ولقد أعمى الحبُّ كثيراً من إخواننا المسلمين، فصاروا يسقون حدثَ ولادتِه بأمطارٍ من الأكاذيبِ، فنشأت حولَه كثيرٌ من الأساطير.
من جملة هذه الأكاذيب: دنوّ النّجوم من الأرض ! وأنّه كان هناك لَوْحٌ من ذهب كُتِبَت عليه الأشعار يومَ ولادتِه عند رأس أمّه ! وأنّ إيوانَ كِسْرى قد ارتجّ ووقعت منه بعضُ الشُّرف ! وأنّ نارَ المجوس الّتي كانوا يعبدونها انطفأت لأوّل مرّة ! وأنّ الأصنام بمكّة قد انتكست ! وغير ذلك من الأكاذيب.
نعم، كلُّ ما ذُكِر حدثَ، ولكن بعد ذلك .. بل حدث ما هو أعظمُ منه:
- فأنزِل أعظمُ كتاب عرفته البشريّة:{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } [المائدة من: 48]. فلا تلتفتوا إلى لوحٍ وهميّ كُتِبت عليه أشعار.
- وزال ملكُ كسْرَى (( إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ )) [متّفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه]. فلماذا انبهرتم بمجرّد ارتجاج قصره ووقوع شُرفٍ منه ؟!
- وأطْفِئت نار المجوس ببلاد العرب إلى الأبد، ورُفِعت راية عبادة الفرد الصّمد. ثمّ غرّتكم روايةُ انطفائِها لليلةٍ واحدة !
- وزالت الأصنام عن مكّة و(( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ )) [رواه مسلم]. وأدهشتكم روايةُ انتكاسِها !
كلّ ذلك قد حدث، ولكن ليس يومَ مولدِه صلّى الله عليه وسلّم ..
إنّما حدث ذلك خلالَ وبعدَ حياةٍ حافلةٍ بـ: ( الدّعوة إلى الله )، و( التّضحية في سبيل الله )، و( الصّبر على الأذى لوجه الله )، و( تحكيم كتاب الله عزّ وجلّ )، و( بذل الأسباب الّتي سخّرها الله )، و( جمع كلمة المسلمين تحت راية لا إله إلاّ الله ) ..
هذه هي معجزات المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، ودلائل نبوّته.
لكنْ .. لمّا ضيّعت الأمّة هذه المعجزات، أسرعت تبحث عن المعجزات في مستنقعات الخرافات والأساطير ..
غفلوا عن هذه الحقائق، وقعدوا عن العمل بها، والعيش من أجل إعلائها، والتفتوا إلى روايات ما أنزل الله بها من سلطان ليستروا بها عورتهم ! ويسدّوا بها خللهم ! ويملؤوا بها فراغهم !
ومن هنا تدرك السّرّ في أنّ مُعْظَمَ الّذين يردّدون هذه الخرافات ويسمّونها ( معجزات ) وهم يحتفلون بمولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، تراهم لا يُدركون المكانة الحقيقية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمغزى من رسالته.
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب: 21].
فقوموا من ( حضْراتِكم )، واتركوا ( أناشيدكم )، وأيقِظوا أمّتكم، واهتمّوا بما مات عليه نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم فموتوا عليه، بدلا من أن تهتمّوا فقط بيوم مولده.