قال الحسن رحمه الله:" إنّ الله جعل شهرَ رمضان مِضْمارا لخلْقِه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلّفَ آخرون فخابوا ! فالعجبُ من اللاّعب الضّاحك في اليوم الّذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون !".
القسم الأوّل: مغفورٌ له، وهو من صام حقّا، وقام صدقا، وترك مبطلاتِ الصّوم الحسّية والمعنويّة؛ صام بطنُه وفرجه وجوارحُه، وداوم على القيام، وأكثر من الأعمال الصّالحة من تلاوة القرآن، ومن الصّدقة، وفعل الخيرات، وحضور مجالس العلم، فهذا يقال له: هنيئاً لك، وثبّتنا الله وإيّاك على الطّاعة.
القسم الثّاني: مُبعَدٌ .. وهؤلاء أنواع:
- فمنهم من هو مُبعَد، وهو يعلم ذلك؛ لما انتهك من حرمة رمضان بالمعاصي الظّاهرة والباطنة.
- ومنهم من هو غافلٌ؛ لأنّه صام الشّهر وقامَه، وليس له إلاّ الجوع والعطش وطول السّهر، وذلك لعدم الإخلاص، فهو يصوم لأنّ ذلك بالنّسبة إليه عادة من العادات، ويقوم من غير خشوع.
- ومنهم من لا أجرَ له؛ لعدم صومِ جوارحه، فلا عينُه صامت، ولا أذنه ولا لسانه، وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )) [رواه البخاري].
- ومنهم من زاد على ذلك، فقعد في طريق أهل الإيمان يصدُّهم عن سبيل الله تعالى بأنواع الملاهي والشّهوات، فكأنّ مردةَ الشّياطين لمّا علِمت أنّها سوفَ تُصفَّد في هذا الشّهر المبارك، استخلفته وأوصته، وشدّدت عليه في الوصيّة.
وإلى جميع هؤلاء الأصناف نقدِّم تَعازِينا ! اقتداءً بابنِ مسعود رضي الله عنه الّذي كان يقول إذا انقضى رمضان:" مَنْ هَذَا المَقْبُولُ فَنُهَنِّيَهُ ؟ وَمَنْ هَذَا المَحْرُومُ مِنَّا فَنُعَزِّيَهُ !".
لكنّ باب التّوبة - والحمد لله وحده - لا يزال مفتوحاً، فمن ضيّع رمضانَ فلا يُضيِّعْ جميعَ عمره؛ قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ اللهَ عزّ وجلّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا )) [رواه مسلم].
الوقفة الثانية: هل تُقُبِّل مِنِّي ؟
قال عليٌّ رضي الله عنه:" كانوا لقبولِ العملِ أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل ! ألم تسمعوا الله عزّ وجلّ يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ} [المائدة:27]".
وقال فَضَالةُ بنُ عُبَيد رضي الله عنه:" لَأَنْ أكُونَ أعلمُ من الله قد تقبّلَ منِّي مثقالَ حبّة خردلٍ، أحبُّ إلَيَّ من الدّنيا وما فيها؛ لأنّ الله تعالى يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ}".
وهذا حال المؤمنين الصّادقين الّذين قال الله سبحانه في وصفهم:{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، وقد سألَت عائشة رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فقَالَتْ : أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ ؟ قَالَ: (( لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ، وَيُصَلُّونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ )) [رواه التّرمذي وابن ماجه].
قال مُعلّى بن فضيل:" كانوا يدعون الله ستّة أشهر أن يُبلِّغهم رمضان ! ثمّ يدعونه ستّة أشهر أن يُتقبّل منهم "، وقال يحيى بن أبي كثير:" كان من دعائهم: اللّهم سلِّمنِي إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان، وتسلّمْه منّي متقبّلا ".
ما هي علامة القبول ؟
أيّها المؤمنون، لنُحاسِبْ أنفسَنا قبلَ أن نُحاسَب، تعالَوْا نسألْ أنفسَنا هذا السّؤال: ما هي علامة القبول ؟
الجواب كما قال بعض السّلف:" ثواب الحسنةِ الحسنةُ بعدَها، فمن عمِل حسنةً، ثُمّ أتبعَها بحسنةٍ بعدَها، كان ذلك علامةً على قبول الحسنة، كما أنّ من عمِل حسنةً ثمّ أتبعها بسيئة، كان ذلك علامةَ ردِّ الحسنة وعدم قبولها ".
الوقفة الثالثة: احذر الفتور بعد رمضان.
أيّها المؤمنون، ليس انقضاءُ رمضان سبباً للفتور، إنّ رمضان محطّةٌ للتزوّد بالإيمان والتّقوى، محطّة نتزوّد منها لسائر العام، بل نجدّد فيه العهدَ لسائر العمر، إنّ رمضان فرصةٌ للتّغيير، لتغيير منهج الحياة كلِِّها.
فعلينا أن لا نترك الخيرَ بعد أن حُزناه، ولا نفتُرَ عن الطّاعة بعد أن ذُقْنا طعمَها، وضماناً للاستمرار، فقد رغّبنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الصّيام بعد رمضان فقال: (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ )) [رواه مسلم].
نعم قد انقضى رمضان، لكنّ الصّيامَ مشروعٌ في كلّ أيّام السّنة: الإثنين والخميس، وثلاثةَ أيّام من كلّ شهر، وغيرها من الأيّام المفضّلة.
نعم، قد انقضت ليالِي رمضان، لكنّ القيام مشروعٌ كلّ ليالي السّنة، قال تعالى:{كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذّاريات:17]، وقراءة القرآن وذكر الله تعالى ليس خاصا برمضان، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41]: ذكرا كثيرا مطلقا عن الزّمان والمكان.
نعم، قد انقضى رمضانُ، لكنّ الصدقة على العبد في كلّ يومٍ بعدد مفاصله، قال صلّى الله عليه وسلّم: (( يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ: فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى )) [رواه مسلم].
الوقفة الرابعة : ربّانيون، لا رمضانيّون.
أيّها المؤمنون، إنّه ليس للعبادة عطلةٌ، فعلينا أن نكونَ ربانيّين لا رمضانيين، قال تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثا} [النّحل:92]، فشبّه الله تعالى في هذه الآية الّذي يحلف ويعاهد ويُبْرِم عهدَه، ثمّ ينقضه، بالمرأة تغزل غزلَها وتفتله محكما، فتصنع بذلك الغزلِ قميصاً، أو ثوبا، فلمّا نظرت إليه وأعجبَها، جعلت تحلّه وتقطعُ خيوطَه وتنقضُها خيطاً خيطاً من دون سبب !
فمن ترك الغناء، والدخان، ومن ترك الكلام الفاحش، وأنواع اللّهو المحرّم، ومن ترك المعاصي الباطنة والظاهرة، عليه أن يشكر نعمةَ الله تعالى عليه، وأن يسأله الثّبات، وليحذر من أن ينطبق عليه هذا المثل، ومَثَلُ المنافقين الّذين يخادعون الله وهو خادعهم، ومَثَلُ من يعبد الله على شكّ، وإن الله تعالى يقول:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، أي: حتّى يأتيك الموت.
قيل لبشر الحافي:" إن قوما يتعبدون ويجتهدون في رمضان" فقال:" بئس القوم قوم لا يعرفون الله حقا إلا في شهر رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها ".
الوقفة الخامسة: أين أنا من أسرار الصوم ؟
أين أنت أيها الصّائم من أسرار الصّوم وثمارِه ؟
- إنّ رمضان مدرسة التقوى، فهل تخرّجْنا منه بشهادة التّقوى ؟
- إنّه شهر الصّبر، فهل تعلّمنا فيه الصّبرَ والمصابرةَ على الطّاعة وعن المعصية ؟ في رمضان صبرنا على طول القيام في النّافلة، فهل سنواصل القيام بعده ؟
- إنّه شهر الإخلاص، فهل تعلّمنا منه الصّدقَ مع الله تعالى في الأقوال والأعمال، والسرّ والإعلان ؟
- إنّه شهر المراقبة وبلوغ مرتبة الإحسان، بأن نعبد الله كأنّنا نراه، فإن لم نكن نراه فإنّه يرانا، فهل نحن كذلك ؟
- إنّه شهر الورع، فإنّنا نترك فيه مبطلات الصّيام، وما هو مختلف فيه، وما هو ذريعة للإفطار كالحجامة والمبالغة في الاستنشاق والسباحة والدواء الذي يوضع في العين والأذن، فهل بقي معنا هذا الورع بعد ذهاب الشّهر ؟
- إنّه شهر الزّهد والتقلل من الدنيا؛ لما فيه من تقليل الطّعام، والإكثار من الصّدقات، فهل حقّا صِرْنا من الزّهاد ؟
- إنّه شهر تزكية النّفوس، وترقيق القلوب، ورحمة الفقراء، فأين نحن من كلّ ذلك ؟
- إنّه شهر المنافسة في الخيرات والتجارة مع الله تعالى، كان بعض السلف إذا انقضى رمضان يقولون:" رمضان سوق قام ثمّ انفضّ، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر ". فهل نحن من الرّابحين أو من الخاسرين ؟
الوقفة السّادسة: وقفة مع سرعة الزّمن.
إنه قد جاء رمضان ليكون مدرسة نتعلّم فيها جميعَ ما ذكر في الوقفة السّابقة، وليكون محطّةً للتّوبة وتجديد العهد مع الله تعالى.
وقد ذهب شهر رمضان، وهو يعلّمنا درساً آخر، هو درس اغتنام الأوقات، وعدم تضييع الأعمار؛ ذلك أنّه ما منّا من أحدٍ يرى هذا الشّهر مرتحِلاً إلاّ قال: ماذا كسبت فيه وماذا عملت ؟
الّذي عمل يقول بعد مراجعته لنفسه: كان بإمكاني أن أعمل أكثرَ .. والّذي لم يعمل يقول: يا ليتني عملت !
إنّ ذهاب شهر رمضان يذكّرنا بعلامة من علامات السّاعة، وهي محْقُ بركة الزّمان وتسارعه، وقد أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: (( لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالجمُعَةِ، وَتَكُونَ الجمُعَةُ كَاليَوْمِ، وَيَكُونَ اليَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعْفَةِ )) [رواه الترمذي، وأحمد، وصحّحه الألباني].
إنّ رمضان إذا ارتحل وعظ النّاس الغارقين في مظاهر تضييع الأوقات الّتي لا خفاء فيها، ومنها:
كثرة الكلام فيما لا يعني ولا يفيد، ومشاهدة البرامج التي لا تنتهي عبر القنوات الفضائية، وملء الملاعب، وملء دور اللّعب الإلكترونية، والإفراط في النّوم، والترصّد للفتيات، وشرب الدخان والمخدّرات.
يعظهم بأنّه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يُسأَلَ عن عُمُرِه فيما أفناه ؟ وعن شبابه فيما أبلاه ؟
أيّها المسلم، إنّ رمضان بذهابه السّريع يُذكِّرك باقتراب أجلك، ويدعوك إلى اغتنام العمر، وعدم تضييع الأوقات، وإنّه ليذكِّرُكَ بقوله تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99-100]، وبقوله تعالى:{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 112-113].
فاللّهمّ تقبّل أعمالَنا، وأقوالَنا، وصيامَنا، وقيامَنا، واختِم بالصّالحات أعمارَنا، وآخرُ دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين.