الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فيمكن أن يفهم هذان الحديثان على ثلاثة أوجه:
- الوجه الأوّل:
وهو ما جاء ذكره في سؤالكم، لأنّه محتمَل، ففضل الله واسع، قال المولى تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
قال الإمام البهوتي رحمه الله في " دقائق أولي النّهى " (1/466) وهو يتحدّث عن إطعام الصّائم وغيره:
" وكونها في وقت حاجة أفضل لقوله تعالى:{ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ }، وفي كلّ زمان ومكان فاضل كالعشر الأول من ذي الحجّة، وكالحرمين أفضل لكثرة التّضاعف ...".
ونظائر ذلك كثيرة جدّا، كحديث: (( الدَّالُ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ ))، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ:
عَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْماً فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، ويَعلَمُ للهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ.
وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُـوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَواءٌ )).
- الوجه الثّاني:
يحتمل أنّ له أجر صوم من فطّرهم فقط، دون ما يزيد على ذلك من مكفّرات.
فإنّ الأحاديث الّتي تثبت أجر الدالّ على الخير أنّه كفاعله، ومتمنّي الخير كفاعله، ومفطر الصّائم له أجر الصّائم، ونحوها، فإنّ معناها استواؤهم في أصلِ أجرِ العمل، دون مضاعفته، فالمضاعفةُ يختصُّ بها من عَمِلَ العمل وباشره, دون غيره.
[نبّه على ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله في " جامع العلوم والحكم "].
- الوجه الثّالث: لقائل أن يقول:
إنّ الّذي يفطّر عددا من الصّائمين يوم عرفة له أجر صومهم فقط، ولكن لا يكفّر عنه ذنوبَ سنتين إلاّ صيامُه هو، والله تعالى يبدله تكفير ذنوب سنتين حسنات، وذلك من أجره العظيم وثوابه العميم.
ونظير ذلك: ما لو صام في تلك السّنة يوم عرفة الّذي يكفّر عنه سنتين، ثمّ صام عاشوراء الّذي يكفّر سنة واحدة، فلا يمكن أن يقال: إنّه في تلك السنّة كفّرت عنه ذنوب ثلاث سنوات ؟! إذ لا قائل بذلك.
وإنّما الّذي ذكره العلماء: أنّ الأعمال الّتي جعل الله أجرها كفّارةً للذّنوب، إن صادفت محلاّ - وهي الذّنوب - كفّرتها، وإلاّ بدّلت سيّئاته حسنات.
ونظير ذلك ما رواه مسلم عن عثمان رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَكَانَتْ صَلاَتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى المَسْجِدِ نَافِلَةً )).
قال ابن رجب رحمه الله في " فتح الباري " (6/615):" أراد بالنافلة: زيادة في حسناته؛ حيث كانَ الوضوء مكفّرا للذّنوب ".
أي: إنّ الوضوء كفّر الذّنوب، والصّلاة والمشي إليها لم يُصادفا ذنوبا لتكفيرها، فيبدّل التّكفير حسنات.
الحاصل: أنّه لمّا كان الأمر محتملا، فإنّه لا ينبغي الجزم بما جاء ذكره في السّؤال.
والله أعلم وأعزّ وأكرم، وهو الهادي إلى الّتي هي أقوم.