وفي مقام الرّزق يتذكّر قوله عزّ وجلّ:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزّخرف:32].
وذلك هو محض الابتلاء منه عزّ وجلّ:{وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: من الآية165]، وبذلك يتبيّن صبر الصّابرين.
2- وليتبيّن شكر الشّاكرين:
فلا يحسبنّ أنّ ما عليه من خير عميم، وفضلٍ ونعيم، وهدايةٍ إلى الصّراط المستقيم أنّه أوتِيَه من قِبَلِ نفسِه، فإنّما هو من عند الله عزّ وجلّ.
فإن اعترف بذلك، كان فيه شبهٌ بأولياء الله وأحبّائه، قال تعالى عن موسى عليه السّلام:{ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: من الآية24]، وقال عن سليمان عليه السّلام:{وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النّمل: من الآية19]، وقال عن نبيّ الله يوسف عليه السّلام:{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
وإلاّ كان فيه شبه بأعداء الله كقارون الّذي:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: من الآية78].
3- على المؤمن أن يقدِّم ما قدّمه الله، ويؤخّر ما أخّره الله:
فإنّه تعالى ما كان ليقدّم في الرّتبة والمكانة إلاّ ما استحقّ ذلك قدرا أو شرعا لحكمة بالغة، فمن العيب أن يعظّم العبد ما أخّر الله، ومن العيب أن يؤخّر ويستهين بما قدّمه الله، بل عليه أن يعِزّ أهل طاعته، ويُذلّ أهل معصيته، وهذا معنى الحبّ في الله، والبغض في الله، وهذا معنى الولاء والبراء.
روى البخاري ومسلم عن أنسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ )).
وفي سنن أبي داود عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ: الْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ )).
4- وعليه بعد ذلك أن يسابق إلى الأعمال الّتي قدّمها الله عزّ وجلّ:
فمن أراد أن يرفعه الله ويقدِّمه على غيره فلْيُسابق إلى طاعته، والعمل بمرضاته، ومن تراخى عن الأخذ بمعاقد العزّ والشّرف، وتكاسل في القيام بما أوجبه الله وعرف، فلا يلومنّ إلاّ نفسه. قال تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات} [البقرة: من الآية148]، وقال:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: من الآية48]..
* من ذلك المسابقة إلى التّوبة:
لذلك رفع الله مكانة المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، لأنّهم من أسبق النّاس إلى الإيمان، فسمّاهم الله بالسّابقين، وأثنى عليهم في الآخرين فقال:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
* ومن ذلك: المسابقة إلى الصّفوف الأولى في الصّلاة، فهي خير الصّفوف، من أوجه ثلاثة:
الأوّل: بتصريح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم - كما في صحيح مسلم -: (( خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا )).
الثّاني: أنّه ممّا يَسْتَهِم النّاس عليه، ففي الصّحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا )).
الثّالث: أنّه ذمّ المتأخّرين، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ: (( تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ )).
وقد عممّم النّووي حكم التّأخير هنا، فقال: " حتّى يؤخّرهم الله تعالى عن رحمته، أو عظيم فضله، ورفع المنزلة، وعن العلم ، ونحو ذلك ".
وجاء في رواية أبي داود وغيره التّصريح بذلك، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ )).
لذلك قال اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}.
روى التّرمذي وغيره عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ امْرَأَةٌ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم حَسْنَاءَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَكَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِئَلَّا يَرَاهَا، وَيَسْتَأْخِرُ بَعْضُهُمْ حَتَّى يَكُونَ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ، فَإِذَا رَكَعَ نَظَرَ مِنْ تَحْتِ إِبْطَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}.[1]
* ومن المسابقة المطلوبة امتثال الآداب مع من يستحقّ التّقديم:
كالعالم، والوالدين، والكبير، وأهل المراتب العالية، فالله قدّمهم، فينبغي للمسلم أن يقدّمهم.
ومن ثمرات الإيمان بهذيت الاسمين:
5- معرفة معنى صفات أخرى ثابتة لله تعالى وأنّه الخافض والرّافع، والمعزّ والمذلّ.
وقد جعل بعض أهل العلم هذه الصّفات أسماء.
( فصل في الكلام عن الخافض والرّافع).
من أهل العلم من أثبت هذا الاسم لله عزّ وجلّ، منهم: الخطّابي، والحليمي، والبيهقيّ، والأصبهاني، وابن العربيّ، والقرطبي، وابن القيّم في "شفاء العليل" (ص 238)، وفي نونيّته (2/236)، حيث قال:
( هو قابض هو باسط هو خافض *** هو رافـع بالعـدل والميـزان )
وأثبته الهرّاس في "شرحه" فقال:
" هذه الأسماء الكريمة من الأسماء المتقابلات الّتي لا يجوز أن يفرد أحدها عن قرينه.."، كما ذكرها ابن القيّم أيضا في "بدائع الفوائد" (2/473)، و"مفتاح دار السّعادة" (1/3).
وأغلبهم اعتمد حديث التّرمذي الضّعيف في سرد أسماء الله وصفاته.
والصّحيح أنّه لم يثبت استعمال ( الخافض والرّافع ) اسمين، وإنّما وردا فعلين، ممّا يجعلنا نجزم بأنّه صفة من صفاته العلى سبحانه، ليس غير، ومن الأدلّة على ثبوت هاتين الصّفتين:
قوله تعالى:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: من الآية83]، وقوله تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: من الآية11]، وقوله تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]..
أمّا من السنّة فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ " وَقَالَ: (( يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ )) وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ )). [سحاء: كثيرة العطاء والبركة].
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَرْفَعُ الْقِسْطَ وَيَخْفِضُهُ، وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ )).
( فصل في الكلام عن المعزّ والمذلّ ).
ممّن ذكر هذين الاسمين الخطّابي، والحليميّ، والبيهقيّ، وابن العربيّ، والقرطبي، وابن القيّم، رحمهم الله أجمعين.
وعمدتهم في ذلك حديث التّرمذي الضّعيف كذلك، أو التوسّع في أخذ الأسماء بالاشتقاق.
والصّواب: أنّهما صفتان، كما قال تعالى:{وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: من الآية26].
وروى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُذِلَّهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُعِزَّهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ))[2].
وروى الإمام أحمد عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ:
(( لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ )).
ومن الأسماء الّتي تبقى في معنى الحكم: الفتّاح.
وسوف نراه لاحقا إن شاء الله تعالى.
[1] قد ضعّف بعض أهل العلم هذا الحديث، وبنى تضعيفه ذلك على أنّ هذا لا يليق بمسلم، فكيف بصحابيّ ؟!
والمتأمّل في الحديث لا يجد فيه التّصريح بأنّه من الصّحابة، فلعلّه كان من المنافقين.
[2] قال الإمام النّووي: قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ )) فمعناه: "وستزيدين من ذلك، ويتمكّن الإيمان من قلبك، ويزيد حبّك لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم".