( العَنان )- بفتح العين المهملة -: هو السّحاب.
و( قُراب الأرض )- بضمّ القاف -: ما يقارب ملأها.
شرح الحديث:
هذا الحديث من أعظم أحاديث الرّجاء، الدالّة على سعةِ رحمة الله عزّ وجلّ وعفوِه.
- قوله: ( يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي ) أي: ما دمت على حالك هذه من الاستغفار والدّعاء بالمغفرة.
- ( وَرَجَوْتَنِي ) أي: رجوت إجابتي لدعائك ولم تكن من القانطين؛ لأنّه ربّما استغفر العبد وقال:" لن يغفر الله لي " ! وسنرى أنّه ألقى بنفسه إلى التّهلكة.
- ( غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ ) أي من المعاصي، وإن تكرّرت وكثُرت. فهو القائل سبحانه:{ قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزّمر: 53].
- ( وَلَا أُبَالِي ): أي والحال أنّي لا أستعظم مغفرتي لذنبك ولو كان ذنبا كبيرا أو كثيرا.
ومنه الأمر ذو البال أي: ذو شأن عظيم يُبالَى به. ومنه الحديث الّذي رواه البخاري عنْ مِرْدَاسٍ الأسلمِيِّ رضي الله عنه قالَ: قالَ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوْ التَّمْرِ، لَا يُبَالِيهِمْ اللَّهُ بَالَةً )). قال الخطّابي رحمه الله:" أي لا يرفع لهم قدرا ولا يقيم لهم وزنا، يقال: بَالَيْتُ بفلان وما بَالَيْتُ به مبالاةً وباليةً وبالةً ".
- ( لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ) بفتح العين أي: سحابها، كما قال المصنّف. وقيل: ما علا منها، أي ظهر لك منها إذا رفعت رأسك إلى السّماء.
- ( ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ ) بهذا الشّرط، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النّساء:110].
- ( إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ) بضمّ القاف وبكسر، أي بما يقارب ملئها، كما قال المصنّف رحمه الله.
- ( ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا ): كقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}؛ لأنّ المشركَ - ولو استغفر - كأنّه لم يستغفر.
وفي الحديث الّذي رواه مسلم عن عائشَةَ رضي الله عنها قالتْ: قُلْت: يا رسولَ اللهِ، ابْنُ جُدْعَانَ، كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ ؟ قالَ: (( لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ))، فإنّه كان يستغفر كغالب المشركين، ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم نفى عنه الاستغفار؛ لأنّه كان مشركا.
- ( لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ): هذا أقلّ ما يَعِدُ الله تعالى به عبادَه، وإلاّ، فإنّه سبحانه وتعالى قد وعد من شاء من عبادِه بأن تُبدّل سيّئاتُهم حسنات، فيلاقيهم بأكثرَ منها مفغرةً.
ولا ريب أنّ هذا الحديث فيه من الرّجاء ما لا يخفى، ولكن فيه تعظيمٌ للشّرك أيضا؛ لأنّ رحمةَ الله وسِعت كلّ شيء، إلاّ الشّرك به سبحانه وتعالى، فإنّه لا يغفره أرحم الرّاحمين !