فبعدَ وفاته سنة 2015 م، قامتْ جامعةُ تلّ الرّبيع (تل أبيب) بتأبينِه ([1])، ويقالُ: إنّ القائمين عليها قرّروا إطلاقَ اسمِه على مسرحِ الجامعةِ؛ كلّ ذلك اعترافاً بخِدمتِه وولائِه، وتذكيراً للخونةِ: أنّ الكيانَ لا ينْسَى أحداً من أبنائِه.
إنّ هذه المسرحيّةَ أسهمتْ كثيراً إلى حدّ بعيدٍ في تحقيقِ أحدِ أهمّ وأعظمِ وأشرسِ مخطّطات الأعداءِ: (إسقاطُ هيبةِ المعلِّم).
فالمعلّم في دينِنا العظيم ليس مجرّدَ آلةٍ لنقلِ المعلوماتِ .. وإنّما هو أبٌ روحيٌّ، وخطُّ دفاعٍ، يحمِي ويراقبُ أولادَ المسلمين وهم في أمسِّ الحاجةِ إلى موجِّهٍ ومربٍّ ..
لقد بذلَ الأعداءُ مجهوداتٍ هائلةً، وصرفوا أموالا طائلةً، ليُحقّقوا في الواقعِ ما يُعرفُ بـ(استقالة الوالدَين) ..
ولكنّهم صُدِموا بصمودِ المربّي والموجّه الأعظم: الأستاذُ والمعلّم ..
فقرّروا التّشغيبَ عليه .. وتصويبَ سهامِ الإسقاطِ إليه ..
وعزموا على أن يُسقِطوا عنه رايةَ التّعظيمِ، ولواءَ التّكريمِ والتّفخيم: (ليْسَ منْ أُمّتِي مَنْ لمْ يُجِلَّ كبيرَنَا، ويَرْحَمْ صغِيرَنَا، ويعْرِفْ لعالِمِنَا) ([2])، أي: حقَّه.
أرادوا أن ينزعوا عنه رداءَ القداسة، ويُلبسوه ثوبَ النّجاسة ..
أعودُ فأقول، وإنّي ألاحظ، أنّني لمْ أتعوّذْ من استطراداتِ الجاحظ:
اليومَ أحدّثُكم عن «مدرسة المشاغبينَ» الّتي تَهدِمُ منابرَ الدّعوة إلى ربّ العالمينَ، وتصدُّ النّاسِ عن السّيرِ إلى الأخذ بأسبابِ العزّةِ والتّمكينِ ..
{ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} [إبراهيم من: 3].
إنّ هذه المدرسةَ الّتي تعتمدُ مذهبَ بريجينيسكي ([3]): استخدامُ ما أسماه بـ: (البطَاقة الإسلاميّة) ..
أي: استغلالُ بعضِ الجماعاتِ الإسلاميّة لتحقيقِ أيّ مشروعٍ يُرادُ إنجازُه.
ومن شاءَ التّفصيل والتّمثيل، فليقرأْ كتاب: «رهينةٌ في قبضَةِ الخُمَينِيِّ» لروبرتْ دريفوس.
ثمّ لِيُلْقِ نظرةً خاطفةً في كلّ مشروعٍ باسم مؤسّسة ( رَانْدْ ) البحثيّة، وخُصوصاً منذ 2003 م.
ثمّ ما ذكرتهُ الكاتبةُ شيريل بينارد في كتابها: «الإسلام المدنيّ الدّيمقراطيّ» ([4]).
حينَها يتيقّنُ أبناؤُنا وإخوانُنا أنّ الأعداءَ قد حقّقُوا وأنجزوا باستغلالِ البطاقة الإسلاميّة نتائِجَ ما كان يحلُمُ بها أجدادُهم وآباؤُهم ..
فما أعظمَ أنْ تجعلَ المقاوِمَ لك يخدمك، ومن يصبو لإسقاطكَ يرفعُك !
ما أعظمَ أن تجعلَ مخالِفك يُحالفُك، ويظنُّ أنّه مخيَّرٌ صاحبُ قرار، وإنّما هو مسيَّرٌ ما له من قرار !
إن رَضِيَ بخِدمتهم تحتَ ظلِّ العمالة، فلن يُقصّروا في الجُعْلِ والعَطِيّة ..
وإلاّ، فـ: لا يشترطُ أن تكونَ عميلاً، يكفي أن تكون غبِيّاً.
وهدفُهم العامّ منذُ الأزلِ إلى مجيءِ الأجل: أن تنحرفَ الأمّةُ عن دربِها، وتضِلَّ عن سبيلِ مولاها وربِّها، وأن تغرقَ في أوحالِ إثمِها وذنبِها ..
ولكنّ مقالتي هذه تحدّثكم عن هدفِهم الخاصّ، الّذي هو أنجعُ وسيلةٍ لتحقيقِ الهدفِ العامّ:
إنشاءُ وبناءُ (مدرسة المشاغبينَ) الجديدة ..
مدرسةٌ ترتدي ثوباً غيرَ ثوبِها .. وتتحلّى بزيٍّ غيرِ زيِّها .. تُدنِي عليها جلبابَ الدّيانة، وتضعُ نقاباً ظاهرُه الأمانة، وترفعُ رايةً باسمِ نشرِ الاجتهاد والفطانة ..
وهدفُ هذه المدرسة منذ ثلاثين عاماً: إسقاطُ منزلةِ العلماءِ والدّعاةِ الأتقياءِ من قلوبِ المسلمين ..
حتّى يُصبِحُ (الطّالبُ) مطلوباً، و(العالِمُ الحكيمُ) مغلوباً، و(العاملُ النّشِطُ) منبوذاً مصلوباً ..
فتتحجّمُ حينها أمّتُنا الشّاسعة، وتقِلُّ مجهوداتُها الواسعة ..
عنوانُها: عقولٌ جائعة وجهودٌ ضائعة ..
والحوصلةُ: غيابُ البوصلة ...
* حاولوا قبل ذلك تدميرَ (المرجعيّة إلى العلماءِ) بنشرِ ما يعرفُ بالتّجريح والتّبديع .. ليُمهّدَ لهم الطّريقَ للشّروع في تغذيةِ (مفكّرين علمانيّين وليبراليّين) لنشرِ الحداثةِ ([5]) .. وإخضاعِ العامّةِ لنظام التّفاهة ..
لكنّهم اصطدموا بجبالٍ رواسٍ راسخةٍ، ظلّتْ طوالَ هذه القرونِ شامخة، ألقاها الله في الأمّةِ كيلاَ تَمِيدَ بِمن فيها، ولا تميلَ الأجيالُ عن هديِها ..
فمهما كان في أفرادِ علماءِ الأمّةِ من نقصٍ وغلطٍ، وخطأٍ وشططٍ، فمجموعُهم دِرعٌ متينٌ، وحصنٌ حصينٌ ..
* حينَها اجتمع المشاغبُون (عميلُهم وغبيُّهم) من جديد .. وعزموا على نحتِ تلكَ الجبالِ بالحديد .. فرفعوا رايةَ كلّ حدّاد(يٍّ) ..
وقامُوا بتلميعِ كلِّ طامِسٍ ليُصبح بينَ العُشْوِ شمساً ..
وتأييدِ كلّ جزِعٍ مغمورٍ، ليُصبِح صابراً مشهوراً ..
وأعطى مستعمِلو البطاقةِ الإسلاميّة إشارةَ الانطلاقِ لـ(تكوين) جيشٍ يحملُ مشروعهم ..
والهدفُ هو التّشغيبُ: بذهابِ اليقينِ من صدورِ الرّجال، ونقلِ المسلّماتِ إلى ميدانِ النّقاشِ والجدالِ.
فالأمّة لديهم قد خلعتْ نفسَها من العصرِ الذّهبيّ، منذ تعظيمِها لأبي حنيفةَ والنّوويّ والذهبيّ !
وتحوّلت من كونِها أمّةً مرحومةً بين العالمين، إلى أمّةٍ محرومةٍ على مرّ السّنين، منذُ تساهُلِ ومجاملةِ ابنِ تيميةِ لمنْ غرقَ في أوحالِ الكلاميّين !
وتخلّت الأمّة عن العظائم، وتخلّت عن سيفِ العزائم، يومَ اعتمدت على الطّبريّ والواقديِّ والحاكم !
لتكون دائماً الحوصلة: غياب الموجِّه والبوصلة ..
ويحلَّ محلَّ الثّمر المستطابِ: الكُرّاثُ والبصلة ..
* وخلالَ ذلك:
الخاصّةُ لا يسمعونَ أصواتَ أهلِ الحقّ؛ لما يحدثُه التّشغيبُ من الضّوضاءِ والضّجيجِ ..
والعامّة أسْرَى سلبيّات وسائلِ (التّقاطع) لما فيها من تفاهةٍ وتهريج ..
بل ما عاد أكثرُهم يسمعُ أصواتَ قنابلِ الأعداء، ولا صيحاتِ القتلى والجرحى من الأخلاّء.
نناديكم .. وقد كثُرَ التّخريبُ
نناديكُم .. ولكنْ من يجيبُ؟
نناديكم، وأصواتُ الحيارى
تنبِّئُكم بما فعلَ التّشغيبُ