كانَ نبِيُّ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا جَلَسَ، يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ.
فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ الحَلْقَةَ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ. ففَقَدَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فقالَ: (( مَالِي لَا أَرَى فُلَانًا ؟)) قالُوا: يا رسُولَ اللهِ، بُنَيُّهُ الّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ ! فَلَقِيَهُ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فسَأَلَهُ عنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ، ثمّ قال:
(( يَا فُلَانُ، أَيُّمَا كَانَ أَحَبُّ إِلَيْكَ: أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ ؟ )) قال: يا نَبِيَّ اللهِ، بَلْ يَسْبِقُنِي إلى بابِ الجَنَّةِ، فَيَفْتَحُهَا لِي، لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ. قال: (( فَذَاكَ لَكَ )) [صحّحه الألباني في "أحكام الجنائز" (162)].
زاد الحاكم:" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، جعلني الله فداك، أَله خاصَّةً أو لِكُلِّنَا ؟ قالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( بَلْ لِكُلِّكُمْ ))".
وتبلُغُ هذه البشرى بعضَ نساء الأنصار، فتأتيه وتسأله: بأبي أنت وأمّي، واثنان ؟ قال: (( وَاِثْنَانِ )) ["أحكام الجنائز" (164)].
هكذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جامعاً لكلّ خير، نهاره يتفقّد الرّعيّة، يتلو عليهم آيات ربّهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم .. فقد أرسله الله معلّماً وهادياً، مرشداً ومواسياً، حاكما وقاضياً، فأنّى له ذلك ؟!
فكان يقضي جلّ ليله مع ربّه عزّ وجلّ .. يناجيه ويناديه ليُلْهِمَه العونَ والتّوفيق والسّداد، وهو يسأله: (( اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ )) ["صحيح التّرغيب والتّرهيب" (1823)].
وكان عليه إلى جانب ذلك كلّه أن يحترِسَ من كيدِ من لا يزال على كفره من المشركين الثّائرين، واليهود الحاقدين ..
إنّه يتذكّر جيّدا أنّ هناك شجرة بالمدينة ستتطاير أشواكُها ..
- أمّا مشركو المدينة:
إنّه يتذكّر رأس المشركين عبدَ الله بنَ أبيِّ بنِ سلولٍ وأتباعه .. فيتساءل في نفسه: كيف السّبيل معهم ؟
فيلهمه الله تعالى بأمره قائلا:{وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب:48]..
فالإعراض هو الحلّ .. مهما بلغه من أذاهم ..
روى البخاري ومسلم عن أسامةَ بنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أنّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، فقالَ لهُ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
(( يَا سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ ؟ - يُرِيدُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ - قَالَ كَذَا وَكَذَا ؟!)).
قالَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ: يا رسُولَ اللهِ، اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ عَنْهُ، فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لَقَدْ جَاءَ اللهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ، ولَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا أَبَى اللهُ ذَلِكَ بِالحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللهُ، شَرِقَ بِذَلِكَ ! فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ.
فَعَفَا عنهُ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وأهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى، قَالَ اللهُ عزّ وجلّ:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} الآيةَ.
وقالَ اللهُ:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} إلى آخر الآيةِ.
وقد سبق أن ذكرنا أنّهم سيُعلِنُون الإسلام في الظّاهر بعد وقعة بدر..
- أمّا اليهود ..
فقد أحرقهم ما حدث من حولهم، ويموتون كلّ يوم بغيظهم.. ومع ذلك فقد عمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم معهم بأمر الله، فعفا وصفح.
بل أظهر لهم أنّهم لديه أفضل من عَبَدَةِ الأوثان، فكان يستقبل قبلتَهم بيتَ المقدس، ففي صحيح البخاري عن البرَاءِ بنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قال:" كانَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ".
بل كان لا يدع مجالاً فيه حقّ ممّا هم عليه إلاّ وافقهم فيه: روى البخاري ومسلم عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنه:
(( أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يَسْدِلُ شَعَرَهُ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ رُءُوسَهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم رَأْسَهُ )).
ثمّ زاد ذلك بيانا، فوافقهم في صيام عاشوراء، وقد كان يصومه أهل الجاهليّة، ولكنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ظنّ أنّه من شعار المشركين، فعلم بعد أنّه من شرع اليهود غير المبدّل، فصامه:
روى البخاري ومسلم عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قالَ: قدِمَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم المَدِينَةَ، فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: (( مَا هَذَا ؟ )) قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قال: (( فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ )) فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
عِبرٌ ثلاث:
- الأولى: كانت معاملة أهل الكتاب بالعفو والصّفح بحكم الله تعالى لأمرين:
الأوّل: بموجب الصّلح بينهم.
والثّاني: أنّه لم يُؤْذَنْ له بقتال؛ لأنّه في حال ضعف.
- الثّانية: لا نردّ الحقّ مهما كان مصدره. فترى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوافق اليهودَ فيما حقّ.
فهو صلّى الله عليه وسلّم لا يردّ الحقّ من أجل مصدره، وها هو يهوديّ يتقدّم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنصيحة حقّ، وما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليردّ الحقّ من يهوديّ:
روى النّسائي عن قُتَيْلَةَ امرأَةٍ من جُهَيْنَةَ أنّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ، وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، وَتَقُولُونَ: والكَعْبَةِ ! (( فأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم إِذَا أَرَادُوا أَن يحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَيَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتَ )).
سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الكلمات من هذا اليهوديّ، ولم ينفجر في وجهه غضباً، ولم يقل له: من أنت حتّى تعلّمنا ديننا ؟!
لم يقل له: لماذا لا تنصحون أنفسكم وأنتم تقولون: عزيرٌ ابن الله ! - تعالى الله عن ذلك -.
لم يقل له: أنت لست من أهل العلم حتّى تُفتِي.
لم يقل له: هذا من الشّؤون الدّاخليّة، ولا نقبل النّقد سوى من جماعتنا !
لم يتفوّه بشيء من ذلك كلّه .. وإنّما ضرب للصّحابة المثلَ الأعلى في قبول الحقّ.
وذهب الصّحابة بالأجر بهذه النّصيحة، كأنّها النّهر يغسل ثنايا القلب الّتي لا تزال فيها بقايا من الشّرك اللّفظي الّذي لا يقصدونه، وذهب اليهود بشركهم وكفرهم.
- الثّالثة: لا بدّ أن نلحظَ الفرقَ بين العبادات والعادات.
فحالة فرقِ الشّعر لم ينتظر فيها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحياً منزّلا؛ لأنّها من باب العادات، بخلاف الصّيام، فهو لم يصم عاشوراء لأنّ اليهود صامته، ولكنّه ثبت لديه أنّ موسى عليه السّلام صامه.
فهو يوافقهم فيما هو حقّ.. أمّا ما يراه أنّه مخالف للفطرة، أو مخالف للشِّرعة فلم يقلّدهم فيه ولو كانوا أهل كتاب..
فقد خالفهم في كثير من مظاهر الفطرة والشّرعة.. فأمر بإعفاء اللّحى، وحفّ الشّوارب، فقال كما في الصّحيحين عن ابنِ عمرَ رضي الله عنه عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى )).
وأمرهم بالصّلاة في النّعال، ففي سنن أبي داود عن شدّادِ بنِ أوسٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( خَالِفُوا الْيَهُودَ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ )).
وأمرهم بخضاب الشّيب بالحنّاء والكتم، ففي الصّحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: إنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ؛ فَخَالِفُوهُمْ )).
ورأى أصحابه عند التحيّة يشيرون بأيديهم ورؤوسهم فنهاهم، ففي سنن التّرمذي عنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو رضي الله عنه أنّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ )).
وخالفهم في معاملة النّساء، ففي صحيح مسلم عنْ أنسٍ رضي الله عنه أنّ اليَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، فسَأَلَ أَصحَابُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم فَأَنْزَلَ اللهُ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} إِلَى آخِرِ الآية، فقال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ ))، فَبَلَغَ ذَلِكَ اليَهُودَ فقالوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ!
وهذا ما كان يغيظ أهل الكتاب، والله تعالى يقول له:{وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: من الآية119].
فزادهم الله غيظا إلى غيظهم؛ فخالفهم صلّى الله عليه وسلّم في مظهر من أعظم شعائر الإسلام، ألا وهو: الأذان.
وهذا ما نراه لاحقا إن شاء الله.