وكقولِه ﷺ جواباً لسؤالِ عائشةَ ڤ: نرى الجهادَ أفضلَ العمَلِ، أفلاَ نُجاهِدُ؟ فقال ﷺ: (لكِنْ أفضَلُ الجِهَادِ حَجٌّ مبْرُورٌ).
ولهذا، فقد أتبعَ بعضُ العلماءِ الحديثَ عنِ الحجِّ بالحديثِ عن الجهَادِ، كما فعل الإمامُ النّوويُّ $ في أشهرٍ كتبه: «رياض الصّالحين».
ففي كلاَ الأمرين: الحجِّ والجهَادِ، يخرجُ المسلمُ من حظِّ الدّنيا ويتركُ الأهلَ والولدَ والدّيارَ، ويتعرّضُ للصِّعاب والمشقّاتِ، وتفرِضُ عليه العبادةَ الزّهدَ في الدّنيَا من ملبَسٍ ومأكَلٍ ومشرَبٍ، ويقتربُ بنفسِه وبقلبِه من يومِ القيامةِ والدّارِ الآخرةِ.
وفي كلا الأمرين: يرَى المسلمُ نفسَه متّبِعاً لخُطُوات نبيِّه ﷺ وخطُواتِ الصّدرِ الأوَّلِ: إمّا في المكانِ كما هو حالُ الحاجِّ، أو في الهديِ والطّريقةِ والسّبيل كما هو في الجهَادِ ...
جاءنِي هذا الغلافُ الّذي ترَوْنَهُ لهذا العددِ .. فدارَتْ رأسِي حقّاً، وأنا أتأمّلُ وجهاً جديداً من الشَّبهِ والقُربِ لم أنتبه إليه:
1) هذه الخيامُ الّتي ينزِلُها الحُجَّاجُ، ما أقربَ مشهدَها بالخِيَامِ الّتي يأوِي إليها النّازحُون المشرَّدونَ الّذين أفلَتُوا من نيرَانِ العدُوِّ الصُّهيُونِي وجحيمِه!
2) وهذا الاغترابُ عن البيوتِ والدِّيارِ، ما أقربَ الشّبهَ فيه بين حاجٍّ وبين لاجِئٍ: كلاهما قد فارقَ أهلَه، واستبدل بِهم أهلاً وجيراناً آخرينَ!
3) وما أقربَ القائمينَ في هذه الخيامِ ممّن يَعِظُون أهلَها عن المناسِك والعبادةِ بالذِّكرِ، بالقائمينَ في خِيامِ النّازِحين، يعِظُونَهم في الصّبرِ والثّباتِ والاستِبْشَارِ بنعِيمِ الجنّةِ، وبالثّوابِ العظيمِ الّذي كتبهُ الله للمجاهدِين وأهلِهم الصّابرين الثّابتين.
هذه مشاهدُ القُربِ .. ولكنْ - كما قيل -: ما أقربَ ما بينهمَا وما أبعدَه!
فهذه الخيامُ ما أقربَها في الشّبَهِ، ولكن ما أبْعَدَ ما بين الخيمتيْن من وسائلِ الرّاحةِ!
وما أبعدَ ما يشعرُ بهِ النّازلون فيها من الأمْنِ ومنَ الخوفِ!
وما أبعدَ الأملَ الّذي يُرفرِفُ على خيامِ الحُجّاج من الكربِ الّذي يُخَيِّمُ على خِيام اللاّجئين!
ما أبعدَ ما بين خيمةِ الحُجّاجِّ فيما مُهِّد لها من الطُّرقِ ومن الخدمةِ وما بين خيمةِ اللاّجئِ الّتي يُعانِي فيها من الحصُولِ على الطّعامِ القليلِ، والماءِ الشّحيحِ، وضروراتِ الحياةِ البسيطةِ الّتي يحتاجُها كلُّ كائنٍ حيٍّ!
...
وبينَ المشهدَيْنِ المُتشَابهيْن والمتباعديْن، اختارَ صاحبُنا الفنّانُ أن يكتبَ قولَه تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]. فيَا لحُسْنِ هذا الاختيارِ!!
كأنّما استدارَ الزّمانُ على هيئتِه مرّةً أخرَى، وتقلّبت صفحاتُ اليومِ ليُشبِهَ آخرُها أولَّها:
* ففي ذلكَ الزّمنِ البعيدِ، نادَى بها إبراهيمُ يسألُ اللهَ أن يُنقذَ زوجَه وابنَه المحرُومَيْن المحتاجَيْن في أرضِ الجدْبِ والصّحراءِ، فما أشبَهَ ذلكَ بحرمانِ المُحاصَرين الّذين أُغلِقَت عليهم المنافذُ والمعابِرُ، حتّى صارَ الطّعامُ والشّرابُ أثمنَ ما يحتاجونَ إليه!
* ما أشبَهَ الكربَ الّذي كانتْ فيه هاجَرُ وابنُها الرّضيعُ إسماعيلُ بالكَرْبِ الّذي فيه الآنَ أهلُ غزَّةَ: لاَ نصيرَ، ولا ظَهيرَ، ولا أَنيسَ، ولا رَفيقَ! كم في غزّةَ الآن من امرأةٍ تشبِهُ أمَّنا هاجرَ، تضربُ الأرضَ وتأكلُها الحيرَةُ بحثاً عن شيءٍ تطعمُه ابنَها الصّغيرَ الّذي يوشِك أن يموتَ من الجوع؟!
وقدِ استجابَ اللهُ دعوةَ إبراهيمَ عليه السّلام، فهذه الخيامُ الكثيرةُ الّتي نراهَا في الحجِّ هي دليلُ الإجابةِ لذلكَ النّداءِ القديمِ البعيدِ، فلقد أقبلَتْ الأفئدةُ تَهوِي إلى البيتِ العتيقِ، ومنها ستصدَحُ الحناجِرُ بالدّعاءِ للمجاهدِين والنّازحين في غزّةَ، وعسَى الله أن يُقِرَّ أعيُنَنَا فيستجيبَ! ونرى المواكبَ تسيرُ إلى غزّةَ ومنها إلى المسجد الأقصَى، تلبِّي وتكبِّرُ وتتلُو آياتِ الفتحِ المبين!
وتأمّل - أخي القارئ - في أنَّ إبراهيمَ عليه السلام حينَ دعَا ربَّه: لم يبدأْ بطلبِ الطّعامِ والشّرابِ، بل بدأَ بطلبِ الأُنسِ والرُّفقةِ والصُّحبةِ، طلبَ أن تَهوِي إليهم الأفئدةُ .. أن تذهبَ إليهم القلوبُ، ثم أردفَ بطلبِ الرّزقِ من الطّعامِ والشّرابِ، قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ}... فلمّا أجابه الله تعالى أخرجَ لهم الرّزقَ: ماءَ زمزم، ثمّ جاء لهم بالنّاسِ!
لكنّ الوقفةَ هنا هي في قولِ إبراهيمَ عليه السلام: {أَفْئِدَةً}..
وقد ذكرَ المفسِّرون أنّ {أَفْئِدَةً} يمكنُ أن تكونَ جمعاً لكلمةِ (وفود)، أو تكونَ جمعاً لكلمة (فُؤاد).. فالمعنى قد يكون: اِجعلْ وفوداً من النّاس تحِنُّ إليهم، وقد يكون: اِجعل قلوباً من النّاس تَحِنُّ إليهم.
ولا يتعارضُ المعنيان؛ فلربّما حنَّتِ القلوبُ وعجزتْ الأجسادُ كما هو حال من لم يستطِعْ أن يحُجَّ ومن لم يستطع أن يُغِيثَ غزّةَ في كربِها، فعجزت الوفود عن الوفود! ولربّما قسَتْ القلوبُ فلم تَحِنَّ ولم تَهْوِ؛ فذلك هو الكفرُ والجحودُ والإعراضُ عن أمرِ الله بالحجِّ، وذلك هو الخيانةُ والخِذلانُ والإعراضُ عن أمرِ الله بنُصرةِ المسلمين المستضعَفين المكروبينَ.
ولهذا استعاذ نبيُّنا ﷺ، وعلَّمنَا أن نستعيذَ في كلِّ صباحٍ ومساءٍ من العجزِ والكسَلِ .. فالعجزُ هو وجودُ الإرادةِ وافتقادُ القدرةِ، والكسلُ هو وجودُ القدرةِ وافتقادُ الإرادة!
نعم، المعركةُ معركةُ قلوبٍ في المقامِ الأوّلِ، ثمّ هي معركةُ قدرةٍ في المقامِ الثّانِي .. وبهما يكون الظّفْرُ، وقد قالَ الشّاعرُ الّذي وجدَ القدرةَ ولم يجدِ العزيمةَ:
( وما تنفعُ الخيلُ الكرامُ ولا القَنَا إذَا لم يكنْ فوقَ الكرامِ كرامُ )
وقال الآخرُ الّذي وجدَ العزيمةَ وفاتته القدرةُ:
( لا تلُمْ كفِّي إذا السّيفُ نَبَا صحَّ منِّي العزمُ، والدّهرُ أبَى )
ولئن كانَ حُجّاجُ بيتِ الله الحرامِ قد أكرمَهم الله بالقدرةِ والهمَّة، فها هي الأمّةُ كلُّها تقفُ عاجزةً أمامَ إخوانِهم في غَزَّةَ، بلْ كثيرٌ من قلوبِ غيرِ المسلمين تحرّكت لأجلِ غزّةَ وما استطاعت أن تُغيثَها حتّى الآن بما ينفعُ!
وهذا هو المشهد:
* قومٌ يملكون أن يفعلُوا، ولكنّهم قلوبٌ قاسيةٌ لا تلينُ ولا تحِنُّ، هي قلُوب الأعداءِ المجرمِينَ من الصّهاينةِ، وقلوبُ من يسانِدُهم من الغربِيِّين والأمريكان، ثمّ قلوبُ من يخدُمُهم من أنظمةِ الخيانَةِ والعَمالةِ..
قلوبٌ لا تؤثِّر فيها الدّماءُ ولا الدّمُوعُ ولا الأشلاءُ .. قلوبٌ من الصّفوانِ الصّلدِ الصُّلبِ!
قلوبٌ وصفها الله تعالى بقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].
* وقومٌ لا يملكُون أن يفعلُوا مهما تقطّعتْ قلوبُهم وتمزّقَت أحشاؤُهم، وضاقت عليهم نفوسُهم وضاقت عليهم الأرضُ بما رَحُبَت.
ومنهم من تعرّضَ في سبيل نُصرة غزَّة بالكلمة والتّغريدةِ ورفعِ العَلمِ والهُتاف، إلى السّجنِ والتّنكِيل والحِرمانِ من شهادتِه الجامعيّة ومن العمل ... إلخ!
بل منهم من قُتِل كما وقعَ قبلَ يومين من كتابةِ هذا المقال منَ الجنودِ المصريِّين الّذين أطلقُوا النّار على قوةٍ إسرائيليّةٍ عند معبَرِ رَفَحَ، فنشبت معركةٌ استُشهِد فيها جنديّانِ.
لقد شرعَ الله هذه العباداتِ الجامعةَ لمقصِديْن كبيريْن:
تطهيرُ القلبِ، والشّعورُ بوَحدةِ الأمّة.
فالمرءُ المسلمُ حينَ يُصلِّي فيعرفُ أنّه في نفسِ هذا الوقتِ يُصلِّي المسلمون مثلَه حولَ العالَم، وحينَ يصومُ رمضانَ فيعرفُ أنّهم يصومون مثلَه في نفسِ هذا الشّهرِ حولَ العالَم، ثمّ هو حينَ يحُجُّ يرى إخوانَه وقد جاؤُوا إلى هذه البُقعةِ ذاتِها من كلّ فجٍّ عميقٍ! في كلّ عبادةٍ من هذه يتقاربُ المسلمون؛ بدايةً من أهلِ الحيِّ الواحدِ الّذينَ تجمعُهم الصّلواتُ الخمسُ، وحتّى أهلُ المعمورةِ كلُّها حين يجمعهُم البيتُ الحرامُ.
وليسَ يمكنُ أن يوجدَ مسلمٌ يلتزِمُ بدينِه، ثمّ هو لا يشعُرُ بإخوانِه المسلمين حولَ العالَم، فكيف إذَا كانت مآسِي المسلمينَ قد أيقظَتْ من كان في قلبِه مثقالُ حبّةٍ من خردَلٍ من فِطرةٍ ولو كان كافراً ؟!
إذا لم تَهْوِ أفئدةُ المسلمينَ الآنَ إلى غزّةَ وإلى السُّودانِ وإلى المسلمينَ في الهندِ وفي بُورمَا وفي تُركِستانَ، فأين ستهوِي وأين ستذهبُ؟!
وإذا هَوَتِ الأفئدةُ والتقتْ الوفودُ، فهل يُعقلُ أو يُقبلُ أن يمضِيَ هذا الاجتماعُ وينفضَّ كأن لم يكنْ؟!
ما كانَ هكذا حجُّ المسلمين منذ زمانِ نبيِّهِم ﷺ، بل كان الحجُّ هو مؤتمرَ المسلمين الأكبرُ، وهو مشهدُهم الأعظمُ، وهو ملتقاهمُ الأضخمُ، فمن أكرمه الله بالحجِّ فلا يفوِّتْ هذه الفرصةَ في نصرةِ إخوانِه المكروبِينَ، ومن لم يكن من أهلِ الحجّ في هذا العالَم فليعلمْ أن واجباً أعظمَ من الحجِّ في انتظارِه: وهو واجبُ نصرةِ المسلمين المستضعَفين المظلومين! وكلُّ امرئٍ أعلمُ بما يستطيع!
فإذا صدقَتْ الأفئدةُ، الّتي هي القلوبُ، ظهر هذا في العملِ، كما قيل: من صحّ منه العزمُ أُرْشِدَ للحيلِ، وهو مأخوذ من قوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ومن قولِ نبيِّنا ﷺ: (ألاَ وإنَّ في الجسَدِ مُضغةً، إذَا صلَحَتْ صلَحَ الجسَدُ كلُّهُ، وإذا فسَدَتْ فسَدَ الجسَدُ كلُّهُ، ألاَ وهيَ القلبُ).
كذلكَ إذا صدقتِ الأفئدةُ، الّتي هي الوفودُ، ظهرَ ذلك في الظّفْرِ، وقد قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ( 174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 174، 175].