شرح الحديث:
هذا الحديث ذكره رحمه الله لأمرين اثنين:
الأوّل: هو بيانُ فضلِ الاستغفار - وهو الفضل السّابع في الباب - أنّه: من صفات المتّقين الّذين وُعِدوا جَنّاتِ النّعيم.
والأمر الثّاني: أنّ الاستغفار من الذّنوب، يَحْسُن أن يكونَ بالقلب والقولِ كما مرّ، ويحسُنُ أيضاً أن يكونَ ببعضِ الأعمال الفاضلة، وعلى رأسِهَا صلاةُ ركعتين.
والشّاهد من هذا الحديث: أنّ اللّه جعل سبَقًا، فقال:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، فذكر من صفاتهم أنّهم:
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} وهي الكبائر.
{أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالصّغائر.
{ذَكَرُوا اللَّهَ}: تذكّروا نهي الله عن ذلك، وما أعدّه من العذاب لفاعل ذلك، فأقلعوا وندموا {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}.
ذلك لأنّهم علموا أنّ لهم ربّا يغفر الذّنوب {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} ؟
فتراهم إن وقعوا في الخطايا تابوا وأقلعوا {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
وهذا هو العلم النّافعُ حال الوقوع في مصايد الشّيطان، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
فالانحراف ليس هو الوقوع في المعصية، ولكنّ الانحراف هو ترك الاستغفار منها.
أمّا الّذين خلوا من العلم، فسيذكر لنا حالَهم الحديثُ الأخير في هذا الباب.
- وفي الحديث تعظيم عليٍّ رضي الله عنه لأبي بكرٍ رضي الله عنه، خلافا لمن يدّعي محبّة عليّ رضي الله عنه.
الحديث السّابع، والثّامن:
وَعَنْ بِلَالِ بْنِ يَسَارِ بْنِ زَيْدٍ، قالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
(( مَنْ قَالَ: " أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ " غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ )).
[رواه أبو داود، والتّرمذي، وقال: " حديث غريب، لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه "].
( قال الحافظ )[1]:
"وإسناده جيّد متّصل، فقد ذكر البخاري في "تاريخه الكبير" أنّ بلالاً سمع من أبيه يسار، وأنّ يسارا سمع من أبيه زيد مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد اختُلِف في يسار والدِ بلال، هل هو بالباء الموحّدة، أو بالياء المثنّاة تحت، وذكر البخاري في " تاريخه " أنّه بالموحّدة[2].
والله أعلم ".
ورواه الحاكم من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقال: " صحيح على شرطهما " إلاّ أنّه قالَ:
(( يَقُولُهَا ثَلاَثًا )).
شرح الحديثين:
هذا الفضل الثّامن: أنّ الاستغفار المقرون بصدق التّوبة والإخلاص فيها يصل إلى تكفير الكبائر.
- · قوله: ( فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ ): قال الطّيبي رحمه الله: " الزّحف: الجيش الكثير الذي يُرى لكثرته كأنّه يزحف".
ومعلومٌ أنّ الفرارَ من الزّحف كبيرة من الكبائر؛ للحديث الّذي رواه البخاري ومسلم عن أَبِي هرَيْرَةَ رضي الله عنه عنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ )) قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ: (( الشِّرْكُ بِالله، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ )).
وإنّ من الأعمال ما قد يصل إلى تكفير الكبائر، إذا اقترنت بالإخلاص والتّوبة الصّادقة.
وهذا الذّكر بالذّات تضمّن اسم الله الأعظم الّذي إذا دُعِي به أجاب وإذا سئِل به أعطى، بدليل ما أخرجه ابن ماجه عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ فِي سُوَرٍ ثَلَاثٍ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطه )). وأفادت رواية الحاكم أنّه يقول ذلك ثلاثا.
قال في "تحفة الأحوذي": " ينبغي ألاّ يتلفّظ بذلك إلاّ إذا كان صادقا، وألاّ يكون بين يدي الله كاذبا، ولذا روي أنّ المستغفر من الذّنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربّه" اهـ.
الحديث التّاسع:
وَعَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ لَهُ رجُلٌ:
يَا أَبَا عِمَارَةَ، {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، أَهُوَ الرَّجُلُ يَلْقَى العَدُوَّ فَيُقَاتِلُ حَتَّى يُقْتَلَ ؟ قَالَ:
( لاَ، وَلَكِنْ هُوَ الرَّجُلُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَقُولُ لاَ يَغْفِرُهُ اللهَ [لِي][3] ).
[رواه الحاكم موقوفا، وقال: " صحيح على شرطهما "].
شرح الحديث:
عبارات السّلف في مقصود هذه الآية ثلاث:
فمنهم من حملها على النّفقة، ومنهم من حملها على القنوط من رحمة الله، ومنهم من حملها على ترك القتال.
والحقّ أنّه لا تعارض بينها، قال ابن تيمية رحمه الله في " مقدّمة التّفسير " عن تفاسير السّلف:
"... تُذكرُ أقوالُهم في الآية، فيقعُ في عباراتهم تبايُنٌ في الألفاظ، يَحْسَبُها من لا عِلْمَ عنده اختلافاً، فيحكيها أقوالاً، وليس كذلك، فإنّ منهم من يعبّر عن الشّيء بلازِمه أو بنظيره، ومنهم من ينصّ على الشّيء بعينه، والكلّ بمعنى واحد في أكثر الأماكن، فليتفطّن اللّبيب لذلك، والله الهادي " اهـ.
أمّا القول الأوّل: فقد حكاه البخاري عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}: " نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ ". أي: في تركها.
والقول الثّاني: قول أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه، روى الترمذي وأبو داود عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ، قَالَ:
" كُنّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ، فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ ابْنُ عَامِرٍ رضي الله عنه، وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ رضي الله عنه، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ ! يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ! فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه فَقَالَ:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ فِينَا - مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ - لَمَّا أَعَزَّ اللهُ الْإِسْلَامَ، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحِهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ ). فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ رضي الله عنه شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ.
-القول الثّالث: قول النّعمان بن بشير والبراء بن عازب رضي الله عنهما، وقد ذكره المصنّف رحمه الله، قالا: " هُوَ الرَّجُلُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَقُولُ لاَ يَغْفِرُهُ اللهَ [لِي] ".
والصّواب - إن شاء الله -: أنَّه لا تعارض بين قول أبي أيّوب وقولِ حذيفة رضي الله عنهما؛ لأنّ الجهاد يكون بالمال وبالنّفس معاً، فهي نزلت في ذمّ ترك الجهاد بإنفاق المال أو بذل النّفس.
وحمل الطّبري قول النّعمان رضي الله عنه محملا طيّبا فقال: " إنّ الإنسان إذا لم يُنفق ولم يجاهد، فلربّما يقنط من رحمة الله، فنزل قوله تعالى:{وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أيْ: بِسُوءِ الظنّ بالله ".
وبهذا يكون معنى الآية -والله أعلم-: جاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، وتوبوا إلى الله ولا تظنّوا أنّه لن يغفر لكم، فإنّ سوء الظنّ تهلكة لا تقلّ عن التّهلكة الحاصلة بترك الجهاد.
أو يُقال: إنّ التّهلُكَة هي: معصية الله بترك أمره، والوقوع في نهيه؛ لأنّ الجامع بين ترك النّفقة، وترك الجهاد، والقنوط من رحمة الله، أنّها كلّها معصيةٌ لله.
ومن هنا نُدركُ أنّ الّذي يقع في المعصية أو يترك الأمر، خوفاً على نفسه أو ماله، مستدلاّ بهذه الآية ! يكون قد حمل الآيةَ على نقيضِها.
تمّ شرح كتاب " الذّكر"، ولله الحمد.
[1] أي: الإمام المنذريّ رحمه الله، وليس الحافظ ابنَ حجر كما قد يُتوهّم.
[2] قال الشّيخ الألبانيّ رحمه الله: " لم أره في " التّاريخ "، والمراد به "الكبير" عند الإطلاق، لا سيّما وقد سبق في كلامه مقيّدا به، ولا رأيت أحدا ذكر هذا الخلاف، والله أعلم. ثمّ إنّ ما نقله عن البخاري لا يُستفاد منه إلاّ الاتّصال الّذي ادّعاه المؤلّف، وأمّا الجودة فلا، لأنّها تستلزم سلامة الإسناد من الجهالة، وهي منفيّة هنا، فقد قال الذّهبي في يسار هذا: " لا يعرف "، وبلال مثله. لكنّ الحديث صحيح بالشّاهد الّذي بعده وبغيره ممّا أشرت إليه في الأصل. وخرّجته في " الصّحيحة " (2727)… ".
[3] قال الشّيخ الألبانيّ رحمه الله: "سقطت من الأصل والمخطوطة، واستدركتها من " المستدرك " (2/276)، و" الشُّعَب " (5/407)..".