-النّوع الأوّل: المرتفع جدّا الخارج عن العادة:
لأنّ في ذلك بطرا وفخرا وخيلاء وتنعّما نهى الشّرع عنه في كثير من النّصوص، ورحمة الله على الإمام الشّافعيّ القائل:
عليّ ثياب لو تباع جميعها بفلس *** لكان الفلـس منهـنّ أكْثـرا
وفيهنّ نفس لو يقاس ببعضـها *** نفوس الورى كانت أجلّ وأكبرا
-النّوع الثّاني: الرّديء جدّا الخارج عن العادة:
لذلك نرى بعض أهل العلم يسمّيه ( لباس الشّهرتين )، أي: الرّفعة والضّعة. وقد رُوِي في ذلك حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّه لا يصحّ، وإنّما هو من تسمية العلماء.
فيُنصح ويوعظ المتنعّمون بالزّهد والتّواضع والبذاذة، ويُنصح المتكلّف للزّهد الخارج به عن المعتاد بالوسطيّة، وإلاّ كان الترّفّه حينها أهون من إظهار الزّهد رياء وشهرة.
وكان بكر بن عبد الله المزنيّ رحمه الله يقول لمن يتظاهر بالزّهد رياء وسمعةً: البسوا ثياب الملوك، وأميتوا قلوبكم بالخشية.
-النّوع الثّالث: خلاف زيّ أهل بلده:
كمن يلبس لباس أهل اليمن، أو الحجاز، أو الهند، ونحو ذلك، بلْهَ ألبسةَ الكفّار.
وقد ذكر ابن مفلح رحمه الله عن الإمام أحمد أنّه رأى على رجل بردا مخلّطا بياضا وسوادا، فقال: ضع عنك هذا، والبَس لباس أهل بلدك، ثمّ قال: ليس هو بحرام، ولو كنت بمكّة أو بالمدينة لم أعِبْ عليك .. لأنّه لباسهم هناك.
لذلك، كان من لبس لباس الكفّار وموضاتهم أتى بمخالفتين: مشابهة الكافرين، ولباس الشّهرة.
وقال السّفاريني رحمه الله في " غذاء الألباب ":" يكره مخالفة أهل بلده في اللّباس، وينبغي أن يلبس ملابس بلده لئلاّ يُشار إليه بالأصابع" اهـ.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: كان يقال: كل من الطّعام ما اشتهيت، والبس من اللّباس ما اشتهاه النّاس "، والمقصود بالنّاس هم أهل الفطرة السّليمة والشّرعة القويمة، وقد نظم الشّاعر ذلك فقال:
إنّ العيون رمتـك مـذ فاجـأْتَها *** وعليك من شهـرة اللّبـاس لباس
أمّا الطعام فكل لنفسك ما اشتهت *** واجعل لباسـك ما اشتهـاه الناس
وسئل الحافظ جلال الدّين السّيوطي رحمه الله عن طالب علم تزيّا بزيّ أهل العلم، وهو في الأصل من قرى البرّ، ثمّ لمّا رجع إلى بلاده وعشيرته تزيّا بزيّهم وترك زيّ أهل العلم، هل يعترض عليه في ذلك أو لا ؟ أجاب بما معناه:
إذا اتّصف بالصّفتين فلا اعتراض عليه في أيّ الزّيّين تزيّا، لأنّه إن تزيّا بزيّ العلماء فهو منهم، وإن تزيّا بزيّ أهل بلده وعشيرته فلا حرج عليه اعتبارا بالأصل، ولأنّه بين أظهر عشيرته وقومه "اهـ.
-النّوع الرّابع: خلاف الزيّ المعتاد:
كمن لبس ثوبا مقلوبا، أو يجعل المقدّم مؤخّرا، والمؤخّر مقدّما، أو يقطع ثوبه ويمزّقه والعادة ترقيع الثّوب.
قال ابن مفلح رحمه الله في " الآداب الشّرعيّة ":" ويدخل في الشّهرة وخلاف المعتاد من لبس شيئا مقلوبا ومحوّلا كجبّة وقَباء، كما يفعله بعض أهل الجفاء والسّخافة والانخلاع، والله أعلم ".
-النّوع الخامس: اللّباس المزريّ بصاحبه:
قال ابن مفلح رحمه الله:" وقال في " المستوعب ": يكره من اللّباس ما يشتهر به عند النّاس ويُزري بصاحبه وينقص مروءته ".
ومن ذلك لباس الموضات المزريّة، كـ: البنكس pinks ، والرّاسطة، والهاوس، وفيها مخالفات عدّة كما لا يخفى.
- أمّا حكم لباس الشّهرة:
ففي ذلك حديثان:
-أوّلهما: قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ النَّارَ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ )).
-والثّاني قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ أُلْهِبَ فِيهِ نَاراً )).
[وهما صحيحان كما في " صحيح التّرغيب والتّرهيب " (2089)].
وذكر ابن عبد البرّ رحمه الله أنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: من لبس ثوب شهرة أعرض الله عنه وإن كان ثقة وليا.
وظاهر هذه النّصوص تحريم لباس الشّهرة لا مجرّد كراهته، جاء في " الآداب الشّرعية ":
" قال في " الرّعاية الكبرى " يكره .. خلاف زيّ بلده بلا عذر، وقيل يحرم ذلك وهو أظهر ".
ويمكن – والله أعلم - أن يكون لحكمه مرتبتين اثنتين:
1) التّحريم: وذلك متى اقترن بـ:
أ)الفخر، والمباهاة. ب) أو عكسها وهو التّظاهر بالصّلاح. ج) أو نوى به التميّز عن النّاس. د) أو كان من زيّ العجم.
فهذه أربع حالات.
2) الكراهة: إن خالف أهل بلده ولم يقصِد التّميّز عنهم ولم يقصد الفخر والمباهاة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وتكره الشهرة من الثياب وهو المترفع الخارج عن العادة، والمتخفض الخارج عن العادة؛ فإنّ السّلف كانوا يكرهون الشّهرتين: المترفّع والمتخفّض، وفي الحديث: (( مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ ))، وخيار الأمور أوساطها، والفعل الواحد في الظّاهر يثاب الإنسان على فعله مع النيّة الصّالحة ويعاقب على فعله مع النية الفاسدة ".
* أمّا علّة النّهي:
فإنّ هناك عللاَ وحِكَمًا كثيرة لذلك:
- أنّه يعيبه به الحُلماء والعقلاء.
- يزري به بين السّفهاء، والمسلم مأمور بصيانة عرضه.
- إنّه مظنّة الخيلاء وحبّ التمّيّز عن النّاس.
- أنّه يحمل النّاس على غيبته، قال السّفاريني في " غذاء الألباب ":" يكره مخالفة أهل بلده في اللّباس، وينبغي أن يلبس ملابس بلده لئلاّ يُشار إليه بالأصابع, ويكون ذلك حاملا لهم على غيبته فيشاركهم في إثم الغيبة له ".
- يُعرض الله عنه حتّى يضع ذلك اللّباس.
والله تعالى أعلى وأعلم، وأعزّ وأكرم.