شرح الحديث:
هذا الحديث جاء لدفع وسوسة الشّيطان حال القراءة في الصّلاة، وهي وسوسة تشويش وتلبيس، نظيرها ما يقع للمصلّي من سهو في عدد ركعات الصّلاة أو واجباتها أو سننها، ففي الصّحيحين عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ:
(( إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدَكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ )).
* قوله: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي ): ليُشغله عن الخشوع والتدبّر، كما قال تعالى عن إبليس يوم طرده الله من رحمته:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16].
* ( وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ ): يحتمل أنّه يريد قراءته في الصّلاة فيكون من عطف الخاصّ على العامّ.
ويحتمل أنّه ذكر حالين: حال الصّلاة، وحال القراءة خارجَها، إلاّ أنّ كلّ من تكلّم عن هذا الحديث خصّ به القراءة في الصّلاة.
* قوله صلّى الله عليه وسلّم: ( ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبٌ ): بكسر الخاء المعجمة وسكون النّون وفتح الزّاي، كما قال المصنّف رحمه الله.
ويقال خَنْزَب - بفتح الخاء - كما في "إكمال المعلم" (7/110) للقاضي عياض رحمه الله، و"شرح صحيح مسلم" (14/190) للنّووي رحمه الله. وذكر ابن الأثير رحمه الله (2/83) أنّه يقال أيضا " خُنزَب " بالضمّ، واستغربه النّوويّ رحمه الله.
وشاع لدى أكثرِ الشرّاح إذا شرحوا هذا الحديث أنّهم يذكرون شيطانا آخر مختصّا بالوسوسة في الطّهارة، معتمدين على ما رواه التّرمذي عنْ أُبَيِّ بنِ كعبٍ رضي الله عنه عنْ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( إِنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْوَلَهَانُ، فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ )). وهو حديث ضعيف جدّا؛ لأجل إرسال الحسن أوّلاً، ثمّ لأجل خارجة بنِ مصعبٍ، وهو متروك، وكان يدلّس عن الكذّابين، فلا يعتمد عليه.
* قوله: ( فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا ): الظّاهر أنّه يفعل ذلك في الصّلاة، وذهب ابن الأثير رحمه الله - كما في "جامع الأصول" (1/183)- إلى خلاف ذلك، حيث قال:" وأمّا التعوّذ والتّفل عن اليسار يكون قبل الدّخول في الصّلاة ".
والصّواب هو الأخذ بالظّاهر.
وهل يفعل ذلك مطلقا: منفردا كان أو مأموما ؟
فالظّاهر أنّه يفعل ذلك في صلاته منفرداً، أو إذا كان إماماً لا مأموما؛ لأنّه قال:" إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي، وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ )" ؟ ثمّ إنّه إن كان مأموما فإنّ الإمام يحمل عليه سهوَه وعدمَ استحضاره.
ويمكن القولُ بأنّه لا فرقَ بين كونه منفردا ومأموما، والله أعلم.
* قوله: ( فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي ) وصدق الله القائل:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}.
تنبيه: لا بدّ من اجتناب التّفل تجاه القبلة أو عن اليسار إذا كان هناك من يصلّي عن يساره.
فقد روى البخاري ومسلم عنْ أنسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ )).
وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه: (( وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى )).
ومن الأخطاء الشّائعة أنّ بعض من يتفلون تراه يلتفتُ إلى الخلف ! كيلا يُصِيبَ من هو عن يساره. والسنّة حينَها: التّفل تحت القدم اليسرى.