أخبار الموقع
***تقبل الله منا ومنكم، وكل عام أنتم بخير أعاده الله على الأمّة الإسلاميّة بالإيمان والأمن واليمن والبركات***
لطرح استفساراتكم وأسئلتكم واقتراحاتكم اتّصلوا بنا على البريد التّالي: [email protected]

الجمعة 29 شوال 1431 هـ الموافق لـ: 08 أكتوبر 2010 09:00

- خطبة: من عوائق طلب العلم: الصدّ عن العلماء

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق

[ بعد الحمد والثّناء ...] أمّا بعد:

عباد الله: فهذه هي الخطبة السّادسة من سلسلة " عوائق طلب العلم "، ولعلّها الأخيرة في بابها، لتعود الأمور إلى نصابها، فقد ذكرنا أشدّها صعوبة وعَوصاً، ثمّ إنّ كثرة البياض قد تكون برصا.

وكما ذكرنا في لقاءاتنا الماضية أنّ هذه العوائق لا تحدّ، ولا تحصى ولا تعدّ، فآثرنا أن تكون خاتمة هذه السّلسلة هو الحديث عن عائق عظيم، وحائل وخيم، ألا وهو الطّعن في العلماء، والصدّ عن الدّعاة المصلحين الأتقياء ..

حديثنا اليوم عن قومٍ يعملون ليل نهار، على الحطّ من الأقدار، وتشويه سمعة الأخيار ..

قوم تراهم يتحرّكون كالخفافيش في الظّلام، ويعملون عمل الأعداء اللّئام ..

تنكّرت منهم الوجوه والقسمات، وزالت عنها الأنوار والبسمات، مع أهل المال والجاه أحبّة أخلاّء، ومع العلماء والدّعاة أعداءٌ ألدّاء.

لا يلتمسون المعاذير، ويسعون لإسقاط أهل الفضل والمشاهير، يبثّون عنهم الشّائعات، ويختلقون ضدّهم الوِشايات، زاعمين بيان الحقّ والإصلاح، والحقّ أنّهم يزرعون الفساد والطّلاح {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)}..

مثلهم كمثل الذّباب لا يقع إلاّ مواقع العلل، نذروا أنفسهم على تتبّع العثرات والزّلل، فما رأوه صالحا تناسوه ودفنوه، وما رأوه عيبا وزلّة نشروه، فكانوا شرّا ممّن وصفهنّ النّذير البشير، بأنّهنّ يجحدن الخير ويكفرن العشير ..

قـد ينبت الدّم علـى مرعـى الثّـرى    وتبقـــى حزازات النّـفـوس كمـا هـيـا

أيـذهب يــــــوم واحــد إن أسـأتـــه     بـصـالـح أيّــامـــي وحـــســن بلائـيــا

وعيـن الرّضـا عن كـلّ عيب كليـلة    ولكـنّ عيـن السّخـط تبدي المسـاويـا

إنّها نداءات لعلّها تذكّر الغافلين، وتثبّت العاقلين ..

النّداء الأوّل: اعلم أيّها الطّاعن في العلماء والدّعاة أنّك من مظاهر قبض العلم ..

فقد روى البخاري ومسلم عَنْ عبدِ الله بنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( إنَّ الله لاَ يَقْبضُ العِلْمَ انْتِزاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ )). ثمّ ماذا: ((حَتَّى إذا لَمْ يُبْق عالماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوا بغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُوا وَأَضلُوا )).

فإذا فُقِد العالم، ضاعت للحقّ جلّ المعالم .. وانظر مصداق ذلك في قول أبي القاسم صلّى الله عليه وسلّم وهو يخبرنا بزوال العاصم وظهور القواصم: (( إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا )). يظهر كلّ ذلك عند زوال أو نقص العلم !

وكلّما مات عالم من العلماء - خاصّة في هذا الزّمان -، تذكّرنا هذا الحديث، وسعينا إلى تذكير النّاس به السّعي الحثيث .. إذ هو من دلائل نبوّة سيّد الأنام، وإنذار لأمّة الإسلام، بأوان رفع العلم وظهور الجهّال، وقبض العلماء وانتشار أئمّة الضّلال.

ولكنْ .. هل المقصود من قبض العلماء، هو مجرّد موتهم ؟ هل المقصود من قبض العلماء هو مجّرد ذهاب أجسادهم وذواتهم ؟

فاعلموا أنّ من مظاهر قبض العلماء في هذا الزّمان هو قبض علمهم بالصدّ عنهم، والوقوف بين النّاس وبينهم، شأن كلّ قاطع طريق، ينتحل وجه الخليل والصّديق، فتنادوا كلّ حين بين العباد:{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}..

بل كثيرا ما يتبنّون التّهديد، ويجهرون بالوعيد، فقالوا: من لم يقل بقولنا فليس منّا:{لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}..

ولسان حال العقلاء، وأصوات كثير من الحكماء، تذكّرهم بنعمة الله عليهم، وبالخير الّذي لديهم: كيف كثّر الله أهل السنّة بعد قلّة، وكيف نشر دعوتهم بعد أن كانوا ثلّة:{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.

- فتذكّر عاقبة المفسدين ..

- وتذكّر أنّ الله قرن عقوبة قتل العلماء، بعقوبة قتل الأنبياء، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ..

وأكّد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الوعيد على ذلك، فقد روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا )).

لأنّ قتل الأنبياء إطفاء لنور الوحي والهدى، وإضرام نار الغيّ والرّدى .. فقِس العالم التقيّ النقيّ، على الرّسول والنبيّ ..

ثمّ قِسِ إماتة أجسادهم، بإماتة علمهم وذكرهم، وليس في العلّة من خفاء، إلاّ على أهل البغي والجفاء، فالعلماء للأنبياء خلفاء.

فلْيعلم كلّ من حذّر من مجالس العلماء والدّعاة، أنّه من قطّاع الطّرق والبُغاة، وأنّه بلمزه لهم، وتحذيره للنّاس منهم، أنّه أداة لقبض العلم، أصاب الدّين بالثّلم، ورحم الله الحسن البصريّ القائل:

" كانوا يقولون: مَوْت العالِم ثُلمة في الإسلام لا يسدّها شيء ما اختلف اللَّيل والنّهار ".

فتأمّل هذه العبارة، والحرّ تكفيه الإشارة ..

-                    النّداء الثّاني: تذكّر حقوق العلماء والدّعاة:

وإنّ معرفة حقوق المسلم على المسلم لمن أعظم الواجبات، ومن أجلّ الطّاعات والقربات، وكيف لا، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ )) ..

وروى التّرمذي وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ )).

فإذا كان هذا حقّ كلّ مسلم على المسلم، فكيف بحقّ أهل العلم ؟!

من ذلك:

1-حبّهم: فحبّهم قربة من القربات، وطاعة من الطّاعات، فهم ورثة الأنبياء، وسادة الأتقياء، قال ابن المبارك: ( كُنْ عَالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً، أَوْ مُحِبًّا لَهُمَا، وَلاَ تَكُنْ الرَّابِعَ فَتَهْلَكَ ).

وصدق رحمه الله تعالى، وكأنّه استنبط ذلك من الحديث الذي رواه التّرمذي بسند حسن عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ ما فِيهَا، إلاَّ ذِكرَ الله تَعَالى، وَمَا والاهُ، وَعَالِماً، أوْ مُتَعَلماً )).

قال أهل الحكمة والحلم: لا يُنال السّؤدد ولا العزّ إلاّ بالعلم، لذلك رفع الله قدر الأنبياء والعلماء، فكانوا في درجاتٍ ما بينها كما بين الأرض والسّماء، فمن أخذوا علمهم ورثوا ما عندهم، ومن أحبّوهم رُضِخَ لهم، إلاّ من آذاهم وجعل عرضهم فيئا، فـ: (( لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا )).. فمحبّ أهل العلم مرحوم محبوب، ومبغضهم محروم محجوب.

2-توقيرهم واحترامهم:

فقد أوجب الله لهم التّقدير والاحترام، والإجلال والإعظام، وجعل حرمتهم من أعظم الحرمات، قال الله تعالى:{وَمَن يُعَظِّم حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ}، وقال:{وَمَن يُعَظِّم شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ}.

فما فضّل الله تعالى آدم على ملائكته الكرام، إلاّ بالعلم، قال تعالى:{وَعَلّمَ آدَمَ الأَسمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى المَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسمَاءِ هَؤُلاَءِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ}، فلمّا عجزت الملائكة، قال تعالى:{قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئهُم بِأَسمَائِهِم..}، حتّى قال:{وَإِذ قُلنَا لِلمَلاَئِكَةِ اسجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا..}، فوالله ما كانت خيبة إبليس إلاّ من تركه لهذا الأدب، فكان من الملعونين إلى أبد الآبدين.

وقد روى الإمام أحمد والحاكم عن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ )).

3-ذكرهم بالجميل:

مع الأموات منهم رحمهم الله، ومع الأحياء، وسواء طلب على أيديهم العلم أم لم يطلبه عليهم، قال الإمام الطّحاوي رحمه الله تعالى وهو يبيّن عقيدة السّلف الصّالح رحمة الله عليهم أجمعين:

" وعلماء السّلف من السّابقين، ومن بعدهم من التّابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنّظر، لا يُذكرون إلاّ بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل ".

أي ضلّ عن سبيل المؤمنين الذي أوعد الله تعالى الحائد عنه قائلا:{نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}.

فينبغي للمسلمين عامّة، وطلاّب العلم خاصّة، أن يحفظوا هذا الحقّ لهم، وإذا ذكروهم في مجالسهم أن يذكروهم بالجميل، لأنّه إذا كان حفظ عرض المسلم الذي هو من عامّة المسلمين فريضة ينبغي حفظها، فكيف بالعلماء.

وبمجرّد ما تحسّ من جليسك أنّه يريد أن ينتقص عالما، ففِرّ بدينك قبل أن يسلبك شيئا من حسناتك، وانج بنفسك لأنّ الحرب قد أعلنها على نفسه ( من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب ). وإذا لم يغَر المسلم لله على العلماء، فعلى من يغار ؟ فهم صفوة الله وأحبّاؤه، وخيرة خلقه وأولياؤه.

4- ذكرهم بالإجلال والتّعظيم:

فتذكره بالعلم، والإمامة، وتشرّفه وتكرّمه، تقول قال الإمام رحمه الله، وقال الشّيخ، وتميّزه عند ذكره عن عامّة النّاس بهذه الألقاب، فإنّ الله أدّب أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:{لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}، والعلماء ورثة الأنبياء، فلا يقال: قال فلان وفلان..يذكره باسمه مجرّدا.

الخطبة الثّانية.

5- الاعتناء بردّ الجميل لهم:

فمن نحن لولا الله U ثمّ علم هؤلاء العلماء ..؟! ومن نحن لولا الله ثمّ هؤلاء الأئمّة الذين فسّروا لنا كتاب الله، وبيّنوا لنا أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟..

وقفوا عند كلّ كلمة من كتاب الله وسنّة نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، بيّنوا حلالها وحرامها، بيّنوا ناسخها ومنسوخها .. بيّنوا حدودها ومحارمها .. وبيّنوا حقوقها وواجباتها، فرحمة الله عليهم أحياء وأمواتا، ونسأل الله ربّ العرش الكريم أن يُسبغ عليهم شآبيب الرّحمات، وأن يوجب لهم علوّ الدّرجات، وأن يجمعنا بهم في رياض الجنّات.

فينبغي للمسلم إذا قرأ كتابا أو استمع إلى كلام عالم أن يترحّم عليه ويدعو له، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( مَنْ صَنَعَ لَكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَادْعُوا لَهُ )).

تمرّ عليك المسألة في الأحكام .. ويمرّ عليك حديث من أحاديث المصطفى عليه الصّلاة والسّلام، لا تدري أهو صحيح أم ضعيف ؟!..ث مّ لا تدري ما المراد منه..؟! أهو عامّ أم خاصّ..!؟ أهو مطلق أم مقيّد..؟!

فإذا وقفت أمام كلام العالم، أدركت حقيقة المراد، فما تملك إذا اطّلعت على هذا الخير إلاّ أن تقول: رحمة الله على فلان..!

6- نشر فضلهم بين الأحياء:

وهذا من أوكد الحقوق على النّاس للعلماء، لأنّ فيه ربطا للنّاس بعلمائهم، وتعريفا لهم بأمجادهم، وهذا له صور متعدّدة:

- مطالعة سيرهم: ونشأتهم، ومعرفة مؤلّفاتهم، ورحلاتهم في طلب العلم، حتّى ذكر ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى أنّ من الأمور التي ينبغي لطالب العلم معرفتها والاعتناء بها تاريخ ولادتهم ووفاتهم، وهذا الأدب أصبح اليوم آكد من أيّ وقت آخر، في زمن عُظّم فيه السّفهاء والماجنون، والبلهاء واللاّعبون.

- نسبة العلم إليهم: فإذا قرأت فائدة أو نقلت علما نبّه عليه إمام من أئمة الدّين، كان من الحقّ له عليك أن تُنوّه بفضله في ذلك، فتقول: كما قرّره شيخ الإسلام فلان، وكما بيّنه الحافظ فلان، ولا توهم النّاس أنّ الفضل - بعد الله - لك وحدك، وإنّما عليك أن تُنصفهم، وتذكر مآثرهم، وتبيّن فضلهم. هذا ما يعرّف النّاس قدر العلماء، ويجعلهم يدركوا فضلهم ويغاروا عليهم من أن يُنتقصوا وأن يهانوا.

7- والاعتذار لهم في الأخطاء:

ونقصد بهم أئمّة الكتاب والسّنة على سير وفهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن تبعهم بإحسان، الذين عُرِفوا بتحرّي الاستدلال من هذا المعين الصّافي، والمنبع الكافي:

- لا يقدّم في باب العقائد قواعد أهل الكلام على كلام ربّ البريّة.

- ولا يقدّم في باب الأحكام الشّرعيّة آراء الرّجال على النّصوص الشّرعية.

- ولا يقدّم في باب السّلوك والتّربية خرافات الصّوفيّة.

- ولا يقدّم في مجال الدّعوة وطريقِها الأفكار البشريّة والسّياسات الوضعيّة والنّزعات الحزبيّة.

فإذا علمت أحدا هذه طريقته في الاستدلال، فهو السّنّي وإن أخطأ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن وقع في بدعة من البدع:

" ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولا يفارقون به جماعة المسلمين يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك.

ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة.

بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين، وكفّر وفسّق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحلّ قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات..."[1].

ويقصد بقوله رحمه الله:" ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة ..." الخ، بعض بحار هذا الدّين، كعكرمة، والثّوري، وسعيد بن جبير، والضّحاك، وغيرهم كثير ممّا لا يمكن إحصاؤه.

إذن فهذا الكلام عن المقتدين بالكتاب والسنّة، أمّا المتّبعون لأهوائهم من المبتدعة وغيرهم، فليس على مثلهم يُلوى، ولا على مثلهم يحزن.

فموقف المسلم من خطأ هؤلاء أن يكون وسطا بين الإفراط والتّفريط:

فهناك طائفة فرّطت فقالت: نسكت على الأخطاء والزلاّت، ونغطّي الهفوات والهِنات !

وطائفة أفرطت قالت: لا بدّ من التّشهير بهم والتّحذير منهم !

والحقّ وسط لا نقص ولا شطط .. فلا بدّ من بيان الخطأ لكن في أدب ..

فبيان الخطأ واجب شرعيّ، وهو من الميثاق الذي أخذه الله تعالى من العلماء، ولا يزال العلماء سلفا وخلفا يتكلّمون في المسائل المختلف فيها، ويبيّنون الصّواب، ويدمغون به الباطل.

ولكن لا بدّ من الأدب والرّفق في النّصح وبيان الخطأ، لأنّ الحقّ بطبعه ثقيل، فإذا أسبغت عليه طابع الشّدة نفر منك السّامع، ولم يتحقّق المقصود وهو بيان الحقّ والدّعوة إليه.

هذا حقّ المسلم على المسلم أن يجد الأعذار كلّ منهما للآخر، وأن يعطف كلّ منهما عل الآخر، وأن يحبّ كلّ منهما الخير للآخر، ما دام الجميع قد أجمع على أنّه لا معصوم من البشر، والكمال المطلق لله تعالى.

فالعالم أولى بهذا الحقّ من غيره، إذ فضلهم مشهور، وذنبهم بعد الاجتهاد مغفور.

واقرأ في كتب الأئمّة الأعلام الذين ملؤوا الدّنيا بمصنّفاتهم، تجد الأدب الجمّ .. تجد التّواضع .. تجد الاحترام والتّقدير والإجلال .. تجد حفظ الفضل لأهله - ولا يحفظ الفضل إلاّ من كان من أهله -.

تجد الأئمّة الحفّاظ إذا اطّلعوا على شيء قالوا: وقد قال فلان - عفا الله عنه - كذا، كلّ ذلك من باب الأدب، ولذلك قال الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم:{عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَا أَذِنْتَ لَهُمْ}، فقدّم له المغفرة والعفو قبل العتاب واللّوم، لذلك ينبغي التّأدّب مع الأئمّة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

روى الخطيب رحمه الله في " الكفاية ": عن ابن المسيّب قال: ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلاّ وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله.

ومن الكلام الذّهبي للإمام الذّهبيّ في ترجمة محمّد بن نصر قوله:" ولو أنّا كلّما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورا له، قمنا عليه وبدّعناه وهجرناه لما سلِم معنا ابن نصر ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هادي الخلق إلى الحقّ، وهو أرحم الأرحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة ".

قال ابن القيّم رحمه الله تعالى في "مدارج السّالكين"(1/312):

" فلأهل الذّنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهّرون بها في الدّنيا، فإن لم تف بطهرهم طُهِّروا في نهر الجحيم يوم القيامة:

نهر التوبة النّصوح، ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها، ونهر المصائب العظيمة المكفّرة.

فإذا أراد الله بعبده خيرا أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة فورد القيامة طيبا طاهرا فلم يحتج إلى التطهير الرابع "اهـ.

وقال ابن تيمية رحمه الله وهو يحقّق تحقيقا ماتعا القاعدة في التعامل مع المخالف، ويبيّن وجوب التفريق بين ما يسطّره وبين شخصه:

" فيجب بيان الخطأ المسطور وردّه أمّا الشخص:

- فقد يكون صادقا في خدمة الدين ولا يتعمد الكذب.

- وقد يجتهد ويكون ما قاله هو مبلغ علمه أو مقلدا.

- ملاحظة ما مات عليه فقد يكون قد تاب.

- ملاحظة الجهود المبذولة في نصرة الحقّ. "اهـ

وقال ابن القيّم في "مفتاح دار السّعادة" (1/176):

" من قواعد الشرع والحكمة أيضا أنّ من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنّه يحتمل له مالا يحتمل لغيره، ويعفي عنه مالا يعفي عن غيره، فإنّ المعصية خبث والماء إذا بلغ قلّتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه لا يحمل أدنى خبث، ومن هذا قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعمر: (( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ )).

الشّاهد – معاشر الإخوة الكرام – أنّه يحرم تتبّع عثرات العلماء، والتنقيب عن أخطائهم، والتّشهير بهم، والحطّ من مرتبتهم، فإنّه نقص كبير وشرّ مستطير.

روى أبو داود عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ ! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ )).

ومن محاسن ما ذكره العلماء، ما رواه البيهقيّ في " شعب الإيمان " أنّ سفيان بن حسين رحمه الله قال: ذكرت رجلا بسوء عند إياس بن معاوية، فنظر في وجهي وقال: أغزوت الرّوم ؟! قلت: لا، قال: أغزوت السّند والهند والتّرك ؟ قلت: لا، قال: سَلِم منك الرّوم والهند والسند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم ؟! فلم أعُد بعدها أبدا.

وقال ابن المبارك: المؤمن يلتمس المعاذير، والمنافق يتتبّع الزّلاّت.

وقال آخر: المؤمن يستر وينصح، والمنافق يهتِك ويفضح.

وسبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله أنت، أستغفرك وأتوب إليك.



[1]- انظر كلامه مطوّلا في " مجموع الفتاوى " (3/349).

أخر تعديل في السبت 14 ذو الحجة 1431 هـ الموافق لـ: 20 نوفمبر 2010 22:18

Your are currently browsing this site with Internet Explorer 6 (IE6).

Your current web browser must be updated to version 7 of Internet Explorer (IE7) to take advantage of all of template's capabilities.

Why should I upgrade to Internet Explorer 7? Microsoft has redesigned Internet Explorer from the ground up, with better security, new capabilities, and a whole new interface. Many changes resulted from the feedback of millions of users who tested prerelease versions of the new browser. The most compelling reason to upgrade is the improved security. The Internet of today is not the Internet of five years ago. There are dangers that simply didn't exist back in 2001, when Internet Explorer 6 was released to the world. Internet Explorer 7 makes surfing the web fundamentally safer by offering greater protection against viruses, spyware, and other online risks.

Get free downloads for Internet Explorer 7, including recommended updates as they become available. To download Internet Explorer 7 in the language of your choice, please visit the Internet Explorer 7 worldwide page.