الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد: وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته.
فإنّ من آداب الدّعاء الّتي علّمنا إيّاها رسول الرّحمة صلّى الله عليه وسلّم هو اليقين في الدّعاء، فقال صلّى الله عليه وسلّم: (( ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ )) [رواه التّرمذي وهو صحيح].
وممّا يخدِش في اليقين هو الاستثناء في الدّعاء، وذلك بأن يدعوَ قائلا:" إن شاء الله "، وكم نسمع من يقول: ربّ يوفّقك إن شاء الله .. ويفتح عليك إن شاء الله .. وغير ذلك.
وذلك منهيّ عنه؛ للحديث المشار إليه في السّؤال، وهو ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ! اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ ! لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ )).
وفي رواية:" لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ " قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" وهذه كلّها أمثلة ".
قال ابن عبد البرّ رحمه الله:" لا يجوز لأحد أن يقول: اللهم أعطني إن شئت، وغير ذلك من أمور الدّين والدّنيا، لأنه كلام مستحيل لا وجه له "اهـ.
وظاهر كلامه رحمه الله أنّ النّهي للتّحريم، وحمل النّووي النّهي على الكراهة.
ولا يرد على ما تقرّر ما رواه البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: (( لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ )).
فإنّ قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( طَهُورٌ )) هو خبر وليس دعاءً، أي: إنّك تتطهّر.
ولكن لمّا كان هذا رجماً بالغيب بالنّسبة إلينا، علّمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن نستثنِي، ونعلّق الأمر بالمشيئة.
ويدلّ على أنّه خبرٌ وليس دعاءً، سبب ورود الحديث - وفي الخبر طُرفة -، فقد ذكره ابن عبّاس رضي الله عنه يوم دخل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أعرابيّ يعوده فقال له:
(( لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ )).
فقال الأعرابيّ: قُلْتَ: طَهُورٌ ؟! كَلَّا، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ ".
فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَنَعَمْ إِذًا )).-وفي رواية غير البخاري-: (( مَا قَضَى اللهُ فَهُوَ كَائِنٌ )) فأصبح الأعرابيّ ميتا.
فقول الأعرابيّ: بل هي حُمّى تفور، دليل على أنّه لم يفهم أنّ الكلام دعاء، بل فهم من كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه خبر، فأراد الأعرابيّ أن يبيّن حقيقة الواقع في نظره.
ومن نافلة القول، أذكر للقارئ الكريم وجه النّهي عن الاستثناء في الدّعاء.
فاعلم أنّ ذلك - كما قال ابن عبد البرّ - كلامٌ لا معنى له، أو أنّ له معنىً مرفوض شرعا.
- أمّا أنّه لا معنى له: فالتّعليق بالمشيئة يُفهَمُ منه أنّ هناك ما يمنعه - تعالى الله عن ذلك -، فهو لا مكره له. فإنّ المخلوق هو الّذي نعلّق طلبنا منه بمشيئته لأنّه ربّما ما استطاع ذلك.
أو أنّ الدّاعي يقصِد بذلك أنّه يسأله الإجابة، والله قد وعد الإجابة وأمر بدعائه لأجل ذلك.
- وربّما كان لهذا الكلام معنى، ولكنّ مضمونه مرفوض شرعا، وهو: أن يظنّ العبد أنّه ليس أهلا للإجابة ! قال ابن بطّال رحمه الله في ردّ ذلك:
" في الحديث أنّه ينبغي للدّاعي أن يجتهد في الدّعاء، ويكون على رجاء الإجابة، ولا يقنط من الرّحمة فإنّه يدعو كريما.
وقد قال ابن عيينة: لا يمنعنّ أحدا الدّعاءُ ما يعلم في نفسه - يعني من التقصير - فإنّ الله قد أجاب دعاء شرّ خلقه، وهو إبليس، حين قال:{رَبِّ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ".
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم.