رافعُ بنُ خَديجٍ: شهيدٌ يمشي على الأرض، ويعيش مع النّاس، يأكل ويشرب معهم، يصلّي ويصوم ويقاتل معهم.. وهو من شهداء أحد !
روى الطّبراني عن زوجة رافع رضي الله عنه قالت:" إِنَّ رَافِعًا رُمِيَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ أُحُدٍ بِسَهْمٍ فِي ثَنْدُوَتِهِ [والثّندوة: ثدي الرّجل]، فَأَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اِنْزِعْ السَّهْمَ. قالَ:
(( يَا رَافِعُ، إِنْ شِئْتَ نَزَعْتُ السَّهْمَ وَالقُطْبَةَ جَمِيعًا، وَإِنْ شِئْتَ نَزَعْتُ السَّهْمَ وَتَرَكْتُ القُطْبَةَ، وَشَهِدْتُ لَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ إَنَّكَ لَشَهِيدٌ !)).
قَالَتْ: فَنَزَعَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم السَّهْمَ وَتَرَكَ القَطَبَةَ، فَعَاشَ بِهَا حَتَّى كَانَ فِي خِلاَفَةِ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، فَانْتَقَضَ بِهِ الجُرْحُ فَمَاتَ..).
فها هو الآن مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحمل على صدره شهادته.. ولكنّه الآن هو والصّحابة يحملون على صدورهم رؤوسهم، فهم على موعد جديد مع النّعاس .. أَمْنٌ من جديدٍ يربط الله به على قلوب المؤمنين.
روى ابن إسحاق عن الزّبير بن العوّام رضي الله عنه قال: ( لقد رأيتُنِي مع رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم حين اشتدّ الخوف علينا، أرسل الله علينا النّوم، فما منّا من رجل إلاّ ذقنه في صدره، فوالله إنّي لأسمع قول معتب بن قشير - ما أسمعه إلاّ كالحلم - يقول: لو كان لنا من الأمر شيءٌ ما قتلنا ها هنا ! فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله تعالى: ...).
يقصد قول الله تعالى:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154].
نزلت هذه الآيات لتفضح هذا المنافق وبقايا المنافقين الّذين أبقاهم الخوف، وفضحهم الخوف .. وهذا الرّجل وأمثاله بقوا على ما هم عليه {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: من 16].
أمّا أولئك الّذين لاذوا بالفرار بعد نزول الرّماة، وحدوث الانتكاسة، فقد تابوا فتاب الله عليهم، وعفا عنهم، وأنزل قرآنا يصدع بذلك، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].
وانحاز كلّ جيش إلى معسكره.
ونهض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك ليستند إلى صخرة وحوله جماعة من الصّحابة، لكنّه صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يطّلع إلى ما آلت إليه المعركة، فحاول الصّعود على الصّخرة فلم يستطع، فقد كان مرهقا، وجريحا !
وهنا تذكّروا جرحه وعطشه.
فشرب النّبي صلّى الله عليه وسلّم وشرب من معه من الصّحابة..وحان وقت مداواة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
في الصّحيحين عن سهل رضي الله عنه قَالَ: ( كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم تَغْسِلُ الدَّمَ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنِّ ) تغسله كما غسلته من قبل أيّام مكّة.. قَالَ: ( فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ، فَأَحْرَقَتْهُ، حَتَّى صَارَ رَمَادًا، ثُمَّ أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ ).
أراد بعد ذلك أن يصعد على الصّخرة، وعاوده الإرهاق، ولا ننسى أنّه كان يضع دِرْعَين، فتأمّله طلحة رضي الله عنه وتأمّل يده الّتي فقدت أصابعها، فهانت عليه آلامه ومتاعبه وأسقامه: فأوجب الجنّة.
روى أحمد والتّرمذي وابن إسحاق وابن حبّان والحاكم - واللّفظ مركّب من رواياتهم جميعا - عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه قَالَ:
خَرَجْنَا مَعَ رَسُول الله صلّى الله عليه وسلّم فِي أُحُدٍ، وَكَانَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم دِرْعَانِ، فَنَهَضَ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَبَرَكَ طَلْحَةُ تَحْتَهُ، فَصَعِدَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الصَّخْرَةِ، قَالَ الزُّبَيْرُ رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( أَوْجَبَ طَلْحَةُ )). أي وجبت له الجنّة.
وبينما كان صلّى الله عليه وسلّم يتأمّل ما حدث من على الجبل، وارتفع على قمّته، أراد الله تعالى أن يرفعه في أعلى قمم الصّبر والحلم.
ففي الصّحيحين عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: شُجَّ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: (( كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ ؟!)) فَنَزَلَتْ:{لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: من 128].
فمسح قوله، ومسح حزنه، ومسح دمه، وجاء بدعاء كالغيث من السّماء، فقد روى ابن حبّان عن سَهْلٍ رضي الله عنه أنّه قال: (( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ )).
واستمسك الجرح وهدأت السّاحة .. وكانت طائفة من المسلمين قد حال بينها وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم العدوّ، فهم إلى الآن لا يدرون ما حدث له .. أهو في القتلى أو من أهل النّجاة ؟
روى الإمام أحمد عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه في حديثه الّذي مرّ معنا من قبل، وهو يقصّ الحدث عن بعض الصّحابة قال:
( فَمَا زِلْنَا كَذَلِكَ، مَا نَشُكُّ أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ، حَتَّى طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بَيْنَ السَّعْدَيْنِ - بين الجبلين - نَعْرِفُهُ بِتَكَفُّئِهِ إِذَا مَشَى، قَال:َ فَفَرِحْنَا حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يُصِبْنَا مَا أَصَابَنَا، قَالَ: فَرَقِيَ نَحْوَنَا وَهُوَ يَقُولُ: (( اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا )) حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا، فَمَكَثَ سَاعَةً، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يَصِيحُ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ:
اُعْلُ ! هُبَلُ ! مَرَّتَيْنِ- يَعْنِي آلِهَتَهُ -).
أطلق هذه الكلمات مُنْتَشِياً بنصرٍ مشكوكٍ فيه:
فقد هُزِم هو وجيشه في أوّل المعركة حتّى كاد الزّبير يَسْبِي زوجته هندَ ورفيقاتها ..
ولقد قتل من جيشه سبعون.. وقتل من المسلمين سبعون.. فأين النّصر المزعوم ؟!
ولا يزال في أيدي المسلمين أسرى من المشركين لا أحدَ يدري كم عددهم ؟ أمّا المسلمون فلم يؤسر منهم أحدٌ.. فلو كان ما يزعمه نصرا حقيقيّا لخلّص بعض جيشه من الأسر ..
ثمّ لماذا لم يطاردوا المؤمنين إلى المدينة ؟ وما أقربها من أُحُدٍ !
والمسلمون الآن هم الأعلون حِسّا ومعنًى .. وأبو سفيان أسفل الجبل يزعج جبل أحد بصراخه وشركه.
وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهاهم أن يجيبوه .. عندئذ أراد أن يستفزّهم، فنادى:
( أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ ؟ أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ أَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ ). فلم يجبه أحد.. عندها أصبح أكثر تعقّلا وتأدّبا ..
روى البخاري عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه:
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.. فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ:
أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.. ثُمَّ قَالَ:
أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا..
فَمَا مَلَكَ عُمَرُ رضي الله عنه نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ- وَاللهِ - يَا عَدُوَّ اللهِ ! إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ.
أي: قد بقي لك أنت ومن معك لترى ما فعلناه بكم، وكيف أكثرنا فيكم القتل.
وفي رواية أخرى قال: ( هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر ).
فقَالَ أبو سفيان: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، الأَيَّامُ دُوَلٌ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ..
فَقَال عُمَرُ رضي الله عنه: ( لاَ سَوَاءُ ! قَتْلاَنَا فِي الجَنَّةِ، وَقَتْلاَكُمْ فِي النَّارِ ).
فقال أبو سفيان: إِنّكم لتزعمون ذلك ؟ لقد خِبْنا وخسرنا إذاً.. ثمّ قال:
إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي.
ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: أُعْلُ ! هُبَلُ ! أُعْلُ ! هُبَلُ !
قَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا تُجِيبُوا لَهُ ؟ )) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا نَقُولُ ؟ قَالَ: (( قُولُوا: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ )).
قَالَ أبو سفيان: إِنَّ لَنَا الْعُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا تُجِيبُوا لَهُ ؟)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا نَقُولُ ؟ قَالَ: (( قُولُوا: اللهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ )).
عندئذ خسئت ألفاظ أهل الشّرك، وسقط تمجيد الأصنام أمام هذا التّوحيد النّقيّ الّذي لا تشوبه شائبة.
وانصرف المشركون عن أحد .. وقد يتساءل بعض المشركين في الطّريق .. وبعض المسلمين أيضا: لماذا لم ينتصر المسلمون يومَ أُحُدٍ ؟
والجواب عن ذلك نراه لاحقاً، إن شاء الله