وإن سألت عن الفرق بين ( عرفة ) و( عرفات ) ؟
فمن العلماء من لم يفرّق بينهما.
ومنهم من قال: ( عرفة ) إذا أُضيف إليه الزّمان واليوم، و( عرفات ): إذا أضيف إليه المكان، لذلك قال تعالى:{ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ }.
ولماذا سمِّي عرفة بذلك ؟ أقوالٌ كثيرة لا دليل على أحدٍ منها.
- فقيل: سمّي عرفة لأنّ النّاس يتعارفون به.
- وقيل: سمّي عرفة لأنّ جبريل عليه السّلام طاف بإبراهيم عليه السّلام، فكان يُرِيه المشاهد فيقول له: أعرفت ؟ أعرفت ؟ فيقول إبراهيم عليه السّلام: عرفت، عرفت !
وكأنّ قائل ذلك نسِي أنّ إبراهيم عليه السّلام ما كان يتكلّم العربيّة.
- وقيل: لأنّ آدم عليه السّلام لمّا هبط من الجنّة، وكان من فراقه حواء ما كان، فلقيها في ذلك الموضع فعرفها وعرفته !
ولا ندري من أين علموا أنّه حدث فراق بين الأبوين الكريمين وقد أهبطهما الله إلى الأرض معاً ؟!
والصّواب الإمساك عن الخوض في ذلك، فـ:" العلم إمّا نقلٌ مصدَّق عن معصوم، وإمّا قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإمّا مزيَّف مردود، وإمّا موقوفٌ لا يُعلم أنّه بهرج ولا منقود " [" مقدّمة في أصول التّفسير " لابن تيمية].
أمّا فضائل يوم عرفة:
أ) فهو يوم أكمل الله فيه الدّين.
ففي الصّحيحين عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رضي اللهُ عنه عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي اللهُ عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ ؟
قَالَ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا}.
قَالَ عُمَرُ رضي اللهُ عنه: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلّم وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.
يشير عمر رضي اللهُ عنه بذلك إلى أنّنا نتّخذها عيدا أسبوعيّا كلّ يوم جمعة، وعيدا سنويّا يوم عرفة، لذلك كان الفضل الثّاني:
ب) أنّه عيد لأهل الإسلام:
فقد روى أهل السّنن عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي اللهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ، وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ )).
ت) أنّه يوم أقسم الله به، والعظيم لا يقسم إلاّ بعظيم.
روى التّرمذي وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلّم: (( الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ )).
ث) أنّ صيامه يكفّر ذنوب سنتين.
ففي صحيح مسلم عن أَبِي قَتَادَةَ رضي اللهُ عنه أنّ النّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: (( يكفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ، وَالسَّنَةَ القَابِلَةَ )).
وهذا إنّما يُستحبّ لغير الحاجّ، أمّا الحاجّ فلا يُسنّ له صيامه.
ج) أنّه اليوم الّذي أخذ الله فيه الميثاق من بني آدم.
فقد روى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنه عَنْ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ - يَعْنِي عَرَفَةَ -، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا، قَالَ:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}.
[صحّحه الشّيخ الألباني في " المشكاة "، و" صحيح الجامع "، و" تخريج الطّحاويّة "].
ح) أنّ الوقوف هذا اليوم بعرفات هو الرّكن الأعظم في الحجّ.
فقد روى أهل السّنن عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ رضي اللهُ عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلّم وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ ؟ فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: (( الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ )).
قَالَ التّرمذي رحمه الله:
" والعمل على حديث عبد الرّحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم وغيرهم، أنّه من لم يقف بعرفات قبل طلوع الفجر، فقد فاته الحجّ، ولا يجزئ عنه إن جاء بعد طلوع الفجر، ويجعلها عمرةً، وعليه الحجّ من قابل، وهو قول الثّوري، والشافعي، وأحمد، وإسحق ...وسمعت الجارود يقول: سمعت وكيعا أنّه ذكر هذا الحديث فقال: هذا الحديث أمّ المناسك ".
خ) أنّه يوم مغفرة وعتق من النّيران، وهذا ما سيذكر المصنّف الأحاديث الكثيرة فيه.
ومن السنّة للحاجّ ذلك اليوم:
- التوجّه إلى عرفات يوم التّاسع بعد طلوع الشّمس.
- المواظبة على التّكبير والتّهليل، والتّلبية.
- وينزل الحاجّ بنَمِرة.
- ويغتسل إن أمكنه ذلك.
- ويستحبّ له أن لا يدخل عرفة إلاّ وقت الوقوف وذلك بعد الزّوال.
- وينتهي الوقوف مع طلوع فجر اليوم العاشر.
- وأنّه يكفي الوقوف في أيّ جزء من أجزاء اللّيل.
- كما يُستحب الوقوف عند الصّخرات.
- ويُجزئ الوقوف في أيّ مكان من عرفة، روى مسلم عَنْ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه فِي حَدِيثِهِ الطّويل أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ )).
- أمّا الصّعود إلى جبل الرّحمة واعتقاد أنّ الوقوف به أفضل فهو خطأ، وليس بسنّة.
- قوله رحمه الله: ( المزدلفة ):
الكلمة مأخوذة من ( زلف الشّيء ) أي: قرّبه إليه وجمعه، ومنه قوله تعالى:{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ} [الشّعراء:64]، أي: وقرّبنا فرعون وقومه من اليمّ بعدما كادوا ينصرفون.
والمزدلفة: موضع بمكة، قيل: سمّيت بذلك لاقتراب النّاس إلى منى بعد الإفاضة من عرفات واجتماعهم فيها.
ولها اسمان آخران:
أ) الأوّل: ( جَمْع ): ومنه ما رواه البخاري عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أخبرتني عَائِشَةُ رضي اللهُ عنها أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُمْسِ:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} قَالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ.
ب) و( المشعر الحرام ): من باب إطلاق جزء الشّيء على كلّه، فإنّ المشعر الحرام من المزدلفة، ويطلق عليها، قال تعالى:{ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} روى الطّبريّ عن ابن عمر رضي اللهُ عنه قال: هو مزدلفة.
ومعنى المشعر: المعلم والمتعبَّد. فهو من المعالم التي ندب الله إليها وأمر بالقيام عليها، و( الحرام ) لأنّه من الحرم، كما أنّ عرفات تسمّى (المشعر الحلال) لأنّه من الحِلّ.
والله تعالى أعلم وأعزّ وأكرم.