الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فإنّ ( عاشوراء ) - على الصّحيح من أقوال العلماء - هو يوم العاشر من شهر الله المحرّم، وذلك لما يلي:
أوّلا: هذا ما يدلّ عليه اسمه، واشتقاقه اللّغويّ.
ثانيا: ما جرى عليه عمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة وبعدها:
- أمّا قبل البعثة: فقد روى البخاري ومسلم عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالَتْ:" كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ".
فهي تخبِر عن يوم معهودٍ لدى العرب وهو العاشر من شهر الله المحرّم.
- أمّا بعد البعثة ففي صحيح مسلم عن عبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ:
" حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ )).
ووجه الدّلالة: قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( صُمْنا اليوم التّاسعَ ))، فإنّه يدلّ على أنّ المقصود بـ( عاشوراء ) في أوّل الحديث هو اليوم العاشر. وإلاّ فكيف يَعِدُ بصوم يومٍ كان يصومه ؟!
ولا بدّ أن نعلم أنّ حديث ابن عبّاس رضي الله عنه مختصرٌ، فإنّ قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ )) إنّما قاله في آخر حياته صلّى الله عليه وسلّم بدليل قول ابن عبّاس رضي الله عنه بعد ذلك:" فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ".
وإنّما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك في آخر حياته؛ لأنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يوافق أهل الكتاب في أوّل الأمر؛ فحالهم كان أهونَ من حال المشركين العرب، فلمّا دخل العرب في دين الله أفواجا، سارع إلى مخالفة أهل الكتاب، كما هو معلوم من سيرته صلّى الله عليه وسلّم.
فقد كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا.
وكان يسدل شعرَه موافقة لأهل الكتاب:
روى البخاري ومسلم عنْ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يَسْدِلُ شَعَرَهُ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُءُوسَهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم رَأْسَهُ.
ثالثا: هو ما جرى عليه عمل الصّحابة.
فقد ذكر النّوويّ في "شرح مسلم" (8/12)، والحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/671)، والبدر العينيّ في "عمدة القاري" (11-117) أنّ جماهير العلماء من الصّحابة والتّابعين على أنّ عاشوراء هو العاشر من المحرّم.
- · بيان مذهب ابن عبّاس رضي الله عنهما في المسألة:
نقل الحافظ ابن رجب رحمه الله في "لطائف المعارف" (ص 52) عن ابن سيرين قولَه:" كانوا لا يختلفون أنّه اليوم العاشر، إلاّ ابنَ عبّاس، قال: إنّه التّاسع ".
وهو اختيار الإمام ابن حزم رحمه الله في "المحلّى" (4/437).
وكأنّ ابنَ سيرين رحمه الله يشير إلى ما رواه مسلم عنِ الحَكَمِ بنِ الْأَعْرَجِ، قالَ:
انْتَهَيْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ فِي زَمْزَمَ - فقُلْتُ لهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ، وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا، قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ ؟ قالَ: نَعَمْ.
ولكن هذا الأثر لا يدلّ صراحةً على ذلك، وإنّما بيّن السنّة في صوم عاشوراء، وأنّه يُقرَن مع التّاسع.
قال الإمام البيهقيّ رحمه الله في "السّنن الكبرى" (4/475):" وكأنّه رضي الله عنه أراد صومَه مع العاشر، وأراد بقوله - في الجواب -: "نعم" ما رُوِي من عزمِه صلّى الله عليه وسلّم على صومه ".
[وفي "زاد المعاد" (2/75-76)، و"تهذيب السّنن" (3/324) لابن القيّم تأكيد لهذا المعنى، فانظرهما].
وهذا الجمعُ من الإمام البيهقيّ وغيره جمعٌ حسن، وهو اللّائق بفقه ابن عبّاس رضي الله عنهما.
فقد روى التّرمذي في "سننه"، وعبد الرزّاق" في "المصنّف" (4/287-7839)، والبيهقيّ في "السّنن الكبرى" (4/475) عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال:" صُومُوا التَّاسِعَ وَالعَاشِرَ، وَخَالِفُوا اليَهُودَ ".
وصحّحه الحافظ ابن رجب رحمه الله في "لطائف المعارف" (ص 51)، والشيخ الألباني رحمه الله في "صحيح سنن التّرمذي".
وفي سنن التّرمذي عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ:
( أَمَرَ رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بِصَوْمِ عَاشُورَاءَ: يَوْمُ عَاشِرٍ ).
وصحّحه الشّيخ الألبانيّ رحمه الله.
( تنبيه ):
أمّا من تأوّل مذهب ابن عبّاس رضي الله عنهما على أنّه مأخوذ من أظماء الإبل، وأنّ العرب تسمّي اليوم الخامس من أيّام وِرْدِها للشرب ربعاً، وكذا باقي الأيام، فيكون التّاسع عاشرا ! فهو تأويل بعيد؛ لأنّ الأصل في الأحكام الشّرعيّة أنّها تأتي على غاية الوضوح والبيان، لا على أمرٍ يدركُه طائفة من النّاس فقط.
والله تعالى أعلم.