الوقفة الأولى: أحوال النّاس هذه الأيّام.
فالنّاس في هذه الدّنيا أصناف ثلاثة، وهذه سنّة الله تعالى ولن تجد لسنّة الله تحويلا، ويجمعها قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لكُميل بن زياد:" النّاس ثلاث: فعالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، والباقي: همج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ".
كذلك النّاس هذه الأيّام، هم أصناف ثلاثة:
- صنفٌ قد منّ عليه العليّ العلاّم، ويسّر له كلّ المنى والمرام لقصد بيت الله الحرام.
فهذا الصّنف عليه أن يضع نصب عينيه قولَ الله العزيز الحميد:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]؛ فعليه أن يلهج لسانه بحمد الله، ويحرص على الإتيان بما يُرضِي الله، وذلك بالحرص على بعض الآداب الشّرعية، التي سنّها لنا ربّ البريّة:
1- مراعاة الإخلاص، فهو السرّ الذي بينك وبين الله، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5].
فلا يحجّ ليقال عنه حاجّ، ولا حياء من النّاس لأنّه لم يحجّ، بل يقصد بيت الله لأنّه تلبية لندائه وأمره، وإعلاء لتوحيده وذكره:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}.
2- يستخير الله عزّ وجلّ إذا همّ بالسّفر، فأنت تريد والله يريد ولا يكون إلاّ ما يريد.
وقد قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه - كما في صحيح البخاري ومسلم -: كانَ رَسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، يَقُولُ:
(( إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي. قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ )).
وقد يقول قائل: إنّ حجّ بيت الله الحرام من أركان الإسلام، والفرائض العِظام، فكيف يُستخار له، فنقول: الاستخارة هنا ليست لذات الفعل، وإنّما هي للملابسات التي تُحيط بالحجّ، كاختيار الطّريق، واختيار الرّفيق، واختيار اليوم، وغير ذلك، فهذا ممّا لا يُعلم خيره من شرّه.
3- ويكتب وصيّته:
وهذا ممّا فرّط فيه كثير من المسلمين، فالوصيّة نوعان: وصيّة واجبة فيما يتعلّق بأمور الدّين ويوم المعاد، وأمور الدَّين وحقوق العباد، قال عزّ وجلّ:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]..
روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنه أنّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ )).
فتوصي أهلك بتقوى الله تعالى في السرّ والإعلان، وبالثّبات على دين الواحد الديّان، وأن لا تنوح عليك نائحة، وأن يُسرع في تجهيز جنازتك، وأن لا يرفعوا قبرك ولا يُزخرفوه، وأن يحرصوا على المودّة والائتلاف، وأن يجتنبوا كلّ أسباب الفرقة والاختلاف، وغير ذلك من الأمور التي تُرضي العزيز الغفور.
وهناك وصيّة مستحبّة إن كنت تريد التبرّع لفقير أو مسكين أو لأحد من الأقربين.
4- أن يتعلّم أحكام الحجّ والعمرة، ويسأل عمّا يُشكِل عليه حتّى لا يقع في الخطأ.
فإنّ من شروط قبول العمل أن يكون صوابا، موافقا لسنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فكم من قائل لبيك لبّيك، والله يقول له: لا لبّيك ولا سعديك وعملك مردود عليك !
فإن عجز عن تعلّم ذلك، فعليه أن يستصحب معه كتاباً من كتب المناسك المُعتمدة الّتي كتبها المشهود لهم بالعلم، وعليه أن يحذر من شراء ما يسمّى بـ"كتب المناسك" الّتي تباع عند المواقيت، أو داخل مكّة؛ لأنّ فيها مخالفاتٍ كثيرةً.
5- أن يبدأ بالتّوبة إلى الله، وأن يعود ويؤوب إلى مولاه.
يقول تعالى:{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:104]، ومعنى ذلك أن يترك ما هو عليه من الحرام، وأن يعزم على عدم الرّجوع فيما هو عليه من المعاصي والآثام، وأن يندم على ما فاته من الأيّام.
فإن كان الذّنب متعلّقا بالعباد، فليُبادر إلى ردّ المظالم، وقضاء الدّيون، وردّ الودائع، روى البخاري ومسلم عن أبِي هريرَةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ )).
6- ينبغي أن يلتمس رفيقاً صالحاً محبّاً للخير معيناً عليه، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه، وإن ضاق صدره صبّره، ومن أراد الله له حسن الطّريق يسّر له حسن الرّفيق.
7- أن يؤمّر الرّفقاء عليهم أحدهم، وذلك لينتظم التّدبير.
فقد روى أبو داود عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ )).
8- التخلّق بمحاسن الخِلال، وطيبِ الخصال:
فينبغي للمسافر تطييبُ الكلام، وإطعام الطعام، وإظهار محاسن الأخلاق، فإنّ السّفر يُخرج خفايا الباطن؛ وقد روى ابن ماجه وأحمد عن جابِرٍ رضي الله عنه قال: قالَ رَسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ )). قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا الحَجُّ المَبرورُ ؟ قَالَ: (( إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الكَلَامِ )).
هذا ما يُوصَى به الصّنف الأوّل ليكونوا لله من الشّاكرين.
- الصّنف الثّاني: صنفٌ من النّاس لا يهتمّ ولا يبالي، شعاره في الحياة أهلي ومالي، فهذا لا شكّ أنّه من المحرومين؛ إذ دعاه الله إلى بيته الحرام، فقال: إنّي معذور وليس عليّ ملام، ولو دُعِي إلى باريس أو روما لقال: صلة الأرحام واجبة معلومة !
وقد روى ابن حبّان وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه أنّ رَسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: يقولُ اللهُ عزّ وجلّ: (( إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي المَعِيشَةِ تَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لاَ يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ )).
فنسأل الله لهذا الصّنف الاستقامة والهداية، وأن يُجنّبه الله تعالى أسباب الضّلال والغواية، فإنّ الله تعالى قال في كتابه:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: من الآية97]؛ فسمّى ترك الحجّ مع القدرة كفرا، قال سعيد بن جبير عندما فسّر هذه الآية: "لو مات لي جار موسِرٌ ولم يحجّ فمات لم أصلّ عليه"..
وقد يظنّ أنّه مستغنِ عن العليّ الجليل، وفي الحقيقة إنّما حبسه حابس الفيل ..
- أمّا الصّنف الثّالث: فهم الّذين اشتعلت قلوبُهم شوقا إلى بيت الله العزيز الغفّار، وحالت بينه وبينهم الأعذار.
وكيف لا يتحسّرون على فوات حجّ البيت الذي يعود منه العبد طاهرا نقيّا، عفيفا تقيّا، دون معصية كان قد اقترفها، أو كبيرة ارتكبها؟
فقد روى البخاري ومسلم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )).
كيف لا، والنّفوس تتلهّف لهذا اليوم المشهود، لتروي به غليلَها، وتشفي به عليلَها، وتطفئ به حرّها، وتلقي عنها ما قد ضرّها ؟
كيف لا، وكم من قلب يحنّ لتلك المقامات، فألقى لأجلها الآهات والحسرات، وأدلى له الدّموع والزّفرات ؟
كيف لا، وهناك تلين قلوب طالما تحجّرت، وتطهر نفوس طالما تلوّثت ؟
كيف لا، وتلك الأيّام أيّام دعاءٍ وتوحيد، وتلبية وتمجيد ؟
بل إنّه ما من عمل إلاّ وفيه ما تفتح به أبواب الجنان، وتغلق أبواب النّيران .. استمع إلى ما رواه الطّبراني عن ابن عمر رضي الله عنه قال:
كنت جالسا عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مسجد منى، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف، فسلّما، ثمّ قالا: يا رسول الله ! جئنا نسألك. فقال:
(( إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه )). فقالا: أخبرنا. فقال:
(( جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤمّ البيت الحرام وما لك فيه، وعن ركعتيك بعد الطّواف وما لك فيهما، وعن طوافك بين الصّفا وما لك فيه، وعن وقوفك عشيّة عرفة وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك فيه، وعن نحرك وما لك فيه )).
فقال: والذي بعثك بالحقّ عن هذا جئت أسألك ! قال:
(( إنّك إذا خرجت من بيتك تؤمّ البيت الحرام لا تضع ناقتك حُفّا ولا ترفعه إلاّ كتب الله لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة.
وأمّا ركعتاك بعد الطّواف كعتق رقبة من بني إسماعيل !
وأمّا طوافك بالصّفا والمروة كعتق سبعين رقبة !
وأمّا وقوفك عشيّة عرفة فإنّ الله ينزل إلى سماء الدّنيا فيُباهي بكم الملائكة يقول: عبادي جاءوني شُعْثاً من كلّ فجّ عميق يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرّمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر لغفرتها.. أفيضوا عبادي ! مغفورا لكم ولمن شفعتم له.
وأمّا رميك الجمار فلك بكلّ حصاة رميتَها تكفير كبيرة من الموبقات - وفي رواية:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السّجدة:17]-.
وأمّا نحرك فمدخور لك عند ربّك.
وأمّا حلاقُك رأسك فلك بكلّ شعرة حلقتها حسنة، وتُمحى عنك بها خطيئة.
وأمّا طوافك بالبيت بعد ذلك فإنّك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتّى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اِعمل فيما تستقبل، فقد غُفِر لك ما مضى )).
ولكنّ الله تعالى يبشّر هؤلاء الصّادقين وذلك ما نراه إن شاء الله بعد حين.
الخطبة الثّانية:
الوقفة الثّانية: بشرى للصّادقين .. بشرى إلى الّذين حبسهم العذر.
إلى الّذين اشتعلت قلوبهم شوقا إلى بيت الله العزيز الغفّار، وحالت بينهم وبينه الصِّعابُ والأعذار.
فليعلموا أنّهم غير محرومين، حالهم كحال من تعطّش للجهاد في سبيل الله وحبسه العذر قال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)}..
إلى هؤلاء نوجّه إليهم هذه الكلمات؛ ليعلموا أنّ الخير لن يفوت، وأنّ القلب لن يموت، وأنّ الله قد جعل لعبده من كلّ ضيق مخرجا، ولكلّ همّ فرجا.
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد *** سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر، وقد رحلوا *** ومن أقام على عذر كمن راحا
1- لا بدّ من جمع القلب وعقد النيّة على الحجّ، فإنّما لكلّ امرئ ما نوى، روى التّرمذي عن أَبِي كَبْشَةَ الْأَنَّمَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ:
(( الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ:
عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ.
وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ.
وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ.
وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ )).
وروى البخاري عن أَنَسٍ رضي الله عنه أنّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ فِي غَزَاةٍ فقالَ: (( إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ؛ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ )).
وروى مسلم والترمذي عن سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ )).
لذلك على المسلم أن يحدّث نفسه بحجّ بيت الله الحرام، والله قد قطع كلّ كلام ولجاج، في أن يُبلّغه منازل الحجّاج:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
2- السّعي، فهو الدّليل على النيّة.
فزيادة على الأماني والأمل، فلا بدّ من التّفاني في العمل، وذلك باغتنام مواسم العبادة والقربات، وأيّام الفضائل والدّرجات، فإنّ القلوب الصّادقة عليها أن تحرّك الأبدان لعبادة الواحد الديّان، انظروا إلى أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كيف كانت قلوبهم تحترق لبلوغ المنازل الغالية، والمطالب العالية.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: جَاءَ الْفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا وَيَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ؟! قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ !؟ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ )) .
فالّذي يجمع المال من الآن فإنّه ساعٍ، وبمثابة الخارج إلى الحجّ، روى أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: (( مَنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الحَاجِّ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ المُعْتَمِرِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ )).
وقد ذكر بعضهم أنّ طائرةً لدولة آسيويّة تحمل الحُجّاج وصلت إلى مطار جُدّة في الثّلث الأخير من اللّيل، فكان أوّل من نزل منها امرأة عجوز، فما إن وطِئت قدماها الأرضَ حتّى خرّت ساجدة، فأطالت السّجود كثيرا .. قال: حتّى خِفنا عليها، فلمّا اقتربنا منها وحرّكناها، إذا هي جُثّة هامدة، لله ساجدة، لا حياة فيها ! قال: تأثّرت لحالها، وعجبت من أمرها، فسألنا عنها، فقيل لنا: إنّها منذ ثلاثين عاما وهي تجمع المال درهما درهما لتحجّ به، وأمنيّتها الوحيدة أن تصل إلى بيت الله الحرام.
3- الحرص على الأعمال التي فيها أجر الحجّ أو العمرة، مثل:
أ) حضور مجالس العلم: فقد روى الطّبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (( مَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ أَوْ رَاحَ يَلْتَمِسُ عِلْماً يَتَعَلَّمُهُ، أَوْ يُعَلِّمُهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ الحَاجِّ تَامَّةٍ حَجَّتُهُ )).
ب) الحرص على صلاة الضّحى، فقد روى التّرمذي عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ الله حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ )).
وليعلموا أنّ الله تعالى قد عوّضهم خيرا كثيرا، وفضلا كبيرا، وذلك ما سنبيّنه في الوقفة الأخيرة.
الوقفة الثّالثة: فضل العشر الأُول من ذي الحجّة:
فإنّ الله تبارك وتعالى يقول في محكم تنزيله، وأحسن قيله:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62]. فلا يزال اللّيل والنّهار متعاقبين، يخلف أحدهما الآخر، لأجل صنفين من النّاس:
الأوّل: لمن أراد أن يذّكر ويتوب، ويتّعظ ويئوب، فيبسط الله يده باللّيل ليتوب مسيء النّهار، ويبسط يده بالنّهار ليتوب مسيء اللّيل، حتّى تطلُع الشّمس من مغربها.
والثّاني: أو أراد شكورا، يريد أن يضيف إلى رصيده الأعمال الصّالحات، لتمحى عنه السّيئات، وينال بها أعلى الدّرجات.
فنحن على مشارف شهر ذي الحجّة، أعظم أشهر الحجّ، فيه عشرة أيّام تُضاعف فيها الأعمال، وتتحقّق فيها الآمال، والنّصوص في فضله كثيرة:
أ) فمنها ما يدلّ على فضل الأيّام العشرة الأولى، كقول الله تبارك وتعالى:{وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} قال ابن عبّاس رضي الله عنه ومجاهد، والضحاك، وعكرمة، وعطاء : ( والفجر ) يريد صبيحة يوم النّحر، ( وليال عشر ) هي العشر الأول من ذي الحجّة، لأنّ آخر ليلة من لياليها هي ليلة عرفة، التي من أدركها فقد أدرك الحجّ.
ب) ومنها ما يدلّ على فضل تاسع هذه الأيّام، وهو يوم عرفة، وما أدراك ما يوم عرفة ؟! روى مسلم عن أبي قتادةَ أنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ: أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ )).
ت) ومنها ما يدلّ على أنّ اليوم العاشر منه أعظم الأيّام في السّنة، فقد روى أبو داود عنْ عبدِ اللهِ بنِ قُرْطٍ رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ تبارك وتعالى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ )).
ويوم القرّ هو اليوم الذي يلي يوم النّحر لأنّ النّاس يقرّون فيه بمنى.
لذلك أراد الله أن يدخل على قلوب عباده السّرور، ويثلج لهم الصّدور؛ فقد روى التّرمذي وأبو داود وغيرهما عن ابنِ عبَّاسٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ )) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ! وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ فقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
أوليتني نعـما أبـوح بشكـرها *** وكفيتني كل الأمور بأسرها
فلأشكرنّك ما حييت، وإن أمت *** فلتشكرنّك أعظمي في قبرها
فبماذا نتقرّب إلى الله هذه الأيّام ؟
أ) إنّ من أعظم الأعمال التي يرغّب الله تبارك وتعالى عباده فيها في مثل هذه الأيّام ذكر الله تعالى، قال تعالى:{ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: من الآية200]، فكان العرب في الجاهليّة في مثل هذه الأيّام يقصدون أسواق العرب ومحافلهم كعكاظ، ويشرعون في ذكر الآباء والأجداد ومفاخرهم، فأراد الله تعالى أن تكون هذه الأيّام أيّام ذكر له وحده لا شريك له، وأكّد الله تعالى ذلك في أيّام التّشريق، فقال عزّ و جلّ:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: من الآية203].
وتأمّلوا ما في الصّحيحين عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
((إِنَّ للهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ ! قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ...))، حتّى يقول للملائكة:
(( فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. فيقولُ مَلَكٌ مِنْ المَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ ! قال: هُمْ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ )).
أفلا تلحظون أنّ هذا الكلام وهذا الموقف يشبه تماما كلامَ الله وموقف عباده يوم عرفة ؟!
وممّا يدلّ على أنّ الله يريد أن يشابه المقيم الحاجّ:
1- أنّه شرع للمقيم أن يتقرّب إلى الله بالأضحية كما يتقرّب الحاجّ إلى الله بالنّسك.
2- نهى من أراد ونوى الأضحية أن يأخذ من أظفاره أو شعر بدنه شيئا، فقد روى مسلم عنْ أمِّ سلمَةَ رضي الله عنها أنَّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا [وَلاَ يَقْلِمَنَّ ظُفْراً] )).
قال العلماء: والحكمة في ذلك أن يتشبّه بالمحرم في بعض أحكامه.
3- الاجتماع في صلاة العيد كما يجتمع الحجّاج عند البيت المجيد.
ب) أمّا صيام هذه الأيّام فقد اختلف العلماء في ذلك، فأكثرهم قال: يستحبّ ويندب ندبا شديدا، لما رواه أبو داود والنّسائي عن أمِّ سلمةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم ( كَانَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الحِجَّةِ ).
هذا ونسأل الله الّذي بيده ملكوت السّموات والأرض أن ييسّر للمسلمين والمسلمات قصد بيته العظيم، وأن يختم لنا بالحسنى والخير العميم، وأن يرزقنا حلاوة ولذّة النّظر إلى وجهه الكريم، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.