ولم يكد الإرهاب يطلّ برأسه حتَّى حطَّ الجيش الأمريكي والحِلْف الأطلنطي والكوري والأسترالي وجيوش أمريكا اللاتينية عندنا وحولنا، فسدّوا النَّوافذ وأغْلقوا المنافذ، واستوْلَوا على المضايِق والموانئ والمطارات والصحاري .. صاروا كالوحش في البلاد الإسلاميَّة الَّذي يزحف برًّا ويعوم بحرًا ويطير جوًّا .. لقد كان الإرهاب دعوة للحضور والإقامة الدَّائمة لأولئِك الّذين سلخوا منَّا أمْننا القومي، وسلبونا مجالَنا الجويَّ وزاحمونا في سيادتِنا على أرضنا.
الإرهاب خدم الصهْيَونيَّة العالميَّة المجرمة التي أَضحت تعطي دروسًا في السَّلام، بل وتشارك في مشاريع حفْظ الأمن مع من تخلَّوا عن الحرّيَّة والأرض والعرض ! ونالوا بدلها تزْكيةً بأن صُنّفوا من المعتدلين والشُّركاء في خيار السَّلام الاستراتيجي ! كما حوّل الإرهابُ الدَّوْلي بإعلامِه الدَّوْلي المقاومين والمجاهدين في سبيل الله حقَّ جهاده، وفق ضوابطه الشَّرعية، إلى متطرّفين وأصوليّين يَمنعهم من أداء الواجب القَريب قبل البعيد.
الإرهاب خدم العلمانيَّة الّتي انتفخت وانتفشت، بعدما كادت تُفارق الحياة في انهِزامات انتِخابيَّة لفظتْها فيها الشعوب المسلمة، فعادتِ الأحزاب العلمانيَّة والإلحاديَّة والتَّابعة للغرب، والَّتي لم تَحصل حتَّى على أصوات أصحابِها، عادت من جديد للواجهة لتقدّم نفسَها بديلا وحيدًا ضدَّ الظلاميّين والمتعصِّبين والمتخلِّفين، الَّذين يُريدون جرَّ البلاد والعباد إلى القرون الوسطى كما يقولون، بعدما أعاد لهم الإرهاب النطق، وقد أخرستْهم لسنواتٍ الجماهيرُ الَّتي نادت بالشَّريعة والشَّريعة وحدها، فأراد الإرهاب أن يُلغي الشَّريعة فشوَّهها بالإرهاب حتَّى انفضَّ عنها بعضُ دعاتها بالأمس.
الإرهاب كان سلاحًا فتَّاكًا بأيدي العلمانيّة، وكان بعضُ السُذَّج من جماعة المغفَّلين والمخْدوعين من المسلمين الطيِّبين، ظنّوا الإرهابَ سلاحاً بأيديهم، يقْضون به على المناوِئِين للشَّريعة، فإذا بكلّ ضربةٍ من ضربات الإرهاب تؤخِّر مشروع الشَّريعة إلى الوراء ثمَّ إلى الوراء، ثمَّ استفاقوا بعد غفلةٍ وقد وجدوا أنَّ بقايا ما كان عندَهم من الشريعة عُطل بالكلّيَّة، بل وأنَّ العلمانيَّة المعطّلة للشَّريعة باتت تهدِّدهم " بتعطيل " شُعَيْرَاتٍ على ذقونهم، وغطاءَ رأس نسائهم وبناتهم.
الإرهاب خدم الحاقدين الغربيّين، فقد كانت قبله عجلة الإسلام في الغرب تدور بسرعة، حيثُ لا تكاد الدَّوائر الإحصائية تستطيع إحصاء مئات الآلاف من النَّصارى والملاحدة واليهود والهندوس الَّذين يعتنقون الإسلام كلَّ ساعة، مع أنَّهم لم يتوقّفوا لحظة عن محاربة وتشويه الإسلام: بفعل أعدائه الَّذين يشنّون عليه حملة دعائيَّة نقديَّة ظالمة لا مثيل لها، وبفعْل كثيرٍ من أبنائه الَّذين يسيئون إليْه بسلوكِهم وأقوالهم صباح مساء، بشعور أو بلا شعور، ومع ذلك ترى الإسلام يرْبح يوميًّا مسلمين جددًا، يدخلون في دين الله أفواجًا، لا طمعًا في رغيف، أو قرص أسبرين، أو دنانير معدودات، أو تأشيرات يقدّمها لهم دعاة الإسلام.
وقد تتبَّعت بحرص موجات اعتِناق الإسلام المتتابعة، فبين يديّ الآن بعضُ قوائم المهْتدين الغربيّين والشَّرقيين من النّخبة، أنظر فيها فأرى الأطبَّاء والمحامين والصحفيّين والباحثين والمفكِّرين والجامعيِّين ومشاهير الفنّ والرّياضة وحتَّى رجال الدّين، وبالطَّبع إلى جانبهم من هو أقلّ من ذلك علمًا ودراية وثقافة ومستوى وشأنًا.
لقد أحزن هذا الحال الغربيِّين من عتاة الأعداء الحاقدين على الإسلام، ففكَّروا ودبَّروا فهداهم شيْطانهم إلى الإرهاب: الوسيلة المثلى التي تصُدّ النَّاس عن الإسلام والمسلمين .. السَّبيل الَّذي يوقف الانبِهار به والإعجاب بمبادئه السَّامية، فقالوا في أنفُسهم: لا يمكن أن نُبْعِدَ النَّاسَ عن هذا الدّين الَّذي يجذبهم كالمغناطيس إلاَّ بأن نعطّل مفعوله، فقالوا: لا حيلة لنا إلى ذلك إلاَّ بأن نخوّف النَّاس ونروّعهم ونهدّدهم في أرواحهم وأرْواح أولادهم وأهاليهم وأرزاقهم !
وليس هذا السبيل الخبيث ابتكارًا حديثًا في دنيا النَّاس، بل هو قديم قِدَم البشريَّة، لكنّ الجديدَ فيه ما يَليه ويتلوه، إنَّه تلك التَّغطية الإعلاميَّة المدروسة المخطّطة عقب كلّ انفجار ودمار، إنَّها تكنولوجيا الصّورة الملوّنة للدماء والأشلاء والدموع، الَّتي تخترق العقول والقلوب كالرّصاص فتحْدث فيها من الأثر السلبي ضدَّ الإسلام والمسلمين ما الله به عليم ! فنجحوا في معارك إعلاميَّة وأخرى سياسيَّة، وسيفْشلون في النّهاية لأنَّ الأرض يرثها المسلمون الموحّدون الصَّادِقون لا الإعلاميّون والسياسيّون الخائنون الكاذبون.
الإرهاب خدم المنصِّرين، بعدما جُمّدت أرْصدة المسلمين المتبرّعين والمزكّين والمتصدِّقين، وحُلَّت أشهر الجمعيَّات الخيريَّة الإسلاميَّة التي تعمل في الميدان لا في المكاتب، وقُيّدت حركة الدّعاة العاملين، فخلا الجو لغِرْبان التَّنصير لتصول وتجول في آسيا وأوربا دون منافس يُحسب له حساب.
بل إنَّ المنصّرين استطاعوا بالإرْهاب المميت الذي مسَّ النَّاس المساكين، أن يُقنعوهم بأن النَّصرانية ستجلب لهم الحياة بدل الموت، والسلم بدل الحرب، والمحبَّة بدل الكراهية، لقد استطاعت أخبار الإرهاب أن تغطّي وتضمد الجراح المتعفّنة للكنيسة التي ألْحقتها بها الفضائح الجنسيَّة في الأبرشيات والكاتدرائيات والأديرة ومدارس الأحد، حتَّى أضحى التعدّي الجنسي على الأطفال في تلك الديانة طقسًا من الطقوس التعبُّديَّة.
لقد خدم الإرهاب الشَّركات الغربيَّة العملاقة، بعدما دُمّرت الاقتِصاديَّات المحلّيَّة الإسلاميَّة، واستنزفت خزائن المال في دولنا التي صرفت المليارات على شراء الأسلحة لتكدّسها أو تستعملها في حربِها على الإرهابيّين .. لقد ضرب الإرهاب المشاريع الإنتاجيَّة والإنجازات الفرديَّة والجماعيَّة، وضرب الاستِقرار المالي والاقتصادي، ففرَّت الاستِثْمارات إلى البِلاد الآمِنة في الغرب، وبقِيَت دولُنا ترزح تحت خطِّ الفقْر، دول أراد لها الإرهاب أن تَعيش تابعةً للصدقات الأجنبيَّة، مرْهونة بالمساعدات الدوليَّة، مستسْلِمة لقرارات الهيْئات الأمميَّة، الَّتي يُسيْطِر عليْها الصهيوني والصَّليبي والملْحِد وكلّ حاقد على الإسلام، الَّذين اهْتبلوا الفرصة فربطوا كلَّ مساعدة بالتدخُّل في خصوصيَّاتنا وثقافتنا وهويَّتنا ودينِنا !
الإرهاب خدم المبتدعة بعدما أُلصق التطرُّف بأهل السنَّة والجماعة، فضُيِّق عليهم دائرة دعوتِهم النقيَّة التَّقيَّة، في حين فُسح المجال لكلّ مبتدع ضالّ متملّق وماسح للجوخ؛ ليعيدوا إلى الوجود بدعًا وضلالات وخرافات وجهالات مظْلمة، أطفأتْها السنَّة ببركة جهود العلماء الربَّانيّين، فبِفضل الإرهاب استنْسَر البغاث بأرضِنا حتَّى طاول العلماء !
وها هم اليوم يَجتمعون على اللَّمز والنَّقد والسَّبّ في الدَّعوة العالمية لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، وما علموا أنَّه لولا الله ثمَّ دعوة الشَّيخ المباركة لكانوا اليوم هم وأتباعهم عبَّاد أصنام وأحلاس قبور ومسبّحين بعظام ورمم أوليائِهم الصَّالحين والطَّالحين.
كان لتِلك الآثار المدمّرة كلِّها بالغُ الألم والضّيق وشظف العيْش على المواطِن المسلِم، لكنَّها كانت أشدَّ على الشَّباب الذي شعر بأنَّه قد دُمّر مستقبله وقوّض طموحه، فأضحى حلْمه الوحيد تأشيرة سفَر تتصدَّق بها عليه إحدى السّفارات الغربيَّة، أمَّا آخرون من اليائِسين فباتوا يلْقون بأنفُسهم في البحر المتوسّط والمحيط الأطلنطي، على قواربَ بلاستيكيَّة أو خشبيَّة، حلمًا في بلوغ شاطئ الأمان والخلاص في الضفة الأخرى؛ حيث يقْطن الذين استعمرونا بالأمس قرونًا ومنحونا الجنسيَّة حينها، فأبى آباؤُنا وأجدادُنا وطردوهم، هم وجنسيَّتهم كالطَّاعون.
إنَّهم فتية يقفزون في البحْر والمحيط فرارًا بأرواحهم من وضعيَّة هم أشبه فيها بالموتى؛ لأنَّ أوطانهم أضحت جحيمًا لا يطاق، غير آبهين بالموت الَّذي ينتظر أكثَرَهم في باطن البحر أو بطْن الحوت، ولسان حالهم ينشد:
أَلا مَوْتٌ يُبَاعُ، فَأَشْتَرِيـهِ *** فَهَذَا العَيْشُ مَا لا خَيْرَ فِيهِ
أَلا مَوْتٌ لَذِيذُ الطَّعْمِ يَأْتِي *** يُخَلِّصُنِي مِنَ العَيْشِ الكَرِيهِ
إِذَا أَبْصَرْتُ قَبْرًا مِنْ بَعِيدٍ *** وَدِدْتُ لو انَّنِي مِمَّا يَلِيـهِ
أَلا رَحِمَ المُهَيْمِنُ نَفْسَ حُرٍّ *** تَصَدَّقَ بِالوَفَـاةِ عَلَى أَخِيهِ
صحيح أنَّ هذا الحال لا يعمّ المنطقة الإسلاميَّة كلَّها، إلاَّ أنَّه لم تسلم دولة مسلِمة من آثار الإرْهاب قلَّ منه أو كثر، ومَن لم تلحقه جَميع الطَّعنات فليعتبر بأخيه قبل أن تدركه بقيَّة الضَّربات.
كما أنَّ هناك أنَّ شبابًا في دول إسلاميَّة أخرى لا يفكِّر بالهرب الجسدي عبر البحار والمحيطات، لكن ما لا يُقرّه كثيرون أنَّ أولئك الشَّباب قد فرّوا بعقولِهم وأرواحهم ونفوسِهم إلى الضفّة الأخرى منذ زمن بعيد، أجسادُهم هنا وعقولهم هناك، عبر الفضائيَّات التي غيَّبتهم عن واقعهم، ومن خلال الشَّبكة العنكبوتيَّة العالمية التي أسرَتْهم بين خيوط العناكب، فطاب لهم المقام في الفضاء الافتِراضي، يُشْبِعون حاجاتهم ورغباتهم بعيدًا عن الواقع المرير الَّذي فرُّوا منْه بسبَب تداعيات الإرهاب بأشكالِها كافَّة.
هذا هو حال الإرهاب معنا - نحن المسلمين - كلَّما رفعنا رؤوسَنا بالَّتي هي أحسن، أو قامتْ لنا قائمة بالَّتي ليستْ هي أخشن، أو أنجزْنا إنجازًا يُحسب لنا ولدينِنا، فجَّروا لنا تفجيرًا مدوِّيا في نيويورك، أو لندن، أو مدريد، أو في عاصمة من عواصم العالم الإسْلامي كالجزائر، والدَّار البيضاء، والقاهرة، والرّياض، وعمان، وإسطنبول، وكراتشي، وكوالا لمبور... والقائمة طويلة.
وبعد كلّ تفجير يذهب ضحيَّتَه الأبرياءُ، تنطلق ألسِنة الصّحف وأصوات الإذاعات وصور الفضائيَّات تتَّهم الإسلام وكلّ مظهر يرتبط به، فلا يسلم العُلماء والهيئات والجمعيَّات، والدّعاة والخِطاب الديني، واللِّحى والجلباب والنِّقاب، والقرآن والسنة، والسّواك وتعدّد الزَّوجات والشَّريعة، والمساجد والمنابر والمنارات والخطباء ... إلخ، كلّ ذلك في خانة الاتّهام ودائرة الرّيبة يجب أن يُحاصر ويضايق ويمنع ويراقب.
نعم، نحن - المسلمين - ضحايا الإرهاب؛ لذلك فربُّنا يُبغضه، وشرعنا لا يقرّه، وتاريخنا لا يعرفه، فلماذا يريدون منَّا أن نتبنَّاه أو ندافع عنه ؟
نبرأ إلى الله منْه، مهْما زيَّنوه أو فبركوا أدلَّة على أنَّنا منفّذوه، أو ارتكبه مَن خدعوه ممَّن يزعُم أنَّه منَّا خرج؛ لأنَّه بفعله الأرْعن عنَّا وعلينا خرج.
لا، لسْنا إرهابيّين، ولم نكن، ولن نكون .. نحن دعاة حياة كريمة .. نريد الخير للبشريَّة جمعاء بأن توحّد الله وتعبده وحده لا شريك له، وتستن بسنَّة نبيّه صلَّى الله عليه وسلَّم بلا إكراه، نتعاون مع الجميع، مسؤولين وغير مسؤولين، لتحقيق ذلك، ننشُر الهداية بين الجميع، وسبيلنا في ذلك الحجَّة البالغة والبرهان القاطع والكلِمة الطيّبة والإعلام النَّظيف، وغيرها من نشاطات الدعوة الحكيمة، لا نظلم مسلمًا ولا كافرًا.
نحن بناة حضارات عريقة، نحن مشيّدو دول نشرت العلوم والمعارف، يوم كان الغرب يرزح تحت إرْهاب القرون الوسطى المظلم، هيهات أن نكون أمثالهم، لأنَّنا نملك ما لا يَملكون: القرآن والسنَّة اللَّذَيْن يبيّنان لنا السَّبيل القويم والطَّريق المستقيم.
إنَّها رسالة من القلب إلى القلوب الواعية التي لا تزال تنبض بالإسلام لتدرك خطر الإرْهاب على المسلمين ودعوتهم، وليكن واجب الجميع دعم الإسلام السنّي النَّقي التَّقي، ضدَّ بلاء الإرهاب الَّذي ابتكره أعداؤنا واختبروه في ساحاتِنا واتَّهمونا بأنَّنا صنَّاعه.
وحتَّى أمثالي من المساكين أصحاب الأقلام، الَّذين ينحون هذا المنحى في التَّحليل لظاهرة الإرهاب الَّذي صنعه أعداء الإسلام واتَّهمونا به، فقد صنعوا لنا إرهابًا فكريًّا معلّبًا آخر ومارسوه ضدَّنا، وهو زعمهم أنَّنا " متورطون " ومُدَانُون بانتِمائِنا إلى جماعة المؤمنين والمصدّقين بنظريَّة المؤامرة، فحسبنا الله ونعم الوكيل، ونسأله تعالى أن يحفظنا من مؤامراتهم.