقبله الأخرويّ.

والمسلم ينبغي أن يكون عالِيَ الهمّة فيشتغل بمعالي الأمور ولا يشتغل بسفاسفها. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا )).

وفي وصيّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَلاَ تَعْجَزْ ))، ولا يوجد شيءٌ ينفعنا أعظم من أن ننجح في الإجابة عن هذه الأسئلة الثّلاثة.

وكان عثمان رضي الله عنه إذا ذكر الجنّة والنّار بكى، ولكنّه لا يبكي بكاءَه إذا ذكر القبر، فسئل ؟ فقال رضي الله عنه:" القبر أوّل منازل الآخرة؛ فمن نجا فيه نجا فيما بعده، ومن خاب فيه خاب فيما بعده ".

- الذي يقرأ هذه الرّسالة يجد أسلوبها سهلا يصل إلى جميع النّاس: يفهمها العالم ويفهمها العاميّ.

وهذه الصّفة لا بد أن يحرص عليها كلّ من المتكلّم، والكاتب. وإنّ الله عزّ وجلّ الّذي أنزل القرآن فأعجز به البلغاء كلّهم قال:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.

- قوّة الأدّلة: ما من كلمةٍ يقولُها الشيخ رحمه الله إلا ويعقبها بدليل عليها، وسمّى رسالته:" الأصول الثّلاثة وأدّلتها "، والدّليل يفيدك في أمرين:

أ) يفيدك في تثبيت المعلومة، فتصبح بالدّليل يقينا.

ب) يدفع الشّبه، والشّبه على التّوحيد لا تزال قائمة إلى اليوم وهي نفسها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ ))، فينبغي على المسلم أن يتسلّح بالدّليل لطمسها وردّها.

- تنبيهان:

- الأوّل: هناك أربع رسائل تدور حول هذا الموضوع ذكرها الشّيخ ابن قاسم رحمه الله جامع "الدّرر السنيّة لرسائل أئمّة الدّعوة النّجديّة":

الرّسالة الأولى من ص 125 وهي أطولها، وهي:" الأصول الثّلاثة "، والرّسالة الثّانية وهي أخصر من الأولى، والثّالثة زاد فيها توحيد الألوهيّة والرّبوبيّة وتسمّى: ثلاثة الأصول، والرّابعة: المسائل الستّة.

ثمّ لا بدّ أن نعلم أنّ رسالة "الأصول الثّلاثة وأدلّتها" تبدأ من قول المصنّف رحمه الله:" اعلم أرشدك الله لطاعته أنّ الحنيفيّة ملّة ..."، وقد قام أحد تلاميذ المصنّف رحمه الله بإلحاق رسالتين بهذا الكتاب جعلهما كالمقدّمة له، الرّسالة الأولى هي المبدوءة بقوله:" اعلم رحمك الله أنّه يجب علينا تعلّم أربع مسائل "، والثّانية هي المبدوءة بقول المصنّف:" اعلم رحمك الله أنّه يجب على كلّ مسلم ومسلمة تعلُّمُ هذه المسائل الثّلاث "، وقد نبّه على هذا الشّيخ ابن القاسم رحمه الله في حاشيته.

الثّاني: الأصول الثّلاثة عند شيخي الإسلام:

الأصول الّتي يدندن حولها شيخا الإسلام غير ما ذكره الشّيخ محمد عبد الوهاب، وهي: الإيمان بالله، وباليوم الآخر، والعمل الصّالح، وهي الموجبة للسّعادة في كلّ ملّة.[ولا يُعرف العمل الصّالح إلاّ من بيان الرّسل].

[انظر " قاعدة في المحبّة (42)، و" شرح الأصفهانيّة "، و" بغية المرتاد "(1/490)، و"درء التّعارض والنّقل"، و"الصّفديّة" (1/245)، و"مجموع الفتاوى" (9/32)، و" الصّواعق المرسلة "].

والدّليل على هذه الأصول الثّلاثة الّتي اتّفق عليها جميع الرّسل، وجاءت بها جميع الملل قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

- قال المؤلف رحمه الله:                      " بسم الله الرّحمن الرّحيم"

فابتدأ رحمه الله بالبسملة، اقتداءً بالكتاب العزيز، وبفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فقد تواتر عنه أنّه كان يفتتح رسائله إلى الملوك، وعهوده بالبسملة.

أمّا ما شاع في الكتب من ذكر المصنّفين والشّراح لحديث: (( كلّ أمرٍ ذي بال لا يُبدَأ فيه بباسم الله الرّحمن الرّحيم فهو أبتر ))، فهو ضعيف جدّا.

والصّواب أنّ المطلوب هو بدء الخطب بذكر الله تعالى؛ لأنّ اسم الله لا يثقُل معه شيء، وخاصّة التشهّد؛ لما رواه أبو داود عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ )).

وفي " البيان والتبيين "(2/6)"... أنّ خطباءَ السّلَفَ الطيّب، وأهلَ البيان من التّابعين بإحسان، ما زالوا يسمُّون الخطبةَ التي لم تبتَدَأ بالتحميد، وتُستفتَحْ بالتمجيد: البتراء، ويسمُّون التي لم توشّح بالقرآن، وتزيَّنْ بالصَّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: الشَّوْهاء "اهـ.

- قال المؤلف رحمه الله: "اعلم رحمك الله"

"اعلم": يأتي بها العلماء بها للتنبيه على أنّ الأمر الذي سيقولونه عظيم جدّا، فينبغي الاهتمام به، اقتداء بالقرآن الكريم : قال تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.

- قوله "اعلم" فيه إشارة إلى أنّ العقيدة مبناها على العلم الصّحيح، وليس مبناها على كلام وآراء النّاس، وإنّ العقيدة سبيلها النّقل عن أئمة الهدى وأئمة السنة الذين بلّغوا لنا الدّين، كابرا عن كابر إلى أن تصل إلى الصّحابة من المهاجرين والأنصار الذين أخذوها عن سيّد العبيد والأحرار صلى الله عليه وسلم.

يقول أبو ذر رضي الله عنه:"  توفّي رسول الله عليه الصلاة والسلام وما طائر يطير بجناحيه إلا ترك لنا فيه علما ".

وقد بيّن لنا النبيّ صلى الله عليه وسلم فبيّن لنا أحكام الخلاء، وآداب قضاء الحاجة، أفلا يبيّن لنا ما يتعلق بمعرفة الله ؟! لا شكّ أنّ ذلك أولى. فعلى الإنسان أن يثق في الوحي، وليعلم أنّ القرآن الكريم فيه المخرج من كل أزمة والفرج من كل غمّة أو فتنة.

فالدّواء النّافع من كلّ داء ما كان طبيبُ القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله إذا قام من اللّيل يفتتح صلاته:

(( اللّهُمّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اِهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) [رواه مسلم].

فتوسّل إلى الله تعالى بربوبيّته لأسباب الحياة: فجبريل: ملك الوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل الملك الموكل بالمطر الذي من ورائه حياة الزرع، وإسرافيل الملك الذي ينفخ في الصور به حياة الناس من بعد الموت، فسأل الله أن يحيي قلبه وينير صدره. فإذا رأيت النّاس يختلفون فتشبث بالوحي وادعُ الله بهذا الدعاء.

- قال رحمه الله:"اعلم رحمك الله": هذا دعاء للقارئ وللسامع بالرّحمة، والرّحمة لازمها مغفرة ما مضى، والعصمة فيما يُستقبل.

- وفي هذا الدعاء تودد وتلطف، لأنّ مبنى العلم قائم على الرّحمة، وعلم بلا رحمة لا يصلح؛ لذلك كان ابن تيمية رحمه الله يقول:" أهل السنّة والجماعة أعلم النّاس بالحق، وأرحم النّاس بالخلق".

وكان العلماء يروُون ويُروّون طلبتهم الّذين يطلبون الإجازة حديث: (( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، اِرْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمُ مَنْ في السَّمَاءِ )). وهذا الحديث هو المعروف بالحديث المسلسل بالأوّلية، لأنّهم أوّل مسموعات التّلاميذ عن الشّيوخ.

قال أهل العلم: إنّما كانوا يفعلون ذلك لبيان أنّ العلم وسيلته الرّحمة، وغايته الرّحمة في الدّنيا والآخرة.

فيجب على أهل الحقّ أن يكونوا أرحم النّاس بالخلق، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وذلك حين تكلّم عن الطّوائف والفرق، وما فيها من الظّلم لغيرهم، بل لبعضهم بعضا، حتّى إنّ كلّ طائفة تلعن الأخرى، وقد قال له أحد الرّافضة لشيخ الإسلام: أنتم أرحم بنا من بعضنا لبعض، وهذا حال أهل الفرق المنحرفة، كلّما اجتمعوا تفرّقوا.

فالعلم يجنّبك الجهل، والرّحمة تجنّبك الظّلم، وحال الإنسان كما قال تعالى:{وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان.

فلا يكفي أن يعرف المسلم الحقّ، بل لا بدّ أن يكون رحيما بالخلق، قال تعالى مخاطبا سيّد الموحّدين صلّى الله عليه وسلّم:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؛ لأنّ المقصود هو إيصال الخير للنّاس.

وقد ذكر الإمام الذّهبيّ رحمه الله في مقدّمة معجم شيوخه هذا الأصل الأصيل، فافتتح كتابه بالحديث المسلسل بالأوّليّة، وبيّن أنّ بيان الحقّ لا بدّ أن يقترن بالرّحمة بالخلق، وذكر أمثلة كثيرة على ذلك، كالإحسان في القتل، وبذل الجهد لقتل الوزغ في الضّربة الأولى، وقطع يد السّارق مع حسم االعضو كيلا ينزف، وإقامة الحدود، حتّى قال:" فالفقيه من جاهد في سبيل الله، وأقام حدود الله، مع الرّحمة بخلق الله "اهـ. وذكر أنّ الصّحابة رضي الله عنهم كانوا في غزواتهم يودّون أن لو أسلم الكافر قبل أن يصل سيفه إليه.

فلا بدّ أن يتّسع الصّدر لهذين الأمرين.

وممّا يحدو بنا إلى الحديث عن سعة الصّدر للجمع بين الأمرين، ما ذكره ابن القيّم رحمه الله في " مدارج السّالكين " (2/209)، و"روضة المحبّين" (291) عن الفضيل بن عياض رحمه الله حين مات ولده ضحك ! وعلّل ذلك بأنّ ذلك قضاء الله تعالى !

ولمّا كان النّاس قد يستشكلون ذلك، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين مات ولده إبراهيم بكى، ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فقالَ: (( يَا ابْنَ عَوْفٍ ! إِنَّهَا رَحْمَةٌ )) ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ: (( إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ )) ؟

فبيّن ابن القيّم رحمه الله أنّ قلب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اتّسع قلبه للأمرين كليهما: الرّضا بقضاء الله، والرّحمة الّتي جُبِل عليها عباد الله، قال:" والتّحقيق: أنّ قلب رسولِ الله اتّسع لتكميل جميع المراتب من الرّضا عن الله والبكاء رحمةً للصبيّ، فكان له مقام الرّضا ومقام الرّحمة ورقّة القلب، والفضيل لم يتّسع قلبُه لمقام الرّضا ومقام الرّحمة، فلم يجتمع له الأمران "اهـ

والله أعلم.

:

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (02) أهمّية العلم بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

قوله: ( يجب ) والواجب هو ما أمر الله به على وجه الإلزام، وحكمه: أنّه يُثاب فاعله امتثالا، ويستحقّ تاركه العقاب. 

وقولنا: (امتثالا) قيدٌ يخرج به من عمل الوادب دون نيّة التقرّب إلى الله، فلا يُثاب.

وقولنا: (يستحقّ تاركه العقاب)؛ لأنّ العاصِي داخل تحت المشيئة كما هو مقرّر.

قوله: ( علينا ): إشارة إلى أنّ تعلّم هذه المسائل واجب وجوبا عينيّا.

والواجب العينيّ ( فرض العين ) هو: ما يطلب من كلّ واحد بذاته، فيجب على كلّ مكلف فعله، و يأثم بتركه.

والواجب الكفائيّ ( فرض الكفاية ) هو: ما يُطلب لا من كلّ واحد بذاته، فإذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وإن لم يقم به أحد أثِم القادر عليه. من ذلك تعلّم علوم الآلة من لغة وحديث، وأصول، والطبّ والصّناعات.

ومن الجدير بالتّنبيه عليه والتّذكير به أنّ طلب العلم منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية:

وفرض العين نوعان:

أ) ما يجب على جميع المكلّفين في كلّ حال، كعلم التّوحيد، وأغلب التّكاليف.

ب) ما يجب على جميع المكلّفين في بعض الأحوال، فالغنيّ يجب عليه تعلّم أحكام الزّكاة، والتّاجر يجب عليه تعلّم أحكام البيع، ومن كان على أبواب الزّواج وجب عليه تعلّم أحكام الزّواج وهكذا.

أمّا فرض الكفاية: فضابطه أن يكون هناك عددٌ كافٍ في طلبه وتحصيله، وإلاّ أثِم القادر عليه التّارك له.

قال القرافيّ رحمه الله في " الفروق " (1/266):

" قال أبو الوليد الطّرطوشيّ: أمّا مخالفتهما - أي: الوالدين- في طلب العلم، فإن كان في بلده يجد مدارسة المسائل، والتفقّه على طريق التّقليد، وحفظ نصوص العلماء، فأراد أن يظعَن إلى بلد آخر فيتفقّه فيه على مثل طريقته، لم يجُزْ إلاّ بإذنهما؛ لأنّ خروجَه إذاية لهما بغير فائدة.

وإن أراد الخروج للتفقّه في الكتاب والسنّة، ومعرفة الإجماع، ومواضع الخلاف، ومراتب القياس، فإن وُجِد في بلده ذلك لم يخرج إلاّ بإذنهما، وإلاّ خرج ولا طاعة لهما في منعِه؛ لأنّ تحصيل درجة المجتهدين فرض على الكفاية "اهـ.

قال رحمه الله:

( الأُولى: العِلْمُ؛ وهوَ معرفةُ اللهِ، ومعرفةُ نبيِّهِ، ومعرفةُ دينِ الإسلامِ بالأدلّةِ.

الثّانيةُ: العملُ بهِ. 

الثّالثةُ: الدّعوةُ إليهِ.

الرّابعةُ: الصّبرُ علَى الأَذى فيهِ. 

الشّرح:

هذه المسائل الأربع قد ذكرها ابن القيّم رحمه الله في " زاد المعاد " (3/5)، فقال:

" فجهاد النفس أربعُ مراتب أيضاً:

إحداها: أَنْ يُجاهِدَها على تعلُّم الهُدى ودين الحقّ الّذي لا فلاح لها، ولا سعادة فى معاشها ومعادها إلاّ به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين.

الثّانية: أن يُجاهِدَها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها.

الثّالثة: أن يُجاهدها على الدّعوة إليه، وتعليمِهِ مَنْ لا يعلمهُ، وإلاّ كان مِن الّذين يكتُمون ما أنزل الله مِن الهُدى والبيّنات، ولا ينفعُهُ علمُهُ، ولا يُنجِيه مِن عذاب الله.

الرّابعة: أن يُجاهِدَها على الصّبر على مشاقِّ الدّعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كلّه لله.

فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربَّانِيينَ "اهـ.

قوله رحمه الله: ( الأُولى ) أي: من هذه المسائل الأربع ( العِلْمُ؛ وهوَ معرفةُ اللهِ ):

ومعرفة الله تعالى أوّل واجب على المكلّف: أن يعرف أسماءه عزّ وجلّ وصفاته، ومعرفة الله الصّحيحة لا تكون إلاّ بالنّظر في كتابه، وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. فإنّه قد تجلّى لعباده في كتابه بصفاته ليحبّوه، ويخافوه، ويرجوه، ويعظّموه.

قال ابن رجب الحنبليّ رحمه الله في "فضل علم السّلف على الخلف" (ص 67):" العلم النّافع ما عرَّف العبدَ بربّه، ودلَّه عليه حتّى عرفه ووحَّده وأنِس به، واستحى من قربه، وعَبَده كأنّه يراه ". حتّى قال:" فإن كان - أي: العلم - مُتلقّى عن غير ذلك فهو غير نافع في نفسه، ولا يمكن الانتفاع به، بل ضرّه أكثر من نفعه ".

ويقول ابن القيم رحمه الله في " الصّواعق المرسلة ":

" مفتاح دعوة الرّسل، وزبدة رسالتهم، معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تُبْنَى مطالب الرّسالة كلّها من أوّلها إلى آخرها " [" الصّواعق المرسلة " لابن القيّم (1/150-151].

وثمرات معرفة الله عزّ وجلّ لا تُحصى، منها:

- أنّ الاشتغال بمعرفة الله، اشتغال بما خلق له العبد، وتركه وتضييعه إهمال لما خلق له.

- أن معرفة الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى من أعظم أسباب زيادة الإيمان [" التّوضيح والبيان لشجرة الإيمان " للسّعدي ص (41)].

- إجلاله سبحانه، وتعظيمه، وخشيته، ومهابته، ومحبّته، ورجاءه، والتوكّل عليه، والرّضا بقضائه، والصّبر على بلائه:

فإذا تعرّف العبد إلى ربّه بصفات الكمال الدالّة على سعة علمه وإحاطته كصفات العلم، والسّمع، والبصر، والمعيّة، وغيرها، أورثه ذلك كلّه الخوف منه تعالى وتعظيمه.

وإذا عرف العبد ربّه بصفات الجمال كاللّطف، والرّحمة، والعفو، والمغفرة، والتّوب، والسّتر فإنّه لا ييأس من روح الله.

كما أنّه إذا تعرّف على صفات الجلال كالغضب، والمقت، والأسف، واللّعن، والسّخط، لم يأمن مكر الله تعالى، وحينئذ يعبد العبد ربّه على جناحي الخوف والرّجاء، وهما جناحا طائر السّلامة.

وإذا تعرّف العبد على صفات الله الدالّة على قهره وقدرته وجبروته وهيمنته وسلطانه علم أنّ الله ما كان ليُعجزه شيء أبدا، فيحسن الظنّ به، ويعلم أنّه ما من شيء إلاّ ومن ورائه حكمة، لذلك يحسن بنا أن نتذكّر هذه الصّفات في أيّام محنتنا، وساعات كربتنا، حتى نحسِن الظنّ بربّنا، وأنّه تعالى عند وعده ولكنّ العبد ليس عند شرطه.

- ثمّ إنّ من المعلوم لدى أرباب الفطر السّليمة والقلوب القويمة، أنّ المحبّ يحبّ أن يتّصف بصفات محبوبه، كما أنّ المحبوب يحبّ أن يتصف محِبّه بصفاته .. لذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحثّ على الأحسن والأفضل ويذكّر النّاس أنّ الله يحبّها بقوله: (( إِنَّ اللهَ عَفُوٌّ يُحِبُّ العَفْوَ )).. (( جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ )) .. (( طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً )).

وما أحسن ما ذكره المقدسيّ رحمه الله في " كتاب التوّابين " عن عبد الواحد بن زيد قال:

كنت في مركب، فطرحتنا الرّيح إلى جزيرة، وإذا فيها رجل يعبد صنماً، فقلنا له: يا رجل، من تعبد ؟

فأومأ إلى الصّنم، فقلنا: إنّ معنا في المركب من يصنع مثل هذا، وليس هذا إله يعبد.

قال: فأنتم من تعبدون ؟ قلنا: الله.. قال: وما الله ؟ قلنا: الّذي في السّماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي الأحياء والأموات قضاؤه.

فقال: كيف علمتم به ؟ قلنا: وجّه إلينا هذا الملِك رسولاً كريماً، فأخبر بذلك.

قال: فما فعل الرّسول ؟ قلنا: أدّى الرسالة، ثمّ قبضه الله.

قال: فما ترك عندكم علامة ؟ قلنا: بلى، ترك عندنا كتاب الملك.

فقال: أروني كتاب الملك، فينبغي أن تكون كتب الملوك حساناً.

فأتيناه بالمصحف، فقال: ما أعرف هذا ! فقرأنا عليه سورةً من القرآن، فلم نزل نقرأ وهو يبكي، حتّى ختمنا السّورة.

فقال: لا ينبغي لصاحب هذا الكلام أن يُعْصى !

ثمّ أسلم، وحملناه معنا، وعلّمناه شرائع الإسلام، وسوراً من القرآن، وأخذناه معنا في السّفينة، فلمّا سِرنا وأظلم علينا اللّيل، أخذنا مضاجعنا، فقال لنا:

يا قوم، هذا الإله الّذي دللتموني عليه، إذا أظلم اللّيل هل ينام ؟ قلنا: لا يا عبد الله، هو عظيم قيّوم لا ينام.

فقال: بئس العبيد أنتم، تنامون ومولاكم لا ينام ؟! ثمّ أخذ في التعبّد، وتركَنا.

فلمّا وصلنا بلدنا، قلت لأصحابي: هذا قريب عهد بالإسلام وغريب في البلد، فجمعنا له دراهم وأعطيناه، فقال: ما هذا ؟

قلنا: تنفقها في حوائجك.

فقال: لا إله إلا الله ! أنا كنت في جزائر البحر، أعبد صنماً من دونه ولم يضيّعني، أفيضيّعُني وأنا أعرفه

ومضى يتكسّب لنفسه، وكان بعدها من كبار الصّالحين.

قوله رحمه الله: ( ومعرفةُ نبيِّهِ ).

وذلك لأنّه صلّى الله عليه وسلّم أعرف الخلق بالله تعالى، فلا يُعرَف الله إلاّ من طريقه.

أنت باب الله، كلّ امرئٍ *** أتـاه من غيرك لا يدخل 

والتعرّف على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّما يكون بالتعرّف على هديِه، وسمتِه، وأقواله، وأفعاله، وتقريراته.

قوله رحمه الله: ( ومعرفةُ دينِ الإسلامِ )

أي: ما جاء من الأحكام العمليّة، وهو ما عبّر عنه شيخا الإسلام في الأصول الثّلاثة بالعمل الصّالح.

وقد أشار ابن القيّم رحمه الله في " نونيّته " إلى هذه الأصول، فقال:

والجهل  داء  قاتل، وشفـاؤه *** أمران في التّركيب  متّفقان

نصّ من القرآن، أو من سنّـة *** وطبيب ذاك العالم الربّانـي

والعلمُ  أقسامٌ ثلاثٌ  ما لـها *** من رابعٍ، والحقّ ذو تبيـان

علم  بأوصـاف الإله، وفعلِه *** وكذلك  الأسمـاء  للرّحمن

والأمر  والنّهي الّذي هو  دينه *** وجزاؤه  يوم  المعـاد الثّاني

والكل في القرآن والسّنن التي *** جاءت عن المبعوث بالفرقان

والله ما قـال امـرؤ متحذلق *** بسـواهما إلاّ من الهذيـان

[يُتبع إن شاء الله]

:

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (03) منزلة العمل والدّعوة والصّبر

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

قوله رحمه الله: ( بالأدلّةِ ).

والأدلّة جمع دليل، وهو المرشِد إلى المطلوب، ومنه الدّليل الّذي يدلّ على الطّريق.

ودين الإسلام مبنيّ على الدّليل كما سبق ذكره من كلام شيخ الإسلام رحمه الله، فالدّليل هو المرشد إلى الصّراط المستقيم، المبنيّ على العمل بعلم، خلافا للنّصارى الّذين عبدوا دون علم، فضلّوا وأضلّوا كثيرا، وضلّوا عن سواء السّبيل.

أمّا من علم ولم يعلم فسيأتي بيانه عند ذكر الشّيخ للأصل الثّاني، وهو: العمل بالعلم.

وقفة مع اشتراط معرفة الدّليل في العقائد:

واشتراط المعرفة بالأدلّة هو الأصل، وذلك على القادر على طلبها وفهمِها، أمّا العاميّ فيكفيه التّقليد لعجزه، قال الله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

وهذا خلافا لظاهر ما ذهب إليه بعضُ الشرّاح، الّذين أطلقوا عدم جواز التّقليد، ومنهم من قيّد بما ذكرناه، منهم الشيخ مفتي البلاد النجدية في وقته عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله حيث قال:

" وفرضٌ على كلّ أحدٍ معرفة التّوحيد، وأركان الإسلام بالدّليل، ولا يجوز التّقليد في ذلك، لكن العامّي الّذي لا يعرف الأدلّة إذا كان يعتقد وحدانية الرّبّ، ورسالة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ويؤمن بالبعث بعد الموت، والجنة والنّار، ويعتقد أنّ هذه الأمور الشّركية التي تُفعَل عند هذه المشاهد باطل وضلال؛ فإذا كان يعتقد ذلك اعتقاداً جازماً لا شكّ فيه فهو مسلم، وإن لم يترجم بالدّليل؛ لأنّ عامّة المسلمين ولو لُقِّنوا الدّليل فإنّهم لا يفهمون المعنى غالباً "اهـ.

وإنّما قال بعدم صحّة إيمان المقلّد المعتزلة وجمهور الأشاعرة ! قال العدويّ رحمه الله في " حاشيته "(1/152):" والمقلّد يجب عليه اتّباع أهل العلم، غيرَ أنّه لا يجوز له التّقليد في العقائد "!.

وخالف في ذلك المحقّقون منهم، فقد نقل الحافظ رحمه الله في "الفتح" (13/354) عن صلاح الدّين العلائيّ أنّه قال:" وأمّا من غلا فقال: لا يكفي إيمان المقلّد، فلا يُلتفتُ إليه؛ لما يلزم منه من القول بعدم إيمان أكثر المسلمين "اهـ.

ونقل النّوويّ رحمه الله (1/171) عن ابن الصلاح رحمه الله أنّه قال عن حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه:

" وفيه دلالة لصحّة ما ذهب إليه أئمّة العلماء من أنّ العوام المقلِّدين مؤمنون، وأنّه يُكتَفَى منهم بمجرّد اعتقاد الحقّ جزماً من غير شكّ وتزلزُلٍ، خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة "اهـ.

ونقل ابن حزم رحمه الله في " الفصل " (4/35) الإجماع على صحّة إيمان المقلّد مع اليقين.

ومن عجيب ما نقله الحافظ رحمه الله عنهم في (13/350):" قول جماعة منهم: إنّ من لم يعرف اللهَ بالطّرق الّتي رتّبوها، والأبحاث الّتي حرّروها لم يصحّ ايمانه ! حتّى لقد أُورِد على بعضِهم أنّ هذا يلزم منه تكفير أبيك وأسلافك وجيرانك ! فقال: لا تشنِّعْ عليّ بكثرةِ أهل النّار !".

والصّواب: أنّ إيمان المقلّد العاجز عن النّظر في الأدلّة صحيح، بشرط أن يكون إيمانه يقينيّا، لا يعترِيه شكّ أو ريب. فليس الأمر مبنيّا على التّخمين، ومجرّد الظنّ، كما نُقِل عن أحدهم قوله:

قال الطّبيب والمنجـّم كـلاهمـا   ***   لا تبعث الأموات، قلت: إليكما

إن كان حقّا ما قلتما فلست بخاسر   ***   وإن كان كِذْبا  فالخسار عليكما

  • · قوله رحمه الله:" الثّانيةُ: العَمَلُ بِهِ ".

فالعمل هو ثمرة العلم، والعلم مقصودٌ لغيره، فهو بمنزلة الشّجرة والعمل بمنزلة الثّمرة، وقد قالوا: علم بلا عمل كشجرة بلا ثمر.

وإنّ الّذي يعلم ولا يعملُ شرّ من الجاهل، وفي حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:

(( إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَيْهِ [فذكر الشّهيد والمتصدّق بماله، ثمّ قال]: وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ )).

وروى الدّرامي أنّ عمرَ بنَ الخطّابِ رضي الله عنه قال لعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ رضي الله عنه: من أربابُ العلمِ ؟ قال: الّذينَ يعملونَ بما يعلمونَ. قال: فما يَنْفِى العلمَ منْ صدورِ الرّجالِ ؟ قال: الطّمعُ.

حسبي بعلمي إن نفع *** ما العيب إلاّ في الطّمع 

ما طـار طير وارتفع *** إلاّ كما طـار وقـع 

فإنّ تقوى الله عزّ وجلّ ما كانت في قليل إلاّ كثّرته، ولا في يسير إلاّ باركته، فهي وصيّة الله تعالى للأوّلين والآخرين، وموعظة الله لعباده أجمعين.

فالعلم الذي تُحصّله مع الأيّام، يجب أن يظهر على قلبك ولسانك وجوارحك، وما أقبح بالمسلم أن لا يحاسب نفسه فيما يتعلّمه: ما الّذي جناه واستثمره ؟ ما أقبح بمن يتعلّم أن تكون فيه خصلة من خصال الجاهليّة ! 

فيا طالب العلم، إنّك إن اتّقيت الله عزّ وجلّ قَبِل منك أعمالك، وهو القائل:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ}. 

فإذا خرجت وأنت تحمل كتابا، ورمقتك الأنظار والأبصار، فاستشْعِر وأنت على ذلك الحال أنّك ذاهب إلى معرفة ما يقرّبك إلى الله، ويبعدك من الشّيطان .. تذهب إلى ما يخرجك من الظّلمات إلى النّور، فاحذر ألاّ تحاسب نفسك فيكون العلم عليك لا لك. 

قال الإمام أبو بكر الآجرّي رحمه الله تعالى في " أخلاق العلماء " (ص 54) وهو يتكلّم عمّا يجب أن يهتمّ له المتعلّم:

" .. ولأن يتأدّب بالعلم .. إن ازداد علما خاف من ثبات الحجّة، فهو مشفق في علمه، كلّما ازداد علما ازداد إشفاقا، إن فاته سماع علم قد سمعه غيره فحزن على فوته لم يكن حزنه بغفلة حتّى يواقِفَ نفسه، ويحاسبها على الحزن، فيقول:

لم حزنتِ ؟ احذري يا نفس أن يكون الحزنُ عليك لا لك إذ سمعه غيرك فلم تسمعيه أنت !.. فكان أولى بك أن تحزني على علم قد قرع السّمع، وقد ثبتت عليك الحجّة، فلم تعملي به، فكان حزنك على ذلك أولى من حزنك على علم لم تسمعيه ولعلّك لو قدّر لك سماعه كانت الحجّة عليك أوكد .. فاستغفر الله من حزنه، وسأل مولاه الكريم أن ينفعه بما قد سمع " اهـ.

وكم يشكو الواحد منّا قلّة التّوفيق ؟ 

كم منّا من يشكو من الملل والكلل بمجرّد فتح كتاب !؟ .. كم منّا من يقول: أدرس وأحفظ، وأحفظ ثمّ أنسى ؟! 

فليعلم أنّه لو نقّب عن خبايا نفسه، وإلى أمثلة من أعماله لوجد الدّاء هو إصراره على الغيبة .. إصراره على الكذب .. إصراره على أكل المال بالباطل .. إصراره على إضاعة الأوقات .. وقوعه في عصيان والديه، وغير ذلك ممّا يجده بين يديه. 

وقد جاء الإمامُ الشّافعي رحمه الله يوما إلى الإمام مالك رحمه الله، وقرأ عليه " الموطّأ "، فأُعجب الإمام مالك بعلم الشّافعي، فقال له: "اعلم يا هذا أنّ الله قد ألقى في قلبك نورا، فلا تطفئه بظلمة المعصية ".

وقد قال أحدهم - وينسبونه إلى الشّافعيّ وهو ليس له -: 

شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي 

وقـال لي بأنّ العـلم نـور *** ونور الله لا يهدى لعاصي

وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه:" لا يغرُرْكم من قرأ القرآن، ولكن انظُروا إلى مَن يعمل به ".

وقال مالك بن دينار رحمه الله:" تلقى الرّجلَ ما يلحن حرفاً، وعملُه لحنٌ كلّه !".

وقال ابن جماعة رحمه الله في هذا الشّأن:

" واعلم أنّ جميع ما ذُكر من فضيلة العلم والعلماء إنّما هو في حقّ العلماء العاملين الأبرار المتقين، الّذين قصدوا به وجه الله الكريم، والزّلفى لديه في جنّات النّعيم، لا مَن طلبه لسوء نيّة، أو خُبث طويَّة، أو لأغراض دنيوية من جاه أو مال، أو مكاثرة في الأتباع والطُلاّب " [" تذكرة السّامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلّم " (ص 9)].

قال ابن رجب رحمه الله في "فضل علم السّلف على الخلف " (ص 69) وهو يشرح حديث (( اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا )):

" كان الإمام أحمد رحمه الله يقول عن معروف:" معه أصل العلم: خشية الله "، فأصل العلم بالله [هو] الّذي يوجب خشيته، ومحبّته، والقرب منه، والأنس به، والشّوق إليه.

ثمّ يتلوه العلمُ بأحكام الله، وما يحبّه ويرضاه من العبد من قولٍ أو عملٍ أو حالٍ أو اعتقادٍ.

فمن تحقّق بهذين العلمين كان علمه نافعاً، وحصل له العلم النّافع، والقلب الخاشع، والنّفس القانعة، والدّعاء المسموع.

ومن فاته هذا العلم النّافع، وقع في الأربع التي استعاذ منها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وصار علمه وبالاً وحجّة عليه، فلم ينتفع به؛ لأنّه لم يخشع قلبه لربّه، ولم تشبع نفسه من الدّنيا، بل ازداد عليها حرصاً ولها طلباً ولم يُسمع دعاؤه؛ لعدم امتثاله لأوامر ربّه وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه ...".

  • · قوله رحمه الله: ( الثّالثةُ: الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ ).

فأشرف المنازل العلم، وزينته العمل، وزكاته الدّعوة إليه، وهو منهج الأنبياء والمرسلين، يقول الله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}، وقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}.

  • · قوله رحمه الله: ( الرّابعةُ: الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيهِ ):

لأنّ من دعا النّاس إلى الهدى، وحذّرهم من مزلاّت الرّدى، يحولُ بين النّاس وشهواتهم، ويعيقُهم عن نشر فسادهم، فهو بذلك قد خلف الرّسل في مهمّتهم،{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصّلت من: 43]، فلا بدّ أن يُصادف المشاقّ، وتعترض طريقَه الأشواك، حتّى يتلطّخ جسده بدماء النّصب والتّعب، فيكونَ ذلك دليلا على صدقه.

وإذا صدق العبدُ ربّه صدقه بالنّصر العزيز والفتح المبين، قال تعالى:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34].

وقد سُئل الشّافعيّ رحمه الله: يا أبا عبد الله، أيّما أفضل للرّجل: أن يُمكّن أو يُبتلَى ؟ فقال الشّافعيّ رحمه الله: لا يُمَكَّنُ حتّى يُبتلَى، فإنّ الله ابتلى نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّداً صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعين فلمّا صبروا مكّنهم.

قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السّجدة: 24]، فبالصّبر واليقين تُنال الإمامة في الدّين.

قال ابن القيّم رحمه الله في " الفوائد ":" وهذا أصلٌ عظيمٌ، فينبغي للعاقل أن يعرِفه، وهذا يحصل لكلّ أحدٍ؛ فإنّ الإنسان مدنيّ بالطّبع، لا بدّ له من أن يعيش مع النّاس، والنّاس لهم إراداتٌ وتصوّراتٌ يطلبون منه أن يوافقَهم عليها؟، وإن لم يوافقهم آذوه وعذّبوه ...".

وقال في موضعٍ آخر من " الفوائد ":

" يا مخنّث العزم، أين أنت والطّريق طريقٌ تعِب فيه آدمُ، وناح لأجله نوحٌ، ورُمِي في النّار الخليل، وأُضجِع للذّبح إسماعيل، وبِيعَ يوسفُ بثمنٍ بخسٍ، ولبِث في السّجن بضعَ سنين، ونُشِر بالمنشار زكريّا، وذُبِح السيّد الحصورُ يحيى، وقاسى الضرَّ أيّوب، وزاد على المقدار بكاءُ داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقرَ وأنواعَ الأذى محمّد، تزها أنت باللّهو واللّعب ؟!

فيا دارها بالحزن إنّ مزارها *** قريب، ولكنْ دون ذلك أهوال "اهـ.

ونُكمل إن شاء الله ما جاء في تفسير سورة العصر لاحقا إن شاء الله.

:

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (04) تفسير سورة العصر وأدّلة المسائل الأربع

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

  • · قوله رحمه الله: ( والدّليلُ ): أي: على هذه المسائل الأربع ( قولُه تعالى: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ): وإنّما ذكر البسملة استحبابا؛ لأنّه ذكر السّورة كاملةً؛ روى البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه قال: 

بَيْنَا رَسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رسولَ اللهِ ؟ قال: (( أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ )) فَقَرَأَ: بسمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}.

بخلاف ما لو استدلّ بآية أو جزء من آية، فليس من السنّة ذكر البسملة. وكذلك الاستعاذة، لم يكُن من هدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الإتيان بها إلاّ في مقام التّلاوة.

وأبعَد عن السنّة من يأتي بالاستعاذة قائلا: قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم ! فهذا زيادةً على أنّه مخالف للسنّة، فإنّ فيه نسبة التعوّذ إلى الله من الشّيطان !

وقد بيّن عدم مشروعيّة ذلك بما لا مزيد عليه الإمام السّيوطي رحمه الله في " القذاذة في تحقيق محلّ الاستعاذة "، وهي ضمن كتاب "الحاوي للفتاوي".

  • · ( وَالْعَصْرِ ) فبدأ الله السّورة بالقسم لتوكيد مضمون كلامه سبحانه. وأقسم بالعصرِ، وهو ظرف ووعاء لكلّ الأقوال والأفعال والأحوال الّتي تصدر من جميع الخلق، وهو زمن تحصيل الأرباح، اغتنمه من اغتنم، وغُبن فيه من غُبن.

وتفسير العصر بالزّمن هو قول جمهور المفسّرين، خلافا لمن فسّره بأنّه الوقت قبل المغرب. 

  • · ( إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ): أي: جنس الإنسان، فالإنسان من حيث هو إنسان خاسرٌ، إلاّ من رحم الله فهداه ووفّقه. 

والخُسر ضدّ الفلاح والنّجاة. ونلحظ هنا أمرين اثنين: 

1- أنّه تعالى أقسم بزمان أفعال الإنسان ومحلّها على عاقبة تلك الأفعال وجزائها، فالمقسم عليه مناسب تماما للمُقسَم به، وهذا كثير في القرآن. 

2- وأنّه تبارك وتعالى أكّد هذا الحكم بمؤكّدات أربع: 

أ) بالقسم، ولله سبحانه حقّ القسم بما شاء تنويهاً بتعظيمه. ب) حرف التّوكيد إنّ. ج) اللاّم. د) قوله:{لَفِي خُسْرٍ} ولم يقل: خاسر. 

  • · ( إِلاَّ ) فاستثنَى من جنس الإنسان صنفاً من النّاس، فقال: 
  • · ( الَّذِينَ آمَنُوا ): وهذا دليل على المسألة الأولى؛ إذ يلزم من الإيمان العلم، فلا يمكن أن يحصّل المرء الإيمانَ الجازم بلا علم. 

وحذف المتعلّق ليدلّ على العموم، فهم يؤمنون بكلّ ما أمر الإيمان به. 

  • · ( وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ): وهو ما أشار إليه رحمه الله بالمسألة الثّانية: العمل. والعمل الصّالح ما كان خالصا صوابا، وما من عمل وإن دقّ إلاّ نُشِر له ديوانان: لِمَ عملت ؟ وكيف عملت ؟
  • · ( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ): والتوّاصِي بالحقّ هو قدر زائد على مجرّد العمل به، وهو داخل في العمل الصّالح، ولكنّه تعالى خصّه بالذّكر تنبيها على فضله وضرورته.

ونظيره قوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، مع أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من الدّعوة إلى الخير. 

ويدخل في الحقّ: الحقّ الواجب، والحقّ المستحبّ.

  • · ( وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ): فإنّ المؤمن ضعيف بنفسه، قويّ يإخوانه. وليست الدّعوة بحاجة إلى شيء حاجَتَها إلى العلم بالحقّ، والصّبر عليه، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أَعْطَى اللَّهُ أَحَدًا مِنْ عَطَاءٍ أَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ )) [رواه أبو داود].
  • · قوله رحمه الله: ( قالَ الشّافعيُّ رحمه الله تعالى: لوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هٰذه السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ )

وقوله: ( رحمه الله ) فيه أدب رفيع، وقيام بحقّ أهل العلم، بأن يدعُو الطّالب لهم بالرّحمة. وهي دعاء، وليست خبرا، ومن أخطاء النّاس قولهم عن الميّت: المرحوم، أو المغفور له؛ لأنّ في ذلك جزما له بالرّحمة، وليس ذلك إلاّ الله. 

وكلمة الإمام الشّافعيّ رحمه الله في سورة العصر اشتهرت لدى أهل العلم، وأثنَوا عليها، وإنّما ساقها المصنّف رحمه الله لبيان عظمة هذه السّورة، وقوّة ما استدلّ به على المسائل الأربع.

وقد عرف السّلف لهذه السّورة وزنها، حيث روى الطّبراني في "الأوسط" والبيهقي في "الشّعب" بسند حسن عن أبي مدينة الدّارمي رضي الله عنه قال: كان الرّجلان من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا التقيا لم يفترقا حتّى يقرأ أحدُهما على الآخر:{وَالعَصْرِ إَنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍثمّ يسلّم أحدهما على الآخر" ["الصّحيحة" (2648)].

  • · قوله رحمه الله: ( وقال البخاريّ رحمه الله تعالى: بابٌ العلمُ قبلَ القولِ والعملِ، والدليلُ قولُه تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [محمد:19]. فبدأَ بالعلمِ [قبلَ القولِ والعملِ] ).

وكلمة البخاريّ رحمه الله قد سبقه إليها سفيان بن عيينة رحمه الله، فقد روى أبو نعيم في "الحلية" في ترجمته أنّه تلاها فقال: ألم تسمع أنّه بدأ به فقال:{اِعْلَمْ} ثمّ أمره بالعمل ؟

وكلّ ذلك - كما قال الحافظ رحمه الله - حتّى لا يسبق إلى الذّهن من قولهم:" إنّ العلم لا ينفع إلاّ بالعمل " تهوينُ أمرِ العلم والتّساهل في طلبه.

وقد بيّنّا أنّ قول المصنّف " قبل القول والعمل " ليست في البخاري.

***

قال رحمه الله:

اعلمْ - رحمك الله -: أنَّهُ يجبُ على كلِّ مسلم ومسلمة تَعَلُّمُ هٰذه الثّلاث مسائل والعملُ بهنَّ:

الأولى: أنَّ اللهَ خَلَقنا ورَزَقَنا ولم يتركْنا هملاً؛ بل أرسلَ إلينا رسولاً فمنْ أطاعَهُ دخلَ الجنَّةَ ومنْ عصاهُ دخلَ النّارَ. والدليلُ قولُهُ تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً} [المزمل:15-16].

الثّانية: أنَّ اللهَ لا يرضى أن يُشْرك معهُ أحدٌ في عبادتِه لا مَلَكٌ مُقَرَّب ولا نبيٌّ مُرْسَل، والدّليلُ قولُهُ تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].

الثّالثة: أنَّ مَنْ أطاعَ الرسولَ ووحَّدَ اللهَ لا يجوزُ لهُ مُوالاةُ مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَهُ ولو كان أقْرَبَ قريبٍ. والدّليلُ قوله تَعَالىٰ: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].

الشّرح:

هذا شروع في المقدّمة الثّانية بين يدي الأصول الثّلاثة، وهو وجوب تعلّم مسائل ثلاثٍ.

وافتتحها بما افتتح به المقدّمةَ الأولى، من التّنبيه على أهمّية ما يذكر بقوله ( اعلم )، وبالدّعاء للمتعلّم بقوله: ( رحمك الله ).

  • · قوله رحمه الله: ( على كلّ مسلم ومسلمة )، ليدلّ على أنّ معرفة هذه المسائل واجبٌ وجوبا عينيّا كذلك، وعطف المسلمة على المسلم للتّوكيد، وإلاّ فإنّه لو لم يذكر المسلمة لدخلت فيه، فقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ )) [رواه أبو داود والتّرمذي وأحمد].

ووجه التّوكيد في ذكر المسلمة أمران:

الأوّل: حرص أغلب النّاس على تعليم العقائد الذّكور دون النّساء.

الثاني: أنّ العقيدة الصّحيحة لا بدّ أن تُلقّن للصّغار كما تلقّن الحروف، وليس هناك من هو أقرب إلى الطّفل من والدته، فيمكنها أن تغرس أصول التّوحيد في قلب الصّغير منذ نعومة أظفاره. كما أنّها يمكنها أن تزلزل عقيدته وتخدش إيمانه.وكم من الخرافات والشّركيّات إنّما علِقت في الأذهان من تلقين النّساء لجهلهنّ.

وقد أجمع أهل الاختصاص بعلم التّربية والاجتماع أنّ نسبة 90 % من التّربية تتمّ في السّنوات الخمس الأولى. وهي السّنوات الّتي تتكوّن فيها شخصيّة الولد.

ولمّا أدرك الأعداء أهمّية ترسيخ العقائد في قلوب الصّغار حرصوا أشدّ الحرص على تعليم المرأة لأنّها أوّل وأقرب جليس لهم.

  • · قوله رحمه الله: ( تَعَلُّمُ هٰذه الثّلاث مسائل ): وفي نسخة:" هذه المسائل الثّلاث "، وهي أصحّ. وملخّص هذه المسائل:

الأولى: ربوبيّة الله تعالى، والثّانية: ألوهيّة الله عزّ وجلّ، والثّالثة: الولاء والبراء.

وتتمّة ما جاء في الرّسالة نأتي على شرحه لاحقا إن شاء الله.

:

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (05) الإقرار بالرّبوبيّة وبعثة الرّسل

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

قال رحمه الله: 

اعلمْ - رحمك الله -: أنَّهُ يجبُ على كلِّ مسلم ومسلمة تَعَلُّمُ هٰذه الثّلاث مسائل والعملُ بهنَّ:

الأولى: أنَّ اللهَ خَلَقنا ورَزَقَنا ولم يتركْنا هملاً؛ بل أرسلَ إلينا رسولاً فمنْ أطاعَهُ دخلَ الجنَّةَ ومنْ عصاهُ دخلَ النّارَ. والدليلُ قولُهُ تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً} [المزمل:15-16].

  • · قوله رحمه الله: ( تَعَلُّمُ هٰذه الثّلاث مسائل ): وفي نسخة:" هذه المسائل الثّلاث "، وهي أصحّ. وملخّص هذه المسائل:

الأولى: ربوبيّة الله تعالى، والثّانية: ألوهيّة الله عزّ وجلّ، والثّالثة: الولاء والبراء. 

  • · قوله رحمه الله: ( والعملُ بهنَّ ) تنبيه إلى أنّ الإيمان هو التّصديق الجازم بالقلب، والعمل. فلا بدّ من أن يتحرّك البدن بلازم هذا الإيمان. 

فإذا كان يعتقد المسلم أنّ الله هو خالقه ورازقه ومدبّر أموره فإنّه لا بدّ أن يوحِّده، ويواليَ من والاه، ويُعاديَ من عاداه. 

  • · قوله رحمه الله: ( الأولى: أنَّ اللهَ خَلَقنا ) أي: أوجدنا بعد أن لم نكن شيئا، قال تعالى:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}. 

والأدلّة العقليّة على ذلك أكثر من أن تُحصَى، منها قوله تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطّور: 35]، فلا يخلو وجود الإنسان من أحد ثلاثة أحوال:

إمّا أن يكون وُجِد من العدم {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ}، فالعدم ليس موجودا، فكيف يُوجِد غيرَه ؟! وفاقد الشّيء لا يُعطيه.

أو يكون خلق نفسه، وخلق بعضهم بعضا {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وهل يخلق الشّيء نفسَه ؟

فإذا بطلت هاتان المقدّمتان لم يبْق إلاّ أن يكون هناك خالق خلقنا.

  • · قال: ( ورَزَقَنا ): فإنّ الله تعالى حين خلق الخليقة سخّر لهم ما يُعِينُهم على تحقيق الغايةَ من الخلق، فرزقهم من الطيّبات، وآتاهم من كلّ ما سألوه، لذلك يربط الله دائما بين الخلق والرّزق، فيقول سبحانه:{اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الرّوم:40]، ويقول:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر:3].

وهذا النّوع من التّوحيد لم يُخالف فيه كفّار قريش، وأكثر أَصحاب الملل والدِّيانات؛ فكلُّهم يعتقدون أَنّ خالق العالم هو الله وحده؛ قال الله تبارك وتعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [العنكبوت من:61]، وقال:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) [المؤمنون].

وذلك لأَنّ قلوبَ العباد مفطورةٌ على الإِقرار بربوبيّته سبحانه وتعالى؛ ولذا فلا يُصْبِحُ مُعْتقِدُه مُوَحِّدا، حتّى يلتزم بالنّوع الثّاني من أَنواع التّوحيد، وهو ما سيذكره رحمه الله في المسألة الثّانية.

  • · قال: ( ولم يتركْنا هملاً ): الهمل هو الضّياع، والسُّدى والمتروك. ومنه الإهمال، وأصل الهمل: هي الإبل السّائبة.

وهَمَلتِ الإِبل وسابت، إذا لم يكن لها راعٍ، سواء تُرِكت ليلا أو نهارا، أمّا النَّفَش فهو الهمل بالنّهار، ومنه قوله تعالى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}.

  • · ( بل أرسلَ إلينا رسولاً ): فكما ضمِن الله تعالى للخلق الرّزق المادّي الزّائل، ضمن لهم الرزّق الرّوحي المعنويّ الدّائم. فأرسل إلينا إمام المرسلين، وسيّد النبيّين، وخير الخلق أجمعين.

والإيمان ببعثة الرّسل إيمان بحكمة الله ورحمته بالخلق، والّذي يستبْعِد بعثة الرّسل يكون قد طعن في الله عزّ وجلّ، إذ كيف يخلق الخلق ويتركهم هملا ؟!؛ لذلك قال:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام من: 91].

فإنكار الرّسل يُنافي حكمة الله تعالى البلاغة أن يخلق الخلق، ويجعل الإنسان في أحسن تقويم، ويُؤتيه العقل، ويخلُق الله السّموات والأرضين، والدّنيا وما عليها، ثمّ لا يكون شيءٌ بعد ذلك ؟! ويتركه هكذا دون أن يُؤمَرَ ولا ينهَى ؟! ولا يُبيّن له طريق الوصول إلى مرضاته ؟! قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} [المؤمنون] ؟! وقال تبارك وتعالى:{ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، وكان الشّافعيّ رحمه الله إذا قرأ هذه الآية قال: لا يُؤمر ولا يُنهَى.

  • · قال: ( فمنْ أطاعَهُ ) وذلك بتصديقه فيما أخبر، وامتثال ما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر؛ لأنّ الطّاعة هي الامتثال والموافقة والمتابعة.
  • · قال: ( دخلَ الجنَّةَ )، وقد روى البخاري عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى )) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنْ يَأْبَى ؟! قال: (( مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى )).

فالنّاس صنفان كما قال الله تعالى:{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}.

ودخول الجنّة على مراتب:

أعلى المراتب: من يدخلها من غير حساب ولا عقاب.

وأدنى من ذلك: من يدخلها بعد العرض.

ومنهم من يدخلها بعد الأعراف.

وأدنى المراتب: دخول الجنّة بعد أن يُطهّر في النّار بحسب أعماله، وهم أصحاب الكبائر من أهل التّوحيد، وشاء الله أن يُعذّبهم، ثمّ يُكرمه الله تعالى بشفاعة الشّافعين بإذن الله تعالى.

  • · قال: ( ومنْ عصاهُ دخلَ النّارَ ). كذلك دخول النّار على مراتب:

فأشقى النّاس: من مات على الكفر والشّرك، فهؤلاء قد حرّم الله عليهم الجنّة.

ودونهم من كان من أهل التّوحيد ممّن رجحت سيّئاته على حسناته، وشاء الله أن يُعذّبه، فهو في النّار بحسب أعماله، حتّى يأذن الله له في الخروج منها بفضله وكرمه.

  • · قال: ( والدّليلُ ) على هذه المسألة، وأنّ الله تعالى قد أرسل رسوله وأوجب اتّباعه.

( قولُهُ تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ ): وفي ذلك غاية التّشريف والتّعظيم، فمن آمن به حاز أعلى مراتب الشّرف والذّكر الحسن؛ كما قال تعالى:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10].

( رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ): ونكّر الرّسول للتّعظيم، والشّاهد معناه الّذين يشهد على من تبِعه وعلى من عصاه؛ فالرّسول حجّة الله على خلقه، قال تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النّساء: 165].

( كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً ): وإنّما لم يعيّن الرّسول المبعوث إليهم والمبعوث إلى فرعون للدّلالة على أنّ المقصود هو الرّسالة لا شخص الرّسول.

وخصّ فرعون بالذّكر دون غيره لوجوه ثلاثة:

أ) لمشابهة كفّار قريش لفرعون في سبب التّكذيب، وهو الكِبر، قال عزّ وجلّ عن فرعون:{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47]، وقال أهل مكّة:{لَوْلاَ نُزِِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزّخرف: 31].

ب) لأنّهم كانوا على علمٍ بأخبار فرعون وملكه أكثر من معرفتهم بأخبار غيره، والحكيم إذا أراد أن يَعِظ ويذكّر فإنّه يذكر المعلوم لا المجهول.

ونظيره قول ورقة بن نوفلٍ رضي الله عنه للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ))، مع أنّ ورقة كان رجلا قد تنصّر، فذكر موسى دون عيسى عليهما السّلام.

ج) للمبالغة في التّرهيب والتّخويف، فإنّ فرعون صار مضرب المثل في البأس والقوّة والملك، فإذا كان هذا الّذي بلغ من الملك والجبروت ما بلغ، قد أخذه الله تعالى ولم يُعجزه، فكيف بمن هو دونه ؟!

 

  

:

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (06) الإقرار بتوحيد الألوهيّة

[بعد الحمد، والتّذكير بما سبق]:

  • · قوله تعالى: ( فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ): وأتى بالألف واللاّم هنا، للتّعريف وأنّ فرعون عصى الرّسول المبعوث إليه، ومن قواعد كلام العرب: النّكرة إذا أُعيدت نكرة كانت غيرها، وإذا أعيدت معرفة كانت نفسها.
  • · لذلك لمّا كان ابن عبّاس رضي الله عنه يقرأ قوله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشّرح] يقول: ولن يغلِب عُسرٌ يُسرين.
  • · ( فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً ): قال ابن عبّاس رضي الله عنه: أي: شديدا.
  • · قوله رحمه الله: ( الثّانية: أنَّ اللهَ لا يرضى أن يُشْرك معهُ أحدٌ في عبادتِه لا مَلَكٌ مُقَرَّب ولا نبيٌّ مُرْسَل، والدّليلُ قولُهُ تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]).

وهذه المسألة غايةٌ للمسألة الأولى، فلمّا تضمّنت المسألة الأولى وجوب معرفة ربوبيّة الله تعالى، فكأنّ سائلا يسأل: فما العلّة من خلقِنا ورَزقِنا وإرسال الرّسول إلينا ؟ فيأتي الجواب: إنّما الغاية من ذلك هو عبادة الله وحده لا شريك له. 

فإذا أقرّ العبدُ بربوبيّة الله تعالى كان واجبا عليه أن يُذعِن له بالإخلاص في العبادة.

وقد روى التّرمذي في الحديث الطّويل في وصايا يحيى عليه السّلام الخمس: (( أَوَّلُهُنَّ: أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شيْئًا؛ وَإِنَّ مَثَلَ منْ أَشْرَكَ بِاللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ، فَقَال: هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي، فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ ! فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ ؟)). لذلك قال المصنّف رحمه الله:

- قوله: ( لاَ يَرْضَى ): وصفة الرّضا غير صفة الإرادة؛ فالرّضا نوع من أنواعها؛ ذلك لأنّ إرادة نوعان: 

أ) إرادة كونيّة: فلا يحدُث في كونه سبحانه إلاّ ما يريد، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكُن، وضابطه: أن يُمكِّن العبدُ من الفعل، أي: يستطيع.

ب) إرادة شرعيّة، وضابطها: الأوامر والنّواهي: افعل أو لا تفعل.

والشّرك واقعٌ في الكون بإرادة الله سبحانه؛ ولو شاء الله أن لا يكون ما كان، ولكنّه لا يرضاه، فهو لا يريده الإرادة الشّرعيّة.

قال الله تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزّمر من: 7]، وقال:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة من:3]، وفي صحيح مسلم والإمام أحمد - واللّفظ له - عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ )).

ومن لوازم صفة الرّضا المحبّة، فإذا رضِي الله عن عبده أحبّه، وهو غاية ما تصبو إليه الأنفس والقلوب والأرواح، كما قال بعض السّلف: ليس الشأن أن تُحِبّ ولكن أن تُحَبّ؛ فإنّ محبّة الله يدّعيها كلّ أحد.

  • · قوله رحمه الله: ( أن يُشْرك ) سواء الشّرك الأكبر أو الشّرك الأصغر.

والشّرك مأخوذ من الشّركة، فإذا أزلت الشّريك تكون قد جعلت خالصا، وإنّ من عادة النّاس أن يتّخذوا شركاء ليتكثّروا ويتقوّوا بهم، والله هو الغنيّ القويّ ليس بحاجة إلى شريك يشاركه في العبادة. 

لذلك روى مسلم عن أبى هريرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( قال اللهُ تبارك وتعالى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ )) وفي نسخة: ( وَشَرِيكَهُ ). أي: يأمر الله المشركَ يوم القيامة بأن يذهب إلى من أشركه مع الله فيلتمس منه الأجر. 

والشّرك ثلاثة أنواع:

1- شرك في الرّبوبيّة: كمن يُثبت للعالم خالقين، أو من يعتقد أنّ هناك مدبّرا للكون مع الله تعالى. وقد وقع طوائف في مثل هذا الشّرك عياذا بالله، فيعتقدون أنّ الوليّ الصّالح قد يخلق ! وقد يرزق ! بل قد يحيِي ويُميت ! وقد يردّ ملك الموت ! ومن جملة الاعتقادات الّتي انتشرت لدى غلاة المتصوّفة ما يُسمّى لديهم بديوان الصّالحين !

2- وشرك في الأسماء والصّفات: كأن يسمّى أحدٌ من الخلق أو يُوصف بما لا يليق إلاّ بالله تعالى.

3- وشرك في الألوهيّة، وهو المقصود بالمسألة الثّانية.

  • · قوله: ( معهُ أحدٌ في عبادتِه ): والعبادة في اللّغة هي غاية التذلّل والخضوع، تقول: هذا طريق معبّد، أي: مذلّل.

وفي الشّرع: هي اسمٌ جامع لما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظّاهرة. 

فالله لا يرضى أن تُصرف أيّ عبادة لغير الله أيّاً كان؛ لذلك قال:

  • · ( أحدٌ ) نكرةٌ في سياق النّفي فتفيد العموم، فتشمل الملائكة والجنّ والبشر، والجماد والحجر، والشّمس والقمر، وغير ذلك. لذلك أكّد هذا العموم:  
  • · قوله: ( لا مَلَكٌ مُقَرَّب ولا نبيٌّ مُرْسَل ): جملة للتّنبيه والتّحذير فذكر أحبّ وأقرب الخلق إلى الله تعالى، الّذين اصطفاهم على سائر العباد، وخصّهم بما لم يخصّ به غيرهم. 

فإذا كان لا يحلّ صرف شيء من العبادات إلى ملك مقرّبٍ ولو كان جبريل عليه السّلام، ولا إلى نبيّ مرسل ولو كان محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فكيف بغيرهما ؟!  

  • · قال رحمه الله: ( والدّليلُ قولُهُ تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}): 

والمساجد هي مواضع السّجود، أي: مواطن الصّلاة والعبادة، وكأنّ الله تعالى يقول لهم: إذا كنتم تعلمون أنّ المساجد لله، وتسمّونها بيوت الله، فلماذا تصرفون العبادة فيها لغيره، كما يفعل عُبّاد الأوثان، وعبّاد القبور ؟! 

ومنهم من قال: هي أعضاء السّجود؛ وعليه فالمقصود: إنّ هذه الأعضاء إنّما خلقها المولى تبارك وتعالى؛ فلماذا تسجدون بها لغيره ؟! 

و( تدعوا ): يُقصد بالدّعاء هنا العبادة، وفي سنن أبي داود والتّرمذي عن النّعمانِ بنِ بشيرٍ رضي الله عنهما عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) وَقَرَأَ:{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.

والدّعاء نوعان: دعاء المسألة، ودعاء الثّناء.

فدعاء المسألة: وهو الطّلب.

ودعاء الثّناء: وهو نداء المولى تبارك وتعالى دون ذكر مطلوب، ومنه ما رواه التّرمذي عن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو رضي الله عنه أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )).

وقد استشكل هذا الحسين بن الحسن المروزي، قال: سألت ابنَ عيينة عن دعاء عرفة فقلت: هذا ثناء وليس دعاء ؟! فقال ابن عيينة: قال: قال أميّة بن أبي الصّلت في مدح عبد الله بن جدعان:

أَأَذْكُـرُ حَـاجـَتِـي أَمْ قَـدْ كَفَـانِـي *** حَـيَـاؤُكَ إِنَّ شِـيمَـتَـكَ الحَـيَـاءُ 

إِذَا أَثْـنَـى عَـلَـيْـكَ المَـرْءُ يَـوْمًـا *** كَـفَـاهُ مِـنْ تَـعَـرُّضِـهِ الثَّـنَـاءُ 

قال سفيان: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثّناء عن السّؤال، فكيف بالخالق ؟

فإذا تقرّر وجوب توحيد الله تعالى في ربوبيّته، وألوهيّته، فلازم ذلك أن يُواليَ العبد المؤمنين، وأن يُعاديَ الكافرين، وذلك ما ذكره رحمه الله في المسألة الثّالثة.

 

  

  

 : 

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (07) الولاء والبراء من أصول الدّين

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقد تقرّر في المجالس السّابقة وجوب توحيد الله تعالى في ربوبيّته، وألوهيّته، فلازم ذلك أن يُواليَ العبد المؤمنين، وأن يُعاديَ الكافرين، وذلك ما ذكره رحمه الله في المسألة الثّالثة. 

  • · قال رحمه الله: ( الثّالثة: أنَّ مَنْ أطاعَ الرّسولَ ووحَّدَ اللهَ لا يجوزُ لهُ مُوالاةُ مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَهُ ولو كان أقْرَبَ قريبٍ. والدّليلُ قوله تَعَالىٰ: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].  

تضمّنت المسألة الثّالثة أصلاً من أصول العقيدة الإسلاميّة، ألا وهو: الولاء والبراء، وبيّن التّلازم بين هذه المسألة والمسألتين قبلها بـ: 

  • · قوله رحمه الله: ( الثّالثة: أنَّ مَنْ أطاعَ الرّسولَ ووحَّدَ اللهَ لا يجوزُ لهُ مُوالاةُ مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَهُ ولو كان أقْرَبَ قريبٍ ):

فقوله: ( من أطاع الرّسول ) وطاعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هي أن يوافقه ويتابعه وهو مختار. 

قال: ( ووحّد الله ): أي أفرده بالعبادة، ولم يُشرِك به أحدا كما سبق بيانه.

فالمصنّف رحمه الله يشترط هذه الأصلَ زيادةً على الشّهادتين، وأنّ الشّهادتين لا قيام لهما إلاّ بالأصل الثّالث.

قوله: ( لا يجوزُ لهُ مُوالاةُ ): أي: يحرُم.

- والولاء والموالاة: من ( الوَلْي )، وهو: القرب والدنوّ -كما في "لسان العرب"-، فتقول: هذا يلِي هذا، أي: يقرب منه، ومنه قولك: هذا أولى، أي: أقرب.

وأُطلق على المحبوب لقربه من المحِبّ، فأطلقته العرب على جماعة كثيرة: الربّ، والمالك، والسّيد، والمعتق، والمعتَق، والنّاصر، والتّابع، والجار، وابن العمّ، والحليف، والصّهر، والعبد.

قال ابن منظور رحمه الله:" ويلاحظ في هذه المعاني أنّها تقوم على النّصرة والمحبّة ".

أمّا الولاء شرعا: فهو النّصرة والمحبّة، وأن يكون المرء مع من يحبّ ظاهرا وباطنا.

- ويقابله البراء: وهو في اللّغة من الخلاص والتنزه والابتعاد، ومنه الاستبراء من البول أي التخلّص والتنزّه.

شرعا: هو البُعدُ والخلاص والعداوة.

  • · قال: ( من حادّ الله الله ورسوله ): والمحادّة: وقوع هذا في حدّ، وذاك في حدّ، كالمشاقّة، يقال: حادّ فلانٌ فلاناً، أي: صار في جانب والآخر في جانب آخر.

فالولاء للمؤمنين، والبراء من الكفّار والمشركين: من التّوحيد العمليّ الطلبيّ الّذي تضمّنته سورة الكافرون، فهو أصل من أصول الإسلام، وقد روى الطّبراني بسند حسن والبغويّ عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذرّ رضي الله عنه: (( أَيُّ عُرَى الإِيمَانِ أَوْثَقُ ؟)) قال: الله ورسوله أعلم. قال صلّى الله عليه وسلّم: (( أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ المُوَالاَةُ فِي اللهِ وَالمُعَادَاةُ فِي اللهِ، وَالحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ )). 

فقرابة الدّين أولى وأعظم وأوجب من قرابة النّسب؛ بدليل أنّه لا يرثُ المسلم الكافر ولو كان ولدَه، أو والدَه.

وقد أدرك الأعداءُ أنّهم لا يقدِرون على زعزعة الإيمان في قلوب المسلمين بالغزو والاستدمار، فراحوا يشنّون الغارة تلو الغارة على أصول الإيمان، ومن أخطر مخطّطاتهم تمييع قضيّة الولاء والبراء في قلوب المسلمين، بدءاً بطمس برامج تعليم الصّبيان، إلى الدّعوة إلى خلط الأديان.

ولكن هيهات .. فإنّهم إن استطاعوا طمس البرامج والمناهج، فهل يستطيعون طمس آيات الله الكثيرة، وأحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الوفيرة ؟ قال الشّيخ عبد العزيز بن عتيق رحمه الله:" أكثر النّصوص بعد الأمر بالتّوحيد هي نصوص الولاء والبراء ".

1- من ذلك:قوله تعالى:{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28]، فقد تبرّأ الله تعالى في هذه الآية ممّن يوالي الكفرة، وتأمّل كيف عبّر بالفعل {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} لاستهجانه، وتأمّل وجه تبرّؤ الله من الموالي للكفّار بقوله:{فَلَيْسَ مِنَ اللهِ}: أي إنّ الله بريء منه كقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا )).

فإذ لم يكن من الله فممّن هو ؟ جاء الجواب في:

2- قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].

وذكر ابن الجوزيّ رحمه الله في ذلك قولين:

أحدهما: من يتولّهم في الدّين، فإنّه منهم في الكفر.

والثّاني: من يتولّهم في العهد فإنّه منهم في مخالفة الأمر.

لذلك كانت الموالاة منها ما هو كفرٌ، ومنها ما هو فجور وفسق.

فالّتي تُعدّ كفرا: موالاتُهم في الدّين، والرّضا عن دينهم، وتفضيلهم على المؤمنين، ونشر دينهم أو تمكينهم من ذلك، وإعانتهم على قتل المسلمين.

والّتي تعدّ فجورا ما دون ذلك، كتقليدهم.

3- قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: من الآية118]. وبطانة الرّجل هم: خاصّته الّذين يستبطنون أمره، ويطّلعون على باطن أمره، ورحم الله القائل:

كلّ العداوات ترجى مودّتها *** إلاّ عداوة من عاداك في الدّين 

ثمّ بيّن تعالى المعنى الّذي لأجله نهى عن المواصلة فقال:{لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} يعني: لا يُقصّرون السّعي في إفسادكم؛ فإنّهم وإن لم يقاتلوكم في الظّاهر، فإنّهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة.

4- قوله عزّ وجلّ:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139]. فبيّن الله تعالى أنّ موالاة الكافرين من أبرز صفات المنافقين، وما ذلك إلاّ لانعدام يقينهم في الله عزّ وجلّ؛ لذلك قال:{أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} أي: المنعة وشدّة الغلبة.

5- قوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:144]، أي: إن تولّيتموهم جعلتم لله حجّة لتعذيبكم ومعاقبتكم.

6- قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57].

7- قوله عزّ وجلّ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23].

8- قوله جلّ جلاله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة من:1].

9- قوله تعالى:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].

10- قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13].

ومن الآيات ما ذكره المصنّف رحمه الله، فقال:

  • · قوله: ( والدّليل قوله تعالى:" لاَ تَجِدُ ": وعبّر بالخبر دون النّهي لتوكيد القيام بهذا الأصل، فلا يكون ولن يكون ذلك.
  • · ( قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ): أي: لا يجتمع الإيمان وحبّ أهل الكفر والشّرك في قلب عبدٍ أبداً. 
  • · ( يُوَادُّونَ ) من المودّة وهي شدّة الحبّ ( مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ): أي: حاربهما. وأكّد ذلك بضرب الأمثلة بأقرب قريب: 
  • · ( وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ ) فبدأ بالأصول لشرف المرتبة وتعظيمها ( أَوْ أَبْنَاءَهُمْ ) وثنّى بالفروع لشدّة حبّهم والميل إلى الرّحمة بهم ( أَوْ إِخْوَانَهُمْ ) وهم الحواشي الّذين تربط العبدَ بهم رابطة المحبّة والتّعاطف ( أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ): وهم القبيلة الّتي يتكثّر بها.
  • · ( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ ) أي: هؤلاء الّذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم {كَتَبَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} أي: نقشه في قلوبهم فلا يُمحَى {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} ثبّتهم وقوّاهم ببرهان منه ونور وهدى.
  • · ( وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ): أي يُدخلهم درا كرامته والنّعيم الأبديّ؛ لأنّهم تركوا النّعيم الّذي وعدهم به الأعداء، ويقرّبهم منه لطمعهم في قربه.
  • · ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ): وهذا من باب الجزاء من جنس العمل، فكما أنّهم قدّموا رضا الله على رضا غيره، أثابهم الله برضوانٍ منه.

روى التّرمذي أنّ معاويةَ رضي الله عنه كتب إلى عائشةَ رضي الله عنها أنْ: اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ ولا تكْثِرِي عليَّ، فكتبتْ عائشةُ رضي الله عنها إليه: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أمّا بعدُ، فإنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ )) وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.

  • · ( أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ): الفلاح كلمة جامعة للخير كلّه، مأخوذ من فلح الأرض؛ لأنّ الفلاّح يغرس ثمرة واحدة فيجني ثمارًا كثيرة طيبّة، فكذلك المؤمن يعمل حسنات قليلة فيجني الفوز في الدنيا والآخرة.

فمعنى ( الفلاح ): الفوز بالجنّة والبقاء بها. قال ابن أبي إسحاق:" المفلحون هم الّذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شرّ ما منه هربوا "، وقال آخر: " الفلاح هو الظّفر بالمطلوب، والنّجاة من المرهوب ".

ولمّا وقع المسلمون فيما نهاهم الله عنه وصاروا يوالون الكفّار والفجّار، ويعادون الأطهار والأبرار، أذاقهم الله تعالى ما ذاقوه من الذلّ والهوان، والخزي والحرمان، مصداقا لقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وفي " المسند" عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: ((.. وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ )).

وما أعظم كلمةَ الإمام أبي الوفاء بن عقيل رحمه الله وهو يبيّن أنّ هذا الأصل هو معيارُ للإيمان:" إذا أردت أن تعلمَ محلّ الإسلام من أهل الزّمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبّيك، وإنّما انظر إلى مواطأتهم أعداءَ الشّريعة، عاش ابن الرّاوندي والمعرّي عليهما لعائن الله ينظُمون وينثُرون، هذا يقول حديث خرافة، والمعرّي يقول تلوا باطلا وجلوا صارما، وعاشوا سنين، وعُظِّمت قبورُهم، واشتُرِيت تصانيفُهم، وهذا يدلّ على برودة الدّين في القلب " [" الآداب الشّرعيّة " لابن مفلح رحمه الله].

[يُتبع إن شاء الله].

 

  

  

 : 

 

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (08) مسائل في الولاء والبراء

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

من آثار ترك الولاء والبراء:

الكلمة الجامعة للأثر البالغ الّذي يُحدثه ترك الولاء والبراء قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]، قال ابن كثير رحمه الله:" أي: إن لم تُجانبُوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلاّ وقعت الفتنة في النّاس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين النّاس فسادٌ منتشر طويل عريض ".

فمن ذلك:

- اختلاط الحقّ بالباطل، والتّوحيد بالشّرك، والسنّة بالبدعة، والمعصية بالطّاعة.

- ترك الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله.

- إذا كانت الرّابطة غير رابطة الدّين كان ذلك بابا يدخل منه الكافرون، كرابطة القوميّة والقرابة.

من مظاهر البراء:

- عدم التشبّه بهم فيما هو من خصائصهم.

- عدم الاحتفال بأعيادهم.

- عدم الثّناء عليهم فيما هو من شعائر دينهم، وعاداتهم.

- عدم الاستعانة بهم في الحروب، وإدارة شؤون المسلمين كما في " أحكام أهل الذمّة ".

- عدم الإقامة بينهم.

- السّعي الكامل في إبطال دعوتهم.

- انقطاع التّوارث بينهم.

وليس من الولاء للكفّار ثلاثة أشياء:

فقد أخطأت في الولاء والبراء طائفتان:

الطّائفة الأولى: من أدخلت في الولاء والبراء ما ليس منه، فحصل منهم شدّة، فجعلوا من لازم بغض الكافرين وكرههم إساءة معاملتهم.

الطّائفة الثّانية: وهم من أخرج من الولاء والبراء ما هو منه، فحصل منهم تساهل وتمييع له؛ وهؤلاء تأثروا باللغة الإعلامية وبريقها، وما تنفخه الليبرالية الشهوانية في بوقها، من التهوين بالأصول الإيمانية، والدعوة إلى المساواة المطلقة، وإشاعة الأخوة الإنسانية، والتعايش مع الآخر، والانفتاح، والتسامح، والتعددية، ونبذ الطائفية، والقضاء على البغض والكراهية والتطرف والإرهاب والتزمت.

والصّواب أنّ هناك أمورا لا تُعدّ من الولاء والبراء:

- أوّلا: التقيّة، قال تعالى:{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: من الآية28].

والتقيّة لغة: من التّقوى والاتّقاء، كتخمة وتهمة.

وفي الشّرع هي ما رواه الطّبري عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:" التكلّم باللّسان وقلبه مطمئن بالإيمان ".

قال الحافظ رحمه الله في " الفتح" (12/314):" هي الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير، وتكون في حالة الضّعف وظهور الكفّار على المسلمين، وهي ليست منسوخة بآية السّيف "اهـ.

- ثانيا: المعاملة الحسنة:

لقوله تعالى:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، وهذا من سماحة الإسلام في الولاء والبراء، ومن مظاهر ذلك:

1) صلة الرّحم: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان: من الآية15]، روى البخاري ومسلم عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قالتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: أَفَأَصِلُ أُمِّي ؟ قال: (( نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ )).

2) ردّ السّلام: روى البخاري ومسلم عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: قال النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ )).

أمّا ابتداؤهم بالسّلام فلا، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ )).

أمّا قول إبراهيم عليه السّلام:{سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: من الآية47] فالجمهور على أنّ المراد بها المسالمة لا التحيّة، ثمّ هو شرع من قبلنا جاء ما يناقضه في شرعنا.

3) عيادتهم بشرط جلب مصلحة: روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قال: كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: (( أَسْلِمْ )) فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ ! فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ يَقُولُ: (( الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ )). 

وفي البخاري في قصّة أبي طالب حين حضرته الوفاة عرض عليه الإسلام.

4) لا يُجبر أحدٌ من الكفار الأصليِّين على الدّخول في الإسلام، قال الله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة 256].

5) أنّ لأهل الذمّة التنقّل في أي البلاد حيث شاءوا، بلا استثناء، إلاّ الحرم. ولهم سكنى أي بلد شاءوا من بلاد الإسلام أو غيرها، حاشا جزيرة العرب.

وهذا كُلّه محلّ إجماع. [" مراتب الإجماع " لابن حزم (ص 122)، و" أحكام أهل الذمّة " لابن القيم (1/175-191)].

6) حفظ العهد الذي بيننا وبين الكفّار، إذا وَفَّوْا هُمْ بعهدهم وذمّتهم، قال الله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4].

7) حرمة دماء أهل الذمّة والمعاهدين، إذا وَفَّوْا بذمّتهم وعهدهم.

قال صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ قَتَل مُعاهَدًا لَم يرَحْ رائِحَةَ الجَنَّةَ، وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَاماً )) [رواه البخاري].

وقال صلّى الله عليه وسلّم: (( أَيُّمَا رَجُلٍ أَمِنَ رَجُلاً عَلَى دَمِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ، فَأَنَا مِنَ القَاتِلِ بَرِيءٌ؛ وإِنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِراً )) [رواه أحمد].

8) الوصيّة بأهل الذمّة، وصيانة أعراضهم وأموالهم، وحفظ كرامتهم.

فقد روى مسلم في " صحيحه " عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:

(( إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا ))، وفي رواية الطّبراني والحاكم: (( إِذَا فُتِحَتْ مِصْرُ فَاسْتَوْصُوا بِالقِبْطِ خَيْراً، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِماً )) [وصحّحه الشّيخ الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع" (700)].

ومعنى قوله: ( لهم ذمّة ): أي: حرمة، وحقّ، والذِّمام: الاحترام، وليس المقصود أنّهم أهل ذمّة؛ لأنّه لم يكن لأهل مصر من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عهد سابق.

وقد عقد الإمام القرافي رحمه الله فصلاً لبيان الفرق بين الأمر بعدم موالاة الكفّار والأمر ببرّ أهل الذمّة منهم والإحسان إليهم، فقال في "الفروق" (3/15-16):

" وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة تعيَّن علينا أن نبرَّهم بكلّ أمر لا يكون ظاهرُه يدلّ على مودّات القلوب، ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدّى إلى أحد هذين امتنع، وصار من قبيل ما نُهي نهى في الآية وغيرها "اهـ.

- ثالثا: نكاح الكتابيّة: لأنّ في ذلك مصلحةً لإسلامها.

أنواع الولاء والبراء:

فقد تبيّن لنا أنّ الولاء والبراء من الإيمان الّذي هو عمل القلب، لأنّه قائمٌ على الحبّ في الله، والبغض في الله.

وإذا تحرّك القلب بالحبّ والبغض لزم منه ظهور أثره على الأفعال والأقوال؛ لما بين الظّاهر والباطن من التّلازم، فكان الولاء والبراء شرطا في الإيمان؛ لقوله تعالى:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:81].

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في كتاب " الإيمان ":

" فذكر جملةً شرطيّةً تقتضي مع الشّرط انتفاء المشروط، فقال:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ}، فَدَلَّ على أنّ الإيمان المذكورَ ينفي اتّخاذَهم أولياءَ ويُضادُّه، ولا يجتمع الإيمان واتّخاذُهم أولياءَ في القلب، ودلَّ ذلك أنّ من اتّخذهم أولياء ما فَعل الإيمانَ الواجبَ من الإيمان بالله والنبيِّ وما أُنزل إليه "اهـ.

أمّا مظاهر الولاء للكافرين من غير حبّهم ونصرتهم فهو فسوق، مخلٌّ بكمال الإيمان الواجب؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ أَحَبَّ للهِ، وَأَبْغَضَ للهِ، وَأَعْطَى للهِ، وَمَنَعَ للهِ؛ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ )) [رواه أبوداود وحسّنه الألباني].

فكان من أجل ذلك الولاء والبراء نوعان:

1) ولاء وبراء مطلق كلّي، فالولاء الكلّي واجب لكلّ مؤمن تقيّ، والبراء الكلّي لكلّ كافر غويّ.

2) وهناك ولاء وبراء نسبيّ، وهو خاصّ بالمؤمن العاصي أو المبتدع، فإنّه وإن كان فاسقا بمعصيته أو بدعته إلاّ أنّه ما زال في جانب الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - كما في " المجموع " (28/208)-:

" والمؤمن عليه أن يعادي في الله ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإنّ الظّلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]، فجعلهم إخوةً مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم، فليتدبّر المؤمن الفرق بين هذين النّوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر !

وليعلم أنّ المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فإنّ الله سبحانه بعث الرّسل وأنزل الكتب ليكون الدّين كلّه لله، فيكون الحبّ لأوليائه، والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه، والإهانة لأعدائه، والثّواب لأوليائه، والعقاب لأعدائه.

وإذا اجتمع في الرّجل الواحد خير وشرّ، وطاعة ومعصية، وسنّة وبدعة، استحقّ من الموالاة والثّواب بقدرِ ما فيه من الخير، واستحقّ من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشرّ، فيجتمع فى الشّخص الواحد موجِبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللّص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتّفق عليه أهل السنّة والجماعة "اهـ.

والله الموفّق لا ربّ سواه. 

 

 

  

  

 : 

 

من سلسلة: شرح الأصول الثّلاثة

العنوان

استماع المادة

تحميل المادة

تحميل الدّرس مكتوبا

- شرح الأصول الثّلاثة (09) ملّة إبراهيم عليه السّلام

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:

فقال المؤلّف رحمه الله:

( اعلَمْ - أرشدَكَ اللهُ لطاعتِه - أنَّ الحنيفيةَ: مِلَّةَ إبراهيمَ، أنْ تعبدَ اللهَ وحدَهُ مخلصًا له الدِّين، وبذلك أَمَرَ اللهُ جميعَ الناس وخلَقهم لها، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56ومعنى {يَعْبُدُونِ}: يوحِّدونِ، وأعظمُ ما أَمرَ اللهُ به التّوحيدُ وهو: إفرادُ اللهِ بالعبادة، وأعظمُ ما نهى عنه الشّركُ، وهو دعوةُ غيرهِ معهُ، والدّليل قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] ).

الشّرح:

هذا شروع في رسالة " الأصول الثّلاثة "، وهي المسائل والقضايا الّتي يُسأل عنها العبد في قبره، فإذا كان من القائمين بها، العاملين بمقتضاها كان من النّاجين المفلحين، وإن كان من المضيّعين النّابذين لها كان من الهالكين الخاسرين.

  • · قوله رحمه الله: ( اعلم - أرشدك الله لطاعته - ): فذكّر بوجوب العلم بما سيذكره حتّى يُقبل القارئ بقلبه وسمعه على قوله.

وأتى بتلطّف ثالث بالمتعلّم وذلك بالدّعاء له بالرّشد.  

- ( أرشدك ): الرّشد والرّشاد هو الصّلاح وإصابة الصّواب، وهو ضدّ الغواية والضّلال، قال تعالى:{قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}، والرّشد أيضاً ضدّ السّفه، ومنه الحجر على السّفيه حتّى يرشُد. 

وإنّما اختار في هذا المقام الدّعاء بالرّشد لأمرين اثنين:

لأنّ أعظم الرّشد هو أن يكون العبدُ موحّدا مسلما لربّه، قال تعالى:{فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجنّ: 14].

ولأنّه يذكّر ويدعو بملّة إبراهيم عليه السّلام، وقد قال تعالى:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة من: 130].

- ( إلى طاعته ) وطاعة الله هي: موافقة مراد الله امتثالا.

فيدعو المصنّف رحمه الله لقارئ الرّسالة بأن يوفّقه الله ويسدّد خطاه إلى امتثال أمره بأعظم طاعة وهي تجريد التّوحيد الصّحيح لله، واجتناب نهيِه وهو مقارفة الشّرك بالله. 

  • · قوله رحمه الله: ( أنَّ الحنيفيةَ: مِلَّةَ إبراهيمَ، أنْ تعبدَ اللهَ وحدَهُ مخلصًا له الدِّين ): 

- الحنيفيّة: من الحنف، وهو الاستقامة على القول الصّحيح؛ لأنّه شاع في تفسير كلمة ( الحنيف ) في قوله تعالى:{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ونحوه، أنّ الحنيف هو المائل عن الشّرك قاصدا التّوحيد، ومنهم من لا يذكر غيره. 

واستدلّوا على ذلك بأنّ ( الحنف ) هو الميل في الرّجل، ومنه قول أمّ الأحنف بن قيس:

واللهِ لولا حنفٌ برجله *** ما كان في فتيانكم من مثله

والحقّ أنّه يمكن أن يكون بمعنى المستقيم على التّوحيد، وذلك يستلزم الميل عن الشّرك، وبمعنى الاستقامة فسّره محمّد بن كعب القرظي وعيسى بن جارية كما في " تفسير ابن كثير ".

ولم يذكر الطّبريّ رحمه الله غيرَه، فقال:" وأمّا الحنيف فإنّه المستقيم من كلّ شيء. وقد قيل: إنّ الرجل الّذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى إنّما قيل له ( أحنف ) نظرا له إلى السلامة، كما قيل للمهلكة من البلاد "المفازة"، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة، وكما قيل للديغ:"السليم"، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك ".اهـ

وقال ابن قتيبة رحمه الله:" الحنف: الاستقامة، وسمّي الأحنف على سبيل التفاؤل، كما سمّي اللّديغ سليماً ".

وعلى كلا القولين فإنّ الحنيفيّة هي الاستقامة على التّوحيد. وكان كلّ من استقام من العرب على الحقّ ومال عن عبادة الأصنام يسمّى بالحنيفيّ، كقسّ بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل.

روى البخاري عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أنّ زيْدَ بنَ عمْرِو بنِ نُفَيْلٍ خرَجَ إلى الشَّامِ يَسْأَلُ عن الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ، فلَقِيَ عالمًا من اليهودِ، فسأَلهُ عن دِينِهِم، فَقَالَ:

إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ، فأَخْبِرْنِي. فقال: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ من غضبِ اللهِ ! قال زيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللهِ شَيْئًا أَبَدًا ! وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ ؟ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟

قالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا. قال زَيْدٌ: وَمَا الحَنِيفُ ؟ قال: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ.

فَخَرَجَ زَيْدٌ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فقال: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ منْ لَعْنَةِ اللهِ ! قال: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا ! وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ ؟ فهلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟

قال: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا. قال: وَمَا الْحَنِيفُ ؟ قال: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللهَ.

فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ في إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ، رَفَعَ يَدَيْهِ، فقال: اللّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ.

ووصف المصنّف الحنيفيّة قائلا:

  • · ( مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ): المِلَّة: الشّريعة والدّين وفي الحديث: (( لاَ يَتوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى )) [رواه أبو داود]، وتُطلق على السنّة والطّريقة.

وجميع الأنبياء على ملّة التّوحيد، والميل عن الشّرك، وإنّما خصّ إبراهيم عليه السّلام بالذّكر لأمور:

أ) أنّ الله تعالى قد خصّ نبيّه إبراهيم عليه السّلام بهذا الوصف في آياتٍ كثيرة.

ب) لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمِر باتّباع ملّة إبراهيم عليه السّلام.

ج)  أنّ ذلك إلزام للمشركين، واليهود والنّصارى؛ إذ جميع الملل والنِّحل كانوا يدّعون الانتساب إلى إبراهيم عليه السّلام، فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأقام عليهم الحجّة، وبيّن لهم أنّ ملّة إبراهيم هي تجريد التّوحيد لربّ العبيد.

لذلك قال تعالى:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135]، وقال:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} [آل عمران].

د) أنّ إبراهيم عليه السّلام أبو الأنبياء، فهو ثاني أولي العزم من الرّسل، وما من نبيّ إلاّ وطعنت فيه بعض الملل والنّحل، إلاّ إبراهيم عليه السّلام، ذكر ابن القيّم رحمه الله في " بدائع الفوائد " عن الإمام أحمد رحمه الله قال في قوله تعالى عن إبراهيم عليه السّلام:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت من: 27] قال:" الثّناء، يتولّى إبراهيمَ المللُ كلّها ".

  • · قوله: ( أنْ تعبدَ اللهَ ): وعبادة الله تعالى هي غاية الحبّ والتذلّل له، فمتى خلت العبادة من المحبّة كانت باطلة.

وهذا التّعريف للعبادة لا يخالف ما عرّفه به شيخ الإسلام رحمه الله، فهو حين قال:" اسم جامع لما يحيّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظّاهرة والباطنة "، فهو يشير إلى متعلّقات العبادة ولوازمها.

ومفهوم كلام المؤلّف رحمه الله: أنّ من لم يعبد الله لم يكُن على ملّة إبراهيم عليه السّلام. لكن، قد يعبُد الله ويعبد معه غيره، فقال:

  • · ( وحدَهُ ): أي: منفرِداً لا أحد معه.
  • · ( مخلصًا له الدِّين ): الإخلاصُ في اللّغة هو التَّصفيةُ والتَّنقيةُ من الشَّوائبِ والعيوبِ، قال تعالى:{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}.

واصطلاحاً: هو تَجريدُ العبادة والنِّيَّة لله عزّ وجلّ، حيث لا يُلتفتُ إِلَى الخلق، وإنَّما يقصد بِها الربُّ الحقّ سبحانه، وهو نوعان:

أ) فيُطلق الإخلاص فيقابل الشّرك الأكبر: قال تعالى{وَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} [العنكبوت]، وغير ذلك من الآيات.

وفي قصّة إسلام عكرمة بن أبي جهل في سنن النسائي أنّه:" رَكِبَ البَحْرَ، فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ، فقال أَصْحَابُ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا، فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا ! فقال عكرمةُ: واللهِ لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِي مِنْ البَحْرِ إِلَّا الإِخْلاصُ لا يُنَجِّينِي فِي البَرِّ غَيْرُهُ، اللّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدًا إنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أنْ آتِيَ محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ، فَلَأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا، فَجَاءَ فَأَسْلَمَ.

ب) ويطلق فيقابل الرّياء والشّرط الأصغر: كقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( ثَلاَثٌ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِىءٍ مُؤْمِنٍ: إِخْلاَصُ العَمَلِ للهِ، وَالمُنَاصَحَةُ لِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دُعَاءَهُمْ يُحِيطُ مَنْ وَرَائهم )).

لذلك كان لزاما على المؤمن أن يتعلّم مظاهر الشّرك اجتنابا للوقوع فيه.

فاشتراط الإخلاص في العبادة هو قطب التّوحيد، ومن عبد الله وعبد معه غيره، فإنّه ليس على ملّة إبراهيم عليه السّلام، فدلّ كلامه رحمه الله على أنّ التّوحيد، والملّة الحنيفيّة هي أن تُصرف جميع أنواع العبادات لله وحده، ولا يُشرك معه غيرُه.

  • · قوله رحمه الله: ( وبذلك ) أي: وبإخلاص العبادة لله، وبتجريد التّوحيد.
  • · ( أَمَرَ اللهُ جميعَ النّاس وخلَقهم لها، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}): قال أهل العلم: ولو قال: جميع الخلق، لكان أولى، ليوافق الدّليل المدلول عليه؛ ففي الآية ذكر الجنّ والإنس.

وفي الآية بيان علّة خلق الله للعباد، وعلّة ما سخّره تعالى لهم ممّا في السّموات والأرض جميعا منه، وعلّة ما يرزقهم به، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.

وهو ما عجز عن فهمه وإدراكه الفلاسفة، فجعلوا علّة الوجود من أعظم أسرار الكون، فقال قائلهم:

جئتُ لا أعـلم من أين، ولكني أتيتُ *** ولقد أبصرت قُدّامي طريقا فمـشـيـتُ

وسأبقى ماشيا، إن شئت هذا أم أبيتُ *** كيف جئت ؟ كيـف أبصرت طريـقي ؟

لست أدري !

فناسب أن يقال لهم: لا دريتم ولا تلوتم !

  • · قوله: ( ومعنى {يَعْبُدُونِ}: يوحِّدونِ ): هذا التّفسير يُروَى عن ابن عبّاس، وأصحّ منه ما رواه الطّبريّ رحمه الله عنه قال: إلاّ ليُقِرّوا بعبادتي طوعاً أو كرهاً. فالمعنى كما قال ابن كثير رحمه الله: أي: إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي، لا لاحتياجي إليهم.

قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُم الفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ}، وقال:{إِن تَكفُرُوا أَنتُم وَمَن فِي الأَرضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}.

فيدخل في العبادة: توحيد الله، ومظاهر العبادة القوليّة والفعليّة جميعها. فما خلق الله العباد ولا رزقهم إلاّ للقيام بهذا الواجب العظيم، وانظر إلى قد فرض الصّلاة أوّل ما فرضها خمسين صلاة في اليوم واللّيلة وكأنّ العبد لم يُخلق إلاّ لأَجل العبادة !

وروى الإمام أحمد عن أبي واقِدٍ اللّيْثِيِّ رضي الله عنه قال: كنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَيُحَدِّثُنَا، فَقَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ: (( إِنَّ اللهَ عزّ وجلّ قالَ:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ })).

وفي سنن التّرمذي عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إنَّ اللهَ تعالى يقولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ )). والتفرّغ: هو القيام بما خُلِق من أجله من إقامة العبوديّة: إقام الصّلاة، وسدّ حاجة المسكين، وإغاثة الملهوف، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والإصلاح بين النّاس، وغير ذلك.

وإنّما فسّر المؤلّف رحمه الله ( يَعْبُدُونِ ) بقوله: ( يوحّدونِ )؛ لأنّ التّوحيد هو أساس العبادة وأصلها، ودونه لا يقبل من العبد صرفٌ ولا عدلٌ.

فالكافر المشرك لم يحقّق الغايةَ الّتي خلق من أجلها.


 

 

  

  

 : 

الصفحة 1 من 2

Your are currently browsing this site with Internet Explorer 6 (IE6).

Your current web browser must be updated to version 7 of Internet Explorer (IE7) to take advantage of all of template's capabilities.

Why should I upgrade to Internet Explorer 7? Microsoft has redesigned Internet Explorer from the ground up, with better security, new capabilities, and a whole new interface. Many changes resulted from the feedback of millions of users who tested prerelease versions of the new browser. The most compelling reason to upgrade is the improved security. The Internet of today is not the Internet of five years ago. There are dangers that simply didn't exist back in 2001, when Internet Explorer 6 was released to the world. Internet Explorer 7 makes surfing the web fundamentally safer by offering greater protection against viruses, spyware, and other online risks.

Get free downloads for Internet Explorer 7, including recommended updates as they become available. To download Internet Explorer 7 in the language of your choice, please visit the Internet Explorer 7 worldwide page.