وفي رواية: (( مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ المَقْدِسِ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذًّنًوبِ )) وغير ذلك من الرّوايات.
وقد استُدِلّ بهذا الحديث على جواز الإحرام قبل الميقات، قال السّندي رحمه الله بأنّه: ( يدلّ على جواز تقديم الإحرام على الميقات ).
والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه:
الأوّل: إنّ الحديث لا يصحّ.
الثّاني: لو صحّ لكانت دِلالته أخصّ من ذلك.
بمعنى أنّه إنّما يدلّ على أنّ الإحرام من بيت المقدس خاصّة أفضل من الإحرام من المواقيت، وأمّا غيره من البلاد؛ فالأصْل الإحرام من المواقيت المعروفة، وهو الأفضلُ؛ كما قرّره الصّنعاني في "سبل السلام" (2/268-269).
هذا على فرض صحة الحديث، أما وهو لم يصح كما رأيتَ؛ فبيت المقدس – أعاده الله على المسلمين بخير - كغيره في هذا الحكم.
الثّالث: أنّ خير الهدي هديُ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فهو سنّ المواقيت لأهلها، ومضى السّلف على ذلك، فقد روى البيهقي كراهة الإحرام قبل الميقات عن عمر، وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم، وهو الموافق لحكمة تشريع المواقيت.
وما أحسن ما ذَكَرَ الشاطبي - رحمه الله - في "الاعتصام" (1/167)، ومن قبله الهروي في "ذمّ الكلام" (3/54/1) عن الزبير بن بْكَّار قال:
حدّثني سفيان بن عيينة قال: سمعت مالك بن أنس - أتاه رجل - فقال: يا أبا عبد الله ! من أين أُحرِم ؟
قال: من ذي الحليفة، من حيثُ أحْرمَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فقال: إني أريد أن أُحْرِم من المسجد من عند القبر.
قال: لا تفعل، فإني أخشَى عليك الفِتنة !
فقال: وأيُّ فتنة في هذهِ ؟ إنّما هي أميال أزيدها !
قال: وأيُّ فتنة أعْظَمُ من أنْ ترى أنّك سبقتَ إلى فضيلةٍ قصَّر عنها رسولُ الله ؟! إنّي سمعتُ الله يقول:{ فَلْيَحْذَرِ الذينَ يُخالِفون عنْ أمْرِهِ أنْ تُصيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يُصِيبَهُم عذابٌ أليمٌ } [النور:63].
وهذا مما صرّح به الشوكاني في "السيل الجرّار" (2/168)، غير أنّه استحبّ الإحرام من المسجد الأقصى، وقد علمت مستنده.
والله أعلم.