الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
( فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثلاثةُ التي يجبُ على الإنسانِ معرفتُها ؟ فقُلْ: معرِفةُ العبدِ رَبَّهُ، ودينَهُ، ونبيَّهُ محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم.
فإذا قيلَ لكَ: مَنْ رَبُّكَ ؟ فقل: ربيَّ اللهُ الّذي ربّاني ورَبَّى جميعَ العالمينَ بنعمِهِ، وهو معبودي ليس لي معبودٌ سواهُ، والدّليلُ قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وكلُّ ما سِوَى اللهِ عالََمٌ، وأنا واحدٌ من ذلكَ العالَمِ ).
فبعدما بيّن المؤلّف رحمه الله أنّ أعظم الحسنات على الإطلاق هو التّوحيد، وأنّ أعظم السّيئات على الإطلاق هو الشّرك بربّ العبيد، شرع يبيّن أصولَه وأسُسه.
وشرع في بيان أصول التّوحيد على طريقة السّؤال والجواب المثيرة للانتباه والاهتمام، وفي السنّة أمثلة كثيرة على التّعليم بطريقة السّؤال والجواب، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( يا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ ؟)) قال: اللهُ ورسولُهُ أَعْلَمُ، قال: (( أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ ؟)) قال: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قال: (( أن لا يُعَذِّبَهُمْ ))، وغير ذلك.
- · قال رحمه الله: ( فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثّلاثةُ ): وتسميتُها بالأصول فيه بيانٌ لأهمّيتها؛ لأنّ الأصل هو ما ينبنِي عليه غيرُه.
كما أنّ فيه ردّاً على أهل الكلام الّذين جعلوا من قواعدهم الفلسفيّة أصولا.
- · قوله رحمه الله: ( الّتي يجبُ على الإنسانِ معرفتُها ؟): وهذا الوجوب وجوب الأركان، أي: الّتي لا يصحّ إيمان العبد إلاّ بها، ولا نجاة له إلاّ بتحقيقها.
- · قوله رحمه الله: ( فقُلْ ): معتقِدا اعتقادا جازما لا شكّ فيه ولا ارتياب؛ لأنّ العقيدة مأخوذة من العقد، وهو شدّة الرّبط والإحكام.
- · قال: ( معرِفةُ العبدِ رَبَّهُ، ودينَهُ، ونبيَّهُ محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم ): وهي أسئلة القبر الثّلاثة، فمن تعلّمها وأقامها فهو من أهل النّجاة والسّعادة الأبديّة، وإلاّ كان من أهل الشّقاء والتّعاسة السّرمديّة.
وفي سنن التّرمذي عن عثمَانَ رضي الله عنه كان إذَا وَقَفَ علَى قَبْرٍ بَكَى حَتّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ ! فقيلَ لهُ: تُذْكَرُ الجَنَّةُ وَالنّارُ فَلا تَبْكِي، وَتَبْكِي من هذَا ؟! فقالَ: إنَّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ )) قال: وقالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا القَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ )).
ويدلّ على هذه الأسئلة حديثُ البراء بن عازبٍ رضي الله عنه الطّويل، وفيه يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد أن ترفع روح المؤمن إلى السّماء، قال: (( فَيَقُولُ اللهُ جلّ جلاله: اُكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ فِي جَسَدِهِ.
فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولاَنِ: مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُول: رَبِّيَ اللهُ.
فَيَقُولاَن: مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الإِسْلاَمُ.
فَيَقُولاَنِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم. فَيَقولاَنِ: مَا يُدْرِيكَ ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ وَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُهُ.
قال في رواية: فذلك قول الله عزّ وجلّ:{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
ثمّ بعد ذلك يقول: (( فَيُنَادِي منَادٍ مِن السَّمَاءِ: أَنْ قَدْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الجَنَّةِ. قال: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا، وَطِيبِهَا، وَيُفْتَحُ لَهُ فِيهَا مَدَّ بَصَرِهِ )).
قال صلّى الله عليه وسلّم في رواية التّرمذي عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: (( فيقولانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ )).
ثمّ ذكر الكافر - وفي رواية: الفاجر -: (( فذكَرَ مَوْتَهُ، قال: وَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ.
فَيقولان لَهُ: مَنْ رَبُّكَ ؟ فيَقولُ: هَاهْ هَاهْ هَاهْ ! لا أَدْرِي.
فيقولان لَهُ: مَا دِينُكَ ؟ فيَقولُ: هَاهْ هَاهْ ! لا أَدْرِي.
فيقولان: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فيقولُ: هَاهْ هَاهْ ! لا أَدْرِي.
فيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ ! فَأَفْرِشُوهُ مِنْ النَّارِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إلى النَّارِ. قال: فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا، وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ )).
زاد في حديثِ جريرٍ رضي الله عنه: (( ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَبْكَمُ مَعَهُ مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ، لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا ! فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ )).
وجاء في رواية أنّه يقول: (( رَبِّ، لاَ تُقِمِ السَّاعَةَ ! رَبِّ لاَ تُقِمِ السَّاعَةَ !)).
فأوّل واجب على المكلّف أن يعرف ربّه سبحانه، ونبيّه صلّى الله عليه وسلّم، ودينه الحنيف، وليس له ذلك إلاّ بتدبّر كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. وكما قال أهل العلم:" قد تجلّى الله لعباده في كتابه بما لا مزيد لمستزيد ".
وتأمّل الحديث السّابق حين يقول الملكان:" مَا يُدْرِيكَ ؟ فيقولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ، وَآمَنْتُ بِهِ، وَصَدَّقْتُهُ "، ممّا يدلّ على أنّ معرفة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لا تحصُل إلاّ من الوحي.
لذلك روى أبو نعيم في " حلية الأولياء " عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ فَلْيَقْرَأْ فِي المُصْحَفِ )) [وهو حسن كما في " السّلسلة الصّحيحة " (2342)].
( ودينَه ): أي: الطّريق الّذي يُعبد الله تعالى به، ولا سبيل إلى معرفة الدّين الصّحيح إلاّ عن طريق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه الكرام، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( وإِنَّ بنِي إسرَائِيلَ تفرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً؛ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ، إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً )) قال - أي: عبد الله بن عمرو راوي الحديث -: من هي يا رسول الله ؟ قال: (( مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي )) [رواه الترمذي].
وبعد أن ذكر رحمه الله الأصولَ الثّلاثةَ إجمالا، شرع في تفصيلها وشرحها وبيانها، فقال:
- · ( فإذا قيلَ لكَ: مَنْ رَبُّكَ ؟): الربّ: كلمة تطلق في اللّغة على معان ثلاثة كلّها ثابتة لله تبارك وتعالى، وقد ذكرها العلماء متفرّقة، وجمعها الإمام الطّبريّ في " تفسيره "، وهي:
1- المالك للشّيء: فربّ الدّار هو مالكها، ومنه حديث اللّقطة: (( اعْرِفْ وِكَاءَهَا - هو الخيط الّذي تربط به - وَعِفَاصَهَا - أي: وعاءها -، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ )).
قال الزّجّاجي رحمه الله في " اشتقاق أسماء الله " (ص 32):" وكلّ من ملك شيئا فهو ربّه، يقال: هذا ربّ الدّار، وربّ الضّيعة، ولا يقال: الربّ معرّفا بالألف واللاّم مطلقا إلاّ لله تعالى؛ لأنّه مالك كلّ شيء " اهـ. فهو لا يستعمل في حقّ غير الله تعالى إلاّ مضافا.
2- السيّد المطاع، ومنه قوله تعالى:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} [يوسف: من الآية 41]، وقوله:{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: من الآية 42]، ومنه: ربَّ فلانٌ القوم أي: سادهم وساسهم، ومنه قول صفوان بن أميّة: لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يرُبَّني رجل من هوازن.
3- المصلح للشّيء؛ لأنّ الربّ كلمة مشتقّة من التّربية، قال الرّاغب الأصفهانيّ في " المفردات " (ص 184):
" الربّ في الأصل التّربية، وهي إنشاء الشّيء حالا فحالا إلى حدّ التّمام ". ومنه اشتُقّ لفظ الرّبيبة، لأنّ من تكون في حجره يصلحها ويدبّر أمرها إلى أن تصل حدّ التّمام. ومنه سمّي العالم الّذي يعلّم النّاس ما يصلحهم في الدّارين شيئا فشيئا ( الربّانيّ )، ذكر البخاري عن ابنِ عبّاسٍ أنّه قال في قوله تعالى:{وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}: حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ، قال: وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ.
الحاصل: قال الطّبريّ رحمه الله:" فربّنا عزّ وجلّ: السيّد الّذي لا شبه له ولا مثل في سؤددِه، والمصلح في أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الّذي له الخلق والأمر".
والتّربية بمعنى التّنشئة نوعان:
تربية عامّة، يشترك فيها المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر، والإنسان والحيوان والجماد وغير ذلك. قال تعالى في الحوار الّذي دار بين موسى عليه السّلام وفرعون:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)} [طه].
تربية خاصّة، قال السّعدي رحمه الله في " تفسيره ":" ( الربّ ) هو المربّي جميع عباده بالتّدبير وأصناف النّعم، وأخصّ من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم، ولهذا كثُر دعاؤهم بهذا الاسم الجليل، لأنّهم يطلبون منه هذه التّربية الخاصّة ".
لذلك ذكر المصنّف رحمه الله هذا المعنى، فقال:
- · ( فقل: ربيَّ اللهُ ): ولفظ الجلالة هو علمٌ على الإلهِ المستحقِّ للعبادة.
وهو مشتقّ من الألوهيّة والإلهيّة، وهي العبوديّة المقترنة بالمحبّة، تقول العرب: أله الشّيءَ أي: عبده وذلّ له وأحبّه.
فأصل لفظ الجلالة ( الله ) - كما قال الكسائي والفرّاء وأبو الهيثم -: أصله الإله، حذفوا الهمزة وأدخلوا الألف واللاّم، ثمّ أدغمت اللاّم في الأخرى.
ونظيره كلمة " الأُناس "، فقد حذفوا الهمزة فقالوا: النّاس.
فالله من إله بمعنى مألوه، ككتاب بمعنى مكتوب، وفراش بمعنى مفروش، وبساط بمعنى مبسوط، وإمام بمعنى مأموم أي: يقصده النّاس.
فالإله معناه الّذي يألهه الخلق ويحبّونه، ويذلّون له، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" فإنّ الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبّها، وتخضع له وتذلّ له وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهمّاتها، وتتوكّل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئنّ بذكره وتسكن إلى حبّه، وليس ذلك إلاّ لله وحده؛ ولهذا كانت لا إله إلاّ الله أصدقَ الكلام، وكان أهلُها أهلَ الله وحزبَه، والمنكرون لها أعداءَه وأهلَ غضبه ونقمته، فإذا صحّت صحّ بها كلّ مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصحّحها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله "اهـ.
- · قوله رحمه الله: ( الّذي ربّاني ): أي: الّذي يرعاني ويكلأني وينْعِم عليّ، فمعنى الربّ هو الخالق الرّازق الّذي يرعَى عباده.
- · قوله رحمه الله: ( ورَبَّى جميعَ العالمينَ بنعمِهِ ): فتربيته سبحانه وتعالى لخلقه تشمل الخلق جميعهم، كما سبق بيانه في أنواع التّربية.
والعالمون: جمع عالَم - كما سيأتي -.
- · قوله رحمه الله: ( وهو معبودي ): فيه بيان غاية الرّبوبيّة، وهو إقامة العبوديّة لله؛ لذلك استحسن بعض شرّاح الرّسالة أن يقول: فهو معبودي؛ لأنّ الفاء تدلّ على التّعليل.
- · قال رحمه الله: ( ليس لي معبودٌ سواهُ ): أتى بنفي غيره، ليشير إلى أنّ المقصود هو إخلاص العبادة له وحده سبحانه. فلم يكتفِ بمجرّد إثبات العبادة لله؛ قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
- · قوله: ( والدّليلُ قوله تعالى:{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ}): والحمد هو وصف الممدوح بالكمال، إمّا لصفاته الذّاتية، أو لإحسان وإنعام، فتقول: حمِدت له شجاعته وكرمه، وحمدته لعطائه، فهو ضدّ الذمّ كما في " لسان العرب".
والألف واللاّم في ( الحمد ) للاستغراق، فالحمد كلّه له سبحانه وتعالى، لذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحمد الله على كلّ حال.
وحمد الله من أوجب الواجبات، وأشرف الطّاعات، فينبغي للعبد أن يشكر نعم الله الّتي يتقلّب فيها ليل نهار، دقيقَها وجليلها، وقد قطع الله الطّريق لإحصائها، فقال:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النّحل: 18].
روى مسلم عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عن العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا )).
وليتذكّر العبد أنّه سوف يُسأل عن النّعم؛ فقد روى مسلم أيضا عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هوَ بأَبِي بكْرٍ وعُمَرَ، فقالَ: (( مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ )) قَالَا: الجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ !
قال: (( وَأَنَا - وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ - لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا )). فَقَامُوا مَعَهُ .. [فذكر أنّهم أتوا رجلا من الأنصار] فجاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فقال: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ المُدْيَةَ ... فَذَبَحَ لَهمْ، فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ العِذْقِ، وَشَرِبُوا، فلمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لأَبِي بكْرٍ وعُمَرَ: (( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ )).
وفي رواية التّرمذي قال: (( ظِلٌّ بَارِدٌ وَتَمْرٌ طَيِّبٌ وَمَاءٌ بَارِدٌ ! هَذَا - وَاللهِ - مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ )).
وفي سنن التّرمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: " أَلَمْ نُصِحَّ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيكَ الماَءَ البَارِدَ" ؟ )).
ومن جليل النّعم: نعمة الإسلام، ونعمة الهداية إلى السنّة، ونعمة حسن الفهم، وحسن القصد، وغير ذلك من أصول النّعم، فاللهمّ لك الحمد.
ولمّا كان العباد جميعهم عاجزين عن حمد الله عزّ وجلّ، حمِد نفسه، فقال:{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ}، لأنّه كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ )).
- · قوله: ( وكلُّ ما سِوَى اللهِ عالَمٌ ): العالمون جمع عالَم، والتّعريف الصّحيح له أنّه كلّ موجود سوى الله تعالى، فيشمل جميع العالمين، عالم الإنس، وعالم الجنّ، وعالم الملائكة، وعالم البهائم، وعالم الجماد، وعالم النّبات، كلّ ذلك ربّاه الله تعالى.
قال ابن عبّاس رضي الله عنه:" ربّ الجنّ والإنس "، وقال قتادة:" ربّ الخلق كلّهم ". لذلك قال في " اللّسان ": " والعالمون: أصناف الخلق، والعالم الخلق كلّه ".
ويدلّ على ذلك قول الله تعالى:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)} [الشّعراء].
والعالم مشتقّ من العلامة؛ لأنّه يدلّ على وحدانيّة خالقه ومنشئه ومدبّره، وقد قال أحد الأعراب:" البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدلّ على العليم الخبير ؟!".
قال ابن المعتزّ:
فيا عجباً كيف يُعصى الإله *** أم كيف يجحده الجـاحد
وفي كـلّ شـيء له آيـة *** تدلّ عـلى أنّـه واحـد
قوله: ( وَأنَا واحدٌ من ذلكَ العالَمِ ): أي: قُل ذلك، فالخطاب للسّامع. فكأنّه يقول: إذا كنت واحدا من هذا العالم الّذي خلقه الله، وربّاه ورعاه، فينبغي ألاّ أصرِف العبادة لغيره سبحانه، وإلاّ كان بذلك ظالما لربّه، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.