يقول الله تبارك وتعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم} [التّوبة: 36].
إنّ عدّة الشّهور عند الله .. في علم الله .. وفي حكم الله .. يوم خلق السّموات والأرض: ليشير أنّه ما من نبيّ بعثه الله تعالى إلاّ وهو يتعبّده بهذه الشّهور .. كما قال تعالى:{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189].
مِنْهَا أربعة حُرُمٌ: ثلاثة سرد، وواحد فرد .. ثلاثة متتالية: وهي ذو القَعدة وذو الحجّة ومحرّم، وشهر فرد منفصل عن الأولى: وهو رجب ..
وقد تسألني سؤالين اثنين:
الأوّل: لماذا نتحدّث عن تعظيم الحرمات في هذا الشّهر بالذّات، وغيره كذلك من الأشهر الحرم ؟
الثّاني: لماذا فصل الله تعالى بين الأشهر الحرم، فجعل ثلاثة متتالية، وواحدا فردا ؟
أمّا الجواب عن السّؤال الأوّل: فاعلم أنّ الحديث عن حرمات الله ينبغي التذكير به مع كلّ شهر حرام، ولكن يتأكّد ذلك مع هذا الشّهر، لسببين اثنين:
الأوّل: لأنّ الله سمّاه " محرّما "، فهو اسم إسلاميّ، فإنّ اسمه في الجاهليّة كان صفر الأوّل، وبقيّة الشّهور كانت على ما هي عليه. فكأنّ الله يريد منّا أن نلاحظ الحرمات فيه أكثر، ترى الحاجّ في ذي الحجّة يسأل فزعا: لقد سقطت من رأسي شعرة.. لقد مسست الطّيب سهوا.. لقد قطعت شجرة غفلة .. وكذلك النّاس أيّام الأضاحي .. يسألون ويخافون ألاّ تقبل منهم ضحاياهم تعظيما للحرمات:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحجّ: من الآية30]، حتّى إذا انسلخ ذو الحجّة، وذهبت الأضاحي ربّما عاد النّاس إلى المعاصي واللّهو، والكبائر واللّغو.
فسمّاه محرّما ليتفطّنوا إلى أنّ الله في ذي الحجّة هو الله في غيره.
الثّاني: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سمّاه " شهر الله "، وهذا لم يثبت لغيره، فأضافه إليه عزّ اسمه تعظيما له وتفخيما، كقولهم بيت الله، وناقة الله، وخصّه بهذه الإضافة دون بقيّة الشّهور.
أمّا الجواب عن السّؤال الثّاني: وهو لماذا فُصل رجب عن بقيّة الشّهور ؟
فقد قال العلماء: الحكمة من ذلك أن تعلم أنّ عام المسلمين يبدأ بشهر حرام، وهو محرّم، ووسطه شهر حرام وهو رجب، وآخره شهرا حرام: وهما ذو القعدة وذو الحجّة .. فالعام كلّه، والحياة كلّها مبنيّة على تعظيم حرمات الله تعالى.. لذلك قال تعالى:{ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّم}.
{فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} بمعصية الله، فإنّ الله إذا عظّم شيئا عظّم أجر الطّاعة فيه، وعقاب المعصية فيه .. هذا في الأزمنة ..
أمّا في الأمكنة فجعل مكّة حرما على لسان إبراهيم عليه السّلام، والمدينة حرما على لسان المصطفى الأمين صلّى الله عليه وسلّم، فقد روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بنِ زيْدٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَحَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ )).
وجعل الأوامرَ والنّواهي حرماتٍ، فلا يصحّ لأحد أن يتعدّى الحلال، ولا أن يقرب الحرام، يقول الله تعالى في الأوامر والمباحات:{فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: الآية229]، ويقول في المحرّمات:{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة:187].
ولم يقف تعظيم الحرمات عند هذا الحدّ، بل ما زال هذا الدّين القيّم يرفع رتبتك، ويُعلي درجتك، حتّى أرشدك إلى ترك الشّبهات، روى البخاري ومسلم عن النّعمَانِ بنِ بشِيرٍ أنّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ )).
دين كلّه حرمات، وحدود معلومات، ودرء للشّبهات.
فاحفظوا لله تعظيمه في صدوركم، وتبجيله في قلوبكم، وارتفعوا إلى مستوى دينكم.
الرّسالة الثّانية: تذكّروا عزّة المسلمين.
قال الإمام الطبري رحمه الله في " تاريخه " (2/3):" ذكر الوقت الّذي عُمِل فيه التأريخ:
عن الشّعبي قال:" كتب أبو موسى الأشعريّ إلى عمر: إنّه تأتينا منك كتبٌ ليس لها تأريخ ؟ قال: فجمع عمر النّاس للمشورة، فقال بعضهم: أَرِّخْ لمبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال بعضهم: لمهاجَر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال عمر: بَلْ نُؤَرِّخُ لِمُهَاجَرِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم؛ فَإِنَّ مُهَاجَرَهُ فَرَّقَ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ ".
وروى عن ميمون بن مهران قال: ( رُفِعَ إلى عمر صَكٌّ محلّه في شعبان، فقال عمر: أَيُّ شَعْبَانَ ؟ الَّذِي هُوَ آتٍ أَوْ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ ؟ قال: ثمّ قال لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ضَعُوا لِلنَّاسِ شَيْئًا يَعْرِفُونَهُ. فقال بعضهم: اُكْتبوا على تأريخ الرّوم. فقيل: إنّهم يكتبون من عهد ذي القرنين، فهذا يطول. وقال بعضهم: اُكتبوا على تأريخ الفرس. فقيل: إنّ الفرس كلّما قام ملك طرح من كان قبله. فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فوجدوه عشر سنين. ثمّ قالوا: فأيّ الشّهور نبدأ ؟ فقالوا: رمضان. ثمّ قالوا: المحرّم فهو منصرَفُ النّاس من حجّهم، وهو شهر حرام فأجمعوا على المحرّم.
ومن قرأ هذه الآثار، ومن استمع إلى هذه الأخبار لا يخرج من هنا إلاّ بنتيجة واحدة: أنّ أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أرادوا بوضع هذا التّأريخ هجرَ ما عليه أهل الكتاب والمشركون .. أراوا تمييز شخصية المسلمين، وعدم التبعيّة للمشركين .. لقد ساروا على خُطا نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم الّذي ما مات حتّى تغلغل في صدورهم أنّ مخالفة الكافرين قربة لربّ العالمين.
فأين التّأريخ الإسلاميّ في حياة المسلمين ؟
ثمّ إنّها رسالة إليك أخي المسلم: انظر إلى حالك وأقوالك وأعمالك ! قف مع نفسك قليلا.. وانظر إلى حياتك .. هل حقّقت هذا الأصل العظيم، وهو مخالفة من كفر بربّك الكريم ؟! فإن وجدت نفسك كذلك، فاحمد الله على ذلك، وإلاّ فاعلم أنّك ما فقهت معنى ما فعله هؤلاء الأخيار من أصحاب النبيّ المختار صلّى الله عليه وسلّم.
الخطبة الثّانية..
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا، وأنزل إلينا قرآنا مبينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكفى بربك ناصرا ومعينا، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله أدّى الأمانة، وبلّغ الرّسالة، فكان مبلغا صادقا وأمينا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم أصدق النّاس إسلاما وأعظمهم يقينا.
إذا ضـاع الإيمان فلا حياةٌ *** ولا دُنيا لمن لم يرضَ دينـا
ومن رضي الحياة بلا إيـمان *** فقد جعل الفناء لها قرينـا
الرّسالة الثّالثة: أعمالٌ لها فضل الهجرة في سبيل الله.
يتحدّث النّاس هذه الأيّام عن هجرة سيّد الأنام صلّى الله عليه وسلّم، وأكرم به من حديث ! إذ هو حدث لا كسائر الأحداث، إنّها بداية خروج النّاس من الأجداث.
وإنّنا إذا تحدّثنا عن الهجرة النبويّة في هذا الشّهر؛ فذلك لأنّ الصّحابة أرّخوا بها، وتميّزوا بها، وليس لأنّ الهجرة تمّت في شهر محرّم.
وإلاّ فإنّ العلماء قاطبةً من المؤرّخين كالطّبري، وابن كثير، وأصحاب المغازي والسّير كابن هشام، وابن إسحاق متّفقون على أنّ الهجرة كانت في شهر ربيع الأوّل.
قال الإمام الطّبري رحمه الله بعدما تحدّث عن بيعة العقبة الثّانية في شهر أيّام الحجّ:
" وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدهم بمكّة بقيّة ذي الحجّة من تلك السنة والمحرّم وصفر، وخرج مهاجرا إلى المدينة في شهر ربيع الأوّل ".
فالصّحابة لمّا أرادوا التّأريخ اختاروا السّنة الّتي هاجر فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يلتفتوا إلى الشّهر الّذي هاجر فيه.
والكلمة الجامعة لفضل الهجرة، ما رواه النسائي عن أبي فاطِمَةَ اللّيثي رضي الله عنه قال: يا رسُولَ اللهِ، حَدِّثْنِي بِعَمَلٍ أَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ وَأَعْمَلُهُ. قالَ لهُ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( عَلَيْكَ بِالْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهَا )).
ولأجل هذه الفضل، جعل الله تعالى لها خلفاً:
- فاحرص على الابتعاد عمّا نهى الله عنه، فإنّه هو الهجرة الحقيقيّة، فقد روى الشيخان عن عبدِ اللهِ بنِ عمْرٍو رضي الله عنهما عن النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ )).
- واحرص على الإكثار من العبادة، من صلاة، وذكر، وصدقة، وصيام، فقد روى مسلم عنْ معْقِلِ بنِ يسَارٍ أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ )).
قال الإمام النّووي رحمه الله:" المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسببُ كثرة فضل العبادة فيه أنّ النّاس يغفُلون عنها، ويشتغلون عنها، ولا يتفرّغ لها إلاّ أفراد" اهـ.
وأيّامنا هذه أيّام هرج وفتن، وأيّام هجرة وصبر على المحن .. ومن أجلّ العبادات التي يمكن أن تساوي مقام الهجرة التي قال عنها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ مِثْلَ لَهَا )):
- الصّيام، فقد حثّ عليه بالوصف نفسه، روى النّسائي وأحمد عن أبي أُمَامَةَ رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فقلتُ: مُرْنِي بِأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ ؟ قال: (( عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ )).
زاد الإمام أحمد:" فما رُئِيَ أبو أمامةَ ولا امرأتُهُ ولا خادمُهُ إِلَّا صُيَّامًا، فكانَ إذَا رُئِيَ في دارِهِمْ دُخَانٌ بِالنّهارِ، قيلَ: اعْتَرَاهُمْ ضَيْفٌ نَزَلَ بِهِمْ نَازِلٌ ".
ومن أبرز ما يُعبد به الله تعالى في هذا الشّهر الكريم: الصّيام فقد روى مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ )).
حتّى إنّ جمهور العلماء يفضّلونه على صوم شعبان !
فعلينا اغتنامُ هذا الفضل العظيم، والثّواب العميم، من الله البرّ الكريم، وإن فاتك شيء فلا يفوتنّك صوم التّاسع والعاشر منه، وذلك لفضله، وعِظم أجره.