أيّها المؤمنون، لقد بلغ شؤم الحساب بالأشهر الميلاديّة أن صِرنا لا نستشعر أيّام الله المباركة، فهذا شعبان يغفل عنه كثير من النّاس كما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولو لم يكن رمضان ركنا من أركان الإسلام لكان في طيّ النّسيان..
وهذا شوّال مرّ مرور الكرام مع أنّه من أشهر الحجّ التي قال فيها الله تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197].. تزوّدوا من الآن لقصد بيت الرّحمن .. ولكنّه مرّ ..
لذلك رأينا من الواجب علينا اليوم، ونحن على مشارف حجّ بيت الله الحرام أن نحرّك القلوب إليه، لتجتمع الأفئدة عليه، فنذكّر أنفسنا وإيّاكم بقرّة العينين، بذكر فضائل الحرمين الشّريفين.
فكما تعلمون أنّ لله خواص في الأمكنة والأزمنة والأشخاص، فهناك الأشهر الحرم وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجّة، ومحرّم، واحد فرد، وثلاثة سرد، هذا في الأزمنة، وفي الأمكنة هناك حرمان فقط لا ثالث لهما، وقد شاع اعتبار بيت المقدس ثالث الحرمين، وهو من وضع السّياسيّين، الذين ما راعوا حرمته ولا حرمة غيره..
وهذا لا يعني أنّه ليس له فضل، بل له فضائل، ولكن يحرم علينا أن ننسب للدّين ما ليس منه.
وموضوع خطبتنا اليوم إن شاء المولى: فضل البلد الحرام مكّة .. ونبدأ به لفضله على غيره.
فضل مكّة:
فقد استقرّ في نفوس المسلمين صغيرهم وكبيرهم، عظيمهم وحقيرهم شرف هذا البلد الكريم، ولكنّنا نزيد المؤمنين بيانا لهذه المكانة، عسى ولعلّ القلوب تتحرّك شوقا لبيت علاّم الغيوب .. ويظهر لنا ذلك من عدّة وجوه:
1- الوجه الأوّل: أنّ الله تبارك وتعالى أقسم به في كتابه تنويها بمكانته، وإشارة إلى نبوّة صفوة خلقه، فقال:{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)}، وما كان الله ليُقسم إلاّ بمعظّم لديه، وبمفضل إليه.
فيُقسم بالتّين والزّيتون إشارة إلى الأمكنة الثّلاثة العظيمة الّتي هي مظاهر أنبيائه ورسله أصحاب الشّرائع العظام، والأمم الكثيرة، فيكون القسم قد تناول الشّجرتين المباركتين ومنبتهما: وهو بيت المقدس، منبت عبد الله ورسوله وكلمته وروحه عيسى بن مريم عليه السّلام، كما أنّ طور سينين هو جبل طور سيناء مبعث عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السّلام، فإنّه الجبل الّذي كلّمه عليه وناجاه، ثمّ أقسم بالبلد الأمين: وهو مكّة مظهر خاتم أنبيائه ورسله سيّد ولد آدم وترقّى في هذا القسم من الفاضل إلى الأفضل.
وأقسم الله به في موضع آخر، فقال:{لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)}..
ولاحظوا كيف سمّاه أمينا .. وذلك هو الوجه الثّاني من وجوه تعظيمه:
2-الوجه الثّاني: أنّ الله حباه ببركة الأمن، فكان النّاس ولا يزالون يُتخطّفون من حوله وأهله مطمئنّون آمنون، قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67].. وقال في آية أخرى:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: من الآية57].. وقال ممتنّا على قريش:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش]..
وقد استقرّ ذلك في نفوس أهل الجاهليّة، حتّى كان الرّجل يلقى قاتل أخيه أو قاتل أبيه ويُعطيه الأمان تعظيما للحرم، ولذلك كان محرّما على المسلم أن يقتل الجانيَ الفارّ إلى الحرم، فكلّ من جنى جناية تستوجب القتل ثمّ فرّ إلى الحرم وجب الكفّ عنه، ولكن يُضيّق عليه ليخرج، فلا يباع شيئا ولا يعامل، إلاّ من بغى بها فإنّه يقتل بالحرم قال تعالى:{وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية191]..
وإن تساءلت أيّها المسلم عن حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وقَّاصٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم النَّاسَ، إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: (( اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ )).
فاعلم أنّ ذلك خاصّ به صلّى الله عليه وسلّم، لعِظم مكانته، فهؤلاء ما حكم عليهم بهذا الحكم إلاّ لأنّهم كانوا يشتمونه ويسبّونه، ومع ذلك فإنّ الله أباحها له في ذلك اليوم فقط، روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الخُزَاعِيّ قَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَقَالَ: (( إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ )).
بل انتقل هذا الأمن إلى الحيوان والجماد، فقد حرّم الله تعالى صيد مكّة، وقطع شجرها ونباتها، روى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا [هو النّبات الرّطب، فإذا يبِس فهو حشيش]، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا، إِلَّا لِمُعَرِّفٍ )) فَقَالَ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه: إِلَّا الْإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا ؟ فَقَالَ: (( إِلَّا الْإِذْخِرَ )).
ويذكر أهل العلم أنّ الجارح ليطلب صيده فإذا دخل الحرم تركه ..إنّها دعوة إبراهيم عليه السّلام:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} [البقرة: من الآية126].
3- الوجه الثّالث: أنّ الله قد حباه ببركة الرّزق، قال تعالى:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: من الآية57] فإنّ من تمام الأمن هو توفير الرّزق، وإلاّ لاقتتل النّاس لأجل الدّرهم والدّينار، وكيف لا تكون مكّة كذلك وهي منزل ضيوفه، والمقبلين عليه ؟..كيف لا تكون كذلك ودعوة إبراهيم لا تزال تُتلى على كلّ لسان:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: من الآية126]..
4- الوجه الرّابع: أنّ الله اختار مكّة لتكون موضع البيت الحرام، قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96] وجعله مناسك لعباده، وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد ومن كلّ فجّ عميق، فلا يدخلونه إلاّ متواضعين متخشّعين متذلّلين كاشفي رؤوسهم متجرّدين عن لباس أهل الدّنيا، وكفى أنّ به بيت الله عزّ وجلّ ..
فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده وأحبها إليه لما جعل عرصاتها مناسك لعباده، ففرض عليهم قصدها، وجعل ذلك من أوكد فروض الإسلام. فليس على وجه الأرض بقعة يجب على كلّ قادر السّعي إليها والطّواف بالبيت الذي فيها غير مكّة، وليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه وتحطّ الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود والرّكن اليماني.
5- الوجه الخامس: وجعل الله قصده مكفّرا لما سلف من الذّنوب، ماحيا للأوزار، حاطّا للخطايا، كما في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )).
ولم يرض الله لقاصده من الثّواب دون الجنّة، ففي الصّحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ )). وهذا يدلّ على أنّه بركة للأجور.
6- الوجه السّادس: أنّ الصّلاة في بيت الله الحرام يضاعف أجرها أضعافا مضاعفة، روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ))..فكم تعدل إذن ؟؟
روى ابن ماجه عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ )).
وهذا صريح في أن المسجد الحرام أفضل بقاع الأرض على الإطلاق.
بل إنّ أهل العلم قالوا: كما تضاعف فيه الحسنات، فإنّ السّيئات تضاعف فيه، وذلك لحرمة البلد الحرام، فقاصده هو أقرب ما يكون إلى الله، فهو قد عظمت عليه النّعمة، والمقرّر أنّه بقدر ما تعظم النّعمة، بقدر ما يعظم العقاب على كفرها، ألا ترون إلى أمّهات المؤمنين كيف أتمّ الله نعمته عليهنّ، خاطبهنّ قائلا:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [الأحزاب:30]..
أولا ترون أنّ أوّل من تُسعّر بهم النّار يوم القيامة العالم الذي لم يُخلص في علمه، والمجاهد الذي لم يُخلص في جهاده، والمنفق الذي لم يُخلص في صدقته ؟! ذلك لأنّ النّعمة قد عظمت عليهم..
ألا ترون إلى أنّ العبد إذا أتى الفاحشة فإنّ عليه نصف ما على الحرّ من العقاب، والحرّ عليه الحدّ كاملا، وذلك لتمام نعمة الله عليه بالحرّية، وهكذا ..
7- الوجه السّابع: ومن وجوه تعظيمه أنّه أحبّ البلاد إلى الله، روى أحمد والترمذي والنسائي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ مِنْ مَكَّةَ يَقُولُ لِمَكَّةَ: (( وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ )).
8- الوجه الثّامن: أنّ من خصائص مكّة كونها قبلةً لأهل الأرض كلّهم، فليس على وجه الأرض قبلة غيرها، قال تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: من الآية144] قال أهل العلم: أهل المسجد الحرام يستقبلون البيت، وأهل مكّة يستقبلون المسجد الحرام، ومن كان خارج مكّة يستقبل مكّة.
9- الوجه التّاسع: من خصائص الكعبه أيضا أنه يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر بقاع الأرض.
وأصحّ المذاهب في هذه المسألة أنّه لا فرق في ذلك بين الفضاء والبنيان لأدلّة كثيرة.
10- الوجه العاشر: ومن خصائصها أيضا أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض، قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]..
وفي الصّحيحين عن أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ ؟ قَالَ: (( الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ )) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ: (( الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى )).
وما من بُقعة في هذا البلد إلاّ وهي شاهدة على دعوة الأنبياء وشريعتهم، فما عُظّم مكان كما عُظّم عرفة، حتى إنّ الله تعالى ليدنو من عباده يباهي بهم ملائكته قائلا: اشهدوا أنّي قد غفرت لهم، جاء في صحيح مسلم عن عَائِشَةَ قالت إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ )).
ثمّ انظر إلى منى فتحوي أعظم الأيّام عند الله، فقد روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ )).
ثمّ انظر إلى تلك الشّعائر: كالطّواف ببيت الله، والسّعي بين الصّفا والمروة، وتقبيل الحجر الأسود، والصّلاة خلف مقام إبراهيم، والشّرب من ماء زمزم، ورمي الجمار، موضع كلّ ذلك البلد الحرام.
الخطبة الثّانية:
الحمد لله العليّ العلاّم، الذي فرض حجّ بيته الحرام، وأشهد أن لا إله إلاّ الله شهادة حقّ ندّخرها ليوم القيام، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله وصفيّه وخليله أفضل الخلق وسيّد الأنام، اللهمّ صلّ عليه وسلّم وبارك وزِد وعلى آله وأصحابه الكرام، وعلى كلّ من اتّبعهم بإحسان إلى أن يرث المؤمنون دار السّلام، أمّا بعد:
11-الوجه الحادي عشر: وممّا يدلّ على تفضيلها أنّ الله تعالى أخبر أنّها أمّ القرى، قال تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:من الآية92] وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]
فالقرى كلّها تبع لها، وفرع عليها، وهي أصل القرى، فيجب ألاّ يكون لها في القرى عديل، فهي كالفاتحة سمّيت أمّ القرآن، ولهذا لم يكن لها في الكتب الإلهية عديل.
12- الوجه الثّاني عشر: ومن خصائصها أنّها لا يجوز دخولها لغير أصحاب الحوائج المتكرّرة إلاّ بإحرام، وهذه خاصّية لا يشاركها فيها شيء من البلاد، وهو مذهب الجمهور، إلاّ من تكرّر دخوله لها لإقامة، أو تجارة، فهذا يدخلها بغير إحرام.
13- الوجه الثّالث عشر: أنّ الله جعل مكانه وقفا لجميع المسلمين، وأنّه لا يملكه أحد، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
لذلك كان مذهب الجمهور من أهل العلم أنّه يحرم بيع دياره وإجارتها، وكان عمر ينهى أيّام الموسم أن تُغلق بيوت مكّة، فما زاد عن حاجة أصحابها في السّكنى حرًم عليهم بيعه وإجارته..
14- الوجه الرّابع عشر: وقد ظهر سرّ هذا التّفضيل والاختصاص في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلد الأمين، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، ولهذا قال سبحانه:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: من الآية125] مثابة للنّاس أي: يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطرا، بل كلّما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقا:
( لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا )
فيا لله كم لها من قتيل وسليب وجريح !؟ وكم أنفق في حبّها من الأموال والأرواح ؟ ورضي المحبّ بمفارقة فلذّات الأكباد والأهل والأحباب والبلاد، مقدِّما بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطف والمشاقّ، وهو يستلذ ذلك كلّه ويستطيبه
( وليس محبا من يعدُّ شقاءه عذابا إذا ما كان يرضى حبيبه )
وهذا كلّه سرّ إضافة الله تعالى البيت إليه بقوله:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج 26]، فاقتضت هذه الإضافة الخاصة أن يكون مثابة:
أطْوِل به والنّفس بعد مشوّقـة إليه وهل بعد الطّـــــواف تــــدانـي
وألثم منه الرّكن أطلب برد ما بقلبي من شوق ومن هـيمــــــان
ما كان صدّي عنك صدّ ملالة ولي شاهد من مقلتي ولسـانـي
دعوت الصّبـــر بعـدك والبكـــا فلبّى البكاء والصّبر عنك عصـــاني
أيّها الإخوة والأخوات، إنّه الشّوق والغرام، إلى بيت الله الحرام، بدعوة نبيّ الله إبراهيم عليه السّلام:{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: من الآية37].
فاعزموا على قصده، وأجمعوا أمركم على حجّه، فإنّ العمر قصير، ولا ندري متى يقال لنا: إلى الله المصير..