كذلك الولـد، فله حقّ في محصّنات للرّوح والجسد، ومن هذه الحقوق - وهي تدور بين الوجوب والاستحباب -:
1- تعويذ المولود عند ولادته: وذلك بالدّعـاء والرّقيـة فور ولادته.
فقد قصّ الله تعالى علينا قصّة امرأة عمران إذ قالت:{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36].
يعلّمنا الله تعالى أن نقول: اللّهمّ إنّي أعيذه - أو أعيذها - بك من الشّيطان الرّجيم.
وقد شاع حديث ضعيف بين النّاس، وهو أن يؤذّن للمولود في أذنه اليمنى، وبعضهم زاد: ويقام في أذنه اليسرى، فهذا لا يصحّ عند أهل العلم بالحديث، وعليك بما صحّ.
ومن أنفع ما صحّ من الرّقى للصّغير ما رواه البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَيَقُولُ:
(( إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ )).
و( الهامّة ): هي كلّ ذات سمّ، و( اللامّة ): هي كلّ آفة أو داء يصيب الإنسان.
وإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال - فيما رواه مسلم عن ابن عبّاس -: (( العَيْنُ حَقٌّ ))، فقد يصاب الولد بعين أحد الحاسدين، وأنت والطّبيب الذي تركض إليه من الغافلين.
وروى مسلم عن جَابِر بْنِ عبَدِ اللهِ رضي الله عنه قال: قَالَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لِأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ:
(( مَا لِي أَرَى أَجْسَامَ بَنِي أَخِي - هو جعفر بن أبي طالب – ضَارِعَةً - أي نحيفة هزيلة- تُصِيبُهُمْ الْحَاجَةُ - أي المرض - ؟)).
قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ الْعَيْنُ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: (( ارْقِيهِمْ )).
ولا تتوقف عن هذه الرّقى العظيمة، فقد روى البخاري ومسلم عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
( كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ، فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، طَفِقْتُ أَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفِثُ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم عَنْهُ ).
وممّا غفل عنه كثير من النّاس هذه الأيّام، وأهملوه من سنّة سيّد الأنام صلّى الله عليه وسلّم أنّهم يتركون أولادهم خارج البيوت بعد غروب الشّمس، مع أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد نهى عن ذلك.
روى البخاري ومسلم عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ، أَوْ أَمْسَيْتُمْ، فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقُوا الْأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا )).
والعجيب، الذي يحار له اللّبيب، أنّك ترى النّاس إلى مراكز التّلقيح يسارعون، وعلى مواعيدها يحافظون، فيا ليتهم يحافظون أيضا على هذه الرّقى الشّرعيّة، الّتي قال فيها ربّ البريّة:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82].
2- ثانيا: ومن حقوق الولد على والدته الرّضاع.
قال تعالى من فوق سبع سماوات، يذكّر بهذا الحقّ لهم:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:من الآية 233]..
وكثير من النّساء يظْنُنّ أنّ الأمر بأيديهم، ولو أمكن الطّفلَ النّطق حينئذ لصرخ بملء فيه، فلا يرضى بغير ثدي أمّه بدلا، ولا عن لبنها حِولا ..
فالله يحثّ الأمّهات على أن يُغذّين أطفالهنّ ممّا وهبهنّ، وقد ثبت علميّا أنّ الأطفال الذين يعتمدون الرّضاعة الصّناعيّة أكثر تعرّضا للأمراض والأوبئة من الأطفال الذين يعتمدون الرّضاعة الطّبيعيّة.
ثمّ إنّ الأمّ - إضافة إلى جودة لبنها وكمال تغذيتها – تجعل الطّفل يرتوي منها عطفا وحنانا، وأمنا وأمانا، وحبّا وغذاء نفسيّا، ومأوى وملجأ مَرْضيّا، ولكن حقّ علينا قول ربّنا:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}[البقرة: من الآية61].
بل إنّ ممّا يدلّ على تعظيم أمر الرّضاع أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أوشك أن ينهى عن الغيلة، والغيلة هي: أن تحمل المرأة المرضع.
روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الأَسَدِيَّةِ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ:
(( لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلاَ يَضُرُّ أَوْلاَدَهُمْ )).
3- الحقّ الثّالث: حسن اختيار الأسماء.
فهذا أيضا من أوكد حقوق الأبناء على والديهم.
وإنّ الطّفل يتأثّر كثيرا نفسيّا بنوع الاسم الذي يعطى له، فتتأثّر رؤيته لنفسه بذلك، فإنّ بعض الأطفال يعانون من أسمائهم لأنّها تحمل معاني لا تعجبهم.
إنّ أوّل كلمة يتعلّمها الطّفل عادة أو يحاول أن يكتبها هي اسمـه، فإذا كان حسنا انعكس ذلك عليه بهجة وسرورا، وإن كان ذميما انعكس عليه ويلا وثبورا.
يذكر ابن القيّم رحمه الله تعالى أنّ أغلب الأولاد تجدهم يندفعون إلى ما تدلّ عليه أسماءهم، فصاحب الاسم الحسن يدفعه اسمه إلى الاعتناء بما هو حسن حياءً من اسمه، والعكس بالعكس.
فاعلم أنّ لتسمية المولود شروطا ثلاثةً:
1- أن لا يكون فيه معنى قبيح:
فلا يجوز لك أن تسمّيه باسم يضايقه، أو يعيّره به النّاس، كمن سمّى ابنه باسم حيوان، أو باسم لا معنى له، فإنّه سينشأ لا هدف له.
أو يسمّيه باسم يشترك فيه الذّكور والإناث، لما يسبّبه له من إحباط، ويكون محلّ سخرية.
2- ألاّ يكون من أسماء الكافرين، أو المعروفين بالمجون والمفسدين.
3- أن لا يكون يوحي إلى شيء مذموم:
فإنّ الأسماء يُتفاءل بها ويُستبشَر، وسبحان من جعل للأسماء تأثيرا على النّفوس !
فقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحضّ الصّحابة على الأسماء الحسنة، من ذلك:
- ما رواه أبو داود عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ عَامِلًا سَأَلَ عَنْ اسْمِهِ، فَإِذَا أَعْجَبَهُ اسْمُهُ فَرِحَ بِهِ، وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنْ اسْمِهَا، فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ.
وقوله: ( رُئِيَ كراهية ذلك في وجهه ): لا تشاؤما وتطيّرا باسمه، وإنّما لانتفاء التّفاؤل.
- وفي رواية البزار عن بريدة رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِذَا أَبْرَدْتُمْ إِلَيَّ بَرِيداً فَابْعَثُوهُ حَسَنَ الوَجْهِ حَسَنَ الاِسْمِ )).
- وتأمّل ما رواه البخاري عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ المسيّب بن حزن، أَنَّ أَبَاهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: (( مَا اسْمُكَ ؟ )) قَالَ: حَزْنٌ ! قَالَ: (( أَنْتَ سَهْلٌ )) قَالَ: لَا أُغَيِّرُ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِي. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَمَا زَالَتْ الْحُزُونَةُ فِينَا بَعْدُ.
- وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( أَسْلَمُ سَالَمَهَا اللهُ، وَغِفَارُ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَعُصَيَّةُ عَصَتْ اللهَ وَرَسُولَهُ )).
- وروى البخاري أنّه لمّا جاء سهيل بن عمرو قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ )).
- ولمّا نزل الحسين وأصحابه بكربلاء سأل عن أسمها، فقيل: كربلاء، فقال:" كربٌ وبلاءٌ ".
- ولما وقفت حليمة السّعدية على عبد المطّلب تسأله رضاع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لها: من أنت ؟ قالت: امرأة من بني سعد، قال: فما اسمك ؟ قالت: حليمة، فقال: بخٍ بخٍ ! سعْدٌ وحِلْم ؟! هاتان خلّتان فيهما غناء الدّهر.
وإنّ هذا ليس عجبا، فإنّ للأسماء تأثيرا حتّى في عالم الرّؤى والأحلام:
- فقد روى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّا فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَأُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ، فَأَوَّلْتُ الرِّفْعَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا، وَالْعَاقِبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ )).
- كما ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه غيّر أسماء كثيرة لأجل ذلك:
فغيّر العاص إلى مطيع، وحرب إلى الحسن، وغراب إلى مسلم.
وروى ابن ماجه عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْهَيَنَّ أَنْ يُسَمَّى رَبَاحٌ وَنَجِيحٌ وَأَفْلَحُ وَنَافِعٌ وَيَسَارٌ )).
- وفي المقابل أمر وحثّ على بعض الأسماء، ففي صحيح مسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ )).
لأنّ الشّخص يحنّ إلى من تسمّى باسمه في الغالب، فترى من اسمه محمّد يحنّ إلى من اسمه محمّد، ومن اسمه يحيى يحنّ إلى من اسمه يحيى، وهكذا.
يقول الشّيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه " تسمية المولود ":
" فيا أيّها المسلم ! أكرّر مؤكّدا، وبالحقّ مذكّرا: إنّ الاسم عنوان المسمّى، فإذا كان الكتاب يُقرأ من عنوانه، فإنّ المولود يعرف من اسمه ... ومن المنتشر قولهم: لكلّ مسمّى من اسمه نصيب .."
وإنّ حسن الاختيار يدلّ على أكثر من معنى، فهو يدلّ:
على مدى ارتباط الأب المسلم بهدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأنّه مخالف تمام لسنن الغرب الغويّ، وأنّه على خير واستقامة في دينه، وفي المثل الشّعبي الشّرقي:من اسمك أعرف أباك.
وإنّ الاسم الحسن يربط المولود بهدي الشريعة وآدابها، ويشبع نفسه بعزّة الانتماء إلى دين الله تعالى، وعباده وأوليائه المتّقين.
- ومن أروع ما علّمنا إيّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تنظر إلى الطّفل عند تمييزه، فتكنّيه بكنية حسنة، كأن تكنّيه بأبي عبد الله، ونحو ذلك، فإنّ ذلك ممّا يشعر الطّفل بعظمة في شخصيته، ونموّا في عقليّته.
روى البخاري عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: ( إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: (( يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ )).
وروى عن أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قالت: أُتِيَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ، فَقَالَ: (( مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ ؟ )) فَسَكَتَ الْقَوْمُ، قَالَ: (( ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ )).
فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا، وَقَالَ: (( أَبْلِي وَأَخْلِقِي )) وقَالَ: (( يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَاهْ وَسَنَاهْ )) بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنٌ.
الخطبة الثّانية.
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فهذه بعض حقوق الطّفل عليك - أيّها الأب، أيّتها الأمّ - تعتبر من النّبات الحسن الّذي يرضاه الله تعالى، بدأنا بتعويذه ورقيته، ثمّ ثنّينا بحقّ الرّضاعة، وذكرنا ثالثا: حقّ الاسم الحسن.
4- الحقّ الرّابع: العقـيـقـة.
العقيقة: هي ذبح شاة عن المولود يوم سابعه، وهي سنّة مؤكّدة عند أكثر أهل العلم، ويكفيها شرفا وعظمة أنّهم قد اختلفوا في وجوبها، حتّى قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن استدان ليعقّ عن ولده أحبّ إليّ.
وإنّما عظّم العلماء، من السّلف الأجلاّء، أمر العقيقة لما جاء فيها من الأحاديث الصّحاح، وأشدّها:
ما رواه أبو داود عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ وَيُسَمَّى )).
وفي معنى ( رهين بعقيقته ) خلاف:
- فقال عطاء رحمه الله: يُحْرَم شفاعة ولده.
وقال إسحق بن هانئ: سألت أبا عبد الله عن حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((الغُلاَمُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ)) ما معناه ؟ قال: نعم، سنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يُعَقَّ عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، فإذا لم يعقّ عنه فهو محتبس بعقيقته حتّى يعقّ عنه.
قال: يريد أنّه لو مات طفلا لم يشفع في والديه كغيره، وهذا رجّحه الإمام الخطّابي.
- وقال غيرهم: المعنى أنّه محبوس عن كثير من الخير الذي يجعله الله تعالى من العقيقة، وهذا رجّحه ابن القيّم.
المهمّ أنّ من أعظم وسائل شكر نعمة الولد، هو أن يقدّم المسلم قربانا لله تعالى، وتبقى دينا عليك، متى استطعت إليها سبيلا، فلا تبغ عنها تحويلا.
والمستحبّ أن تكون شاتين عن الذّكر، وشاة عن الأنثى، لما رواه الترمذي وغيره عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( أَمَرَهُمْ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ )).
وتجزئ شاة عن الذّكر، لما رواه أبو داود عن بُرَيْدَةَ قال: (( كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وُلِدَ لِأَحَدِنَا غُلَامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطَخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ )).
وأحكام العقيقة ليس هذا موضع بسطها والحديث عنها، إنّما أردنا بيان أنّ من حقوق ولدك أو ابنتك عليك: العقيقة.
5- الحقّ الخامس: ومن المحصّنات للمولود حلق شعره والتصدّق بوزنه فضّة:
فحلق رأس المولود يوم سابعه من السنّة، ثمّ تتصدّق بوزن شعره فضّة، روى أبو داود عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ: تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ، وَيُسَمَّى )).
سنّة ماتت في بيوت أكثر المسلمين، وابتعدت عن منهج الصّادق الأمين، فلا جرم أن ارتفعت البركة عن أكثر أولادنا وبناتنا.
6- الحقّ السّادس: التماس الرّزق الحلال: وهو من أجلّ الحقوق وأهمّها.
والحديث عن التماس الرّزق الحلال حديث طويل عريض، وليس هذا أوان بسطه والتطرّق إليه، ولكنّ الّذي يهمّنا، هو أنّ الرّزق الحلال له أثر كبير وعظيم على صلاح الطّفل.
والدّليل على ذلك ما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}، وَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ، أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ ! يَا رَبِّ ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ؟!)).
فهذا الحديث يدلّ على أنّ الأكل الحرام من موانع الدّعاء والخير.
فبسبب الحرام لا يُرفع لك دعاء إلى ربّ الأرض والسّماء، والولد لولا دعاء والديه أنّى له بالصّلاح والفلاح ؟!
وتأمّل معي بلاغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ( ثمّ ذكر الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ ! يا ربّ ! )
فهذا الكلام أشار فيه إلى آداب الدّعاء وإلى الأسباب الّتي تقتضي إجابته، فذكر من الأسباب الّتي تقتضي إجابة الدّعاء أربعة:
- أحدها: إطالة السّفر، والسّفر بمجرّده يقتضي إجابة الدّعاء.
روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لاَ شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ المَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الوَالِدِ لِوَلَدِهِ )).
- والثّاني: حصول التبذّل في اللّباس والهيئة بالشّعث والإغبار، وهو أيضا من المقتضيات لإجابة الدّعاء.
ففي الحديث المشهور عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ )) ولمّا خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للاستسقاء خرج متبذّلا متواضعا متضرّعا..
- الثّالث: مدّ يديه إلى السّماء، وهو من آداب الدّعاء الّتي يرجى بسببها إجابته.
وفي حديث سلمان رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِى إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ )) [خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والتّرمذي وابن ماجه].
- والرّابع: الإلحاح على الله عزّ وجلّ بتكرير ذكر ربوبيّته، وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدّعاء.
أربعة أسباب لإجابة الدّعاء كلّها ذابت واضمحلّت أمام مانعٍ واحدٍ .. إنّه التوسّع في الحرام أكلا وشربا ولبسا وتغذية.
حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: (( وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ؟!))، معناه: كيف يستجاب له ؟!.
قيل لسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه: تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟ قال: مَا رفعت إلى فمي لقمة إلاّ وأنا عالم من أين مجيئها ومن أين خرجت ؟
وعن وهب بن منبه قال:" من سرّه أن يستجيب الله دعوته فليطيِّب طعمته ".
وعن يوسف بن أسباط قال:" بلغنا أنّ دعاء العبد يُحبَس عن السّموات بسوء المطعم ".
قال بعض السّلف: " لا تستبطِئ الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي "، وأخذ بعض الشّعراء هذا المعنى فقال:
نحن ندعو الإله فـي كلّ كرب ثمّ ننساه عنـد كشف الكروب
كيـــف نرجـو إجـابــة لدعـــاء قد سددنا طريقــها بالذّنــــوب
وانظروا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كيف يُربّي الطّفل على المأكل الحلال.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أَخَذَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رضي الله عنه تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( كَخْ كَخْ )). ليطرحها ثمّ قال: (( أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ )).
وما أحسن ما ذكّرت به الطّفلة البريئة العاقلة أباها، حيث نادته قائلة: يا أبتِ، اتّق الحرام، فإنّا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النّار.
هذا ختام حديثنا معكم عن حقوق الأولاد فور ولادتهم، وفي الخطبة اللّاحقة نشرع في بيان المقصود، والهدف المنشود، بإذن الرّحيم الودود.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.