· النّقطة الأولى: معنى أيّام التّشريق.
ففي ذلك أقوال متقاربة:
- الأوّل: لأنّهم كانوا يُشَرِّقُون فيها لحوم الأضاحي، أي: يقدّدونها ويبرزونها للشّمس.
- الثّاني: لأنّها كلّها صالحة لأنّ تصلّى فيها صلاة العيد بعد أن تشرق الشّمس، فصارت تابعة ليوم النّحر.
وهذان القولان حكاهما أبو عبيد رحمه الله.
- الثّالث: سمّيت بذلك لأنّ الهدايا والضحايا لا تُنْحر حتّى تشرق الشمس، قاله ابن الأعرابيّ رحمه الله.
[" لسان العرب "، و" فتح الباري "].
· النّقطة الثّانية: حكم صوم أيّام التّشريق.
لأهل العلم ثلاثة أقوال في المسألة:
- القول الأوّل: يجوز صيامها لكلّ أحد، حكاه ابن المنذر عن الزّبير بن العوّام وابن عمر رضي الله عنهم، وابن سيرين.
ولعلّهم لم تبلُغهم أحاديث النّهي.
- القول الثّاني: لا يصحّ صومها بحال. وهو أظهر القولين في مذهب الشّافعي، وبه قال أبو حنيفة وابن المنذر وغيرهما.
ويدلّ على ذلك:
أ) ما رواه أصحاب السنن عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ )).
قال الترمذي:" وفي الباب عن عليّ، وسعد، وأبي هريرة، وجابر، ونُبَيْشة، وبشر بن سُحَيْم، وعبد الله بن حذافة، وأنس، وحمزة بن عمرو الأسلمي، وكعب بن مالك، وعائشة، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو "اهـ.
والشّاهد: أنّه صلّى الله عليه وسلّم جعلها عِيداً، لما تقرّر أنّ صوم العيدين محرّم، ولذلك نُهِي الحاجّ عن صوم يوم عرفة، واستُحبّ للمقيم فحسب.
ب) وروى أبو داود عن أبي مُرَّةَ مولى أُمِّ هَانِئٍ أنّه دخلَ معَ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو على أبيهِ عمْرِو بنِ العاصِ، فقرّبَ إليهما طعامًا، فقال: كُلْ. فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، فقال عَمْرٌو: ( كُلْ، فَهَذِهِ الْأَيَّامُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَأْمُرُنَا بِإِفْطَارِهَا، وَيَنْهَانَا عَنْ صِيَامِهَا ). قَالَ مَالِكٌ – وهو من رجال سند الحديث – : وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
- القول الثّالث: أنّه يحرُم صومها إلاّ للمتمتّع إذا لم يجد الهدي، ولا يجوز لغيره.
وهو قول مالك، والأوزاعي، وإسحاق، والشّافعي في أحد قوليه.
ويقصدون بذلك: أنّ الله أمر المتمتّع بالصّوم إن عجز عن الهدي، فقال:{ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة: من الآية 196].
قال الترمذي بعد ذكر أحاديث النّهي:
" والعمل على هذا عند أهل العلم يكرهون الصّيام أيّام التّشريق، إلاّ أنّ قوماً من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم وغيَرهم رخَّصُوا للمتمتّع إذا لم يجد هديا ولم يصم في العشر: أن يصوم أيّام التّشريق، وبه يقول مالك بن أنس، والشّافعيّ، وأحمد، وإسحق " اهـ.
وهذا هو الصّحيح، لدليلين اثنين:
أ) ما رواه البخاري عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قَالَ: ( الصِّيَامُ لِمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ، صَامَ أَيَّامَ مِنًى ).
ب) وما رواه البخاري أيضا عن عائشةَ، وعن عَنْ ابن عمرَ رضي اللهُ عنهم قالا: ( لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ ).
· النّقطة الثّالثة: هل يرخّص في صوم اليوم الثّالث من أيّام التّشريق من أجل كونه من أيّام البيض ؟
ممّا سبق ذكره، وأنّه لا يُرخّص في صوم يوم من هذه الأيّام إلاّ لمن ذُكِر، فإنّه لا يجوز صوم اليوم الثّالث من أيّام التّشريق من أجل كونه يوماً من أيّام البيض، وذلك لأمرين اثنين:
- أنّ المقرّر في علم الأصول أنّه إذا تعارض نصّ حاظِر – أي: مانع – ونصّ مبيح فإنّه يقدّم الحاظر على المبيح.
روى البخاري عن زيادِ بنِ جُبَيْرٍ قال: كنتُ مع ابنِ عمرَ، فسأله رجلٌ فقال: نَذَرْتُ أنْ أَصُومَ كُلَّ يَوْمِ ثَلَاثَاءَ أَوْ أَرْبِعَاءَ مَا عِشْتُ، فَوَافَقْتُ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ رضي الله عنه: ( أَمَرَ اللَّهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنُهِينَا أَنْ نَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ ). فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مِثْلَهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ.
فهو رضي الله عنه يشير إليه أنّ النّهي يقدّم على الأمر.
- أنّ المتمتّع الّذي لم يجد هدياً رُخِّص له صوم أيّام التّشريق لأنّ صومه واجبٌ يقوم مقام الهدي، أمّا صوم أيّام البيض فهو مستحبّ، وفرقٌ بين الواجب والتطوّع.
والله تعالى أعلم وأعزّ وأكرم.