أمّ المؤمنين أمّ سلمة .. مشهورة بكنيتها، واسمها: هند بنت أبي أميّة بنت زاد الرّكب، أبوها هو: حذيفة، وقيل: سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان أبوها يلقّب " زاد الرّكب " لأنّه كان أحد الأجواد، فكان إذا سافر لم يحمل أحد معه من رفقته زادا بل هو كان يكفيهم.
روى ابن إسحاق بسند حسن عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت:
" لمّا أجمع أبو سلمة رضي الله عنه الخروجَ إلى المدينة رحَّل لي بعيرَه، ثمّ حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة في حجري، ثمّ خرج بي يقود بعيره.
فلمّا رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قاموا إليه، فقالوا:" هذه نفسُك غلبْتَنَا عليها، أرأيت صاحبتَك هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد ؟!".
قالت: فنزعوا خُطام البعير من يده، فأخذوني منه.
قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهطُ أبي سلمة، فقالوا: لا والله ! لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا ! قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتّى خلعوا يده.
وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.
قالت: ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني، فكنت أخرج كلّ غداةٍ فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتّى أمسي سنةً أو قريبا منها.
حتّى مرّ بي رجل من بني عمّي، أحد بني المغيرة، فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة:" ألا تُخرِجون هذه المسكينة، فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ؟!". قالت: فقالوا لي: اِلحقي بزوجك إن شئت.
قالت: وردَّ بنو عبد الأسد إليّ عند ذلك ابني، فارتحلت بعيري، ثمّ أخذت ابني فوضعته في حجري، ثمّ خرجت أريد زوجي بالمدينة.
قالت: وما معي أحد من خلق الله، حتّى إذا كنت بالتّنعيم، لقيت عثمان بنَ طلحة بن أبي طلحة[1] أخا بني عبد الدّار، فقال لي: إلي أين يا بنت أبي أميّة ؟
فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أوما معك أحد ؟ قالت: فقلت: لا والله إلاّ الله وبنيّ هذا. قال: والله ما لك من مترك.
فأخذ بخُطام البعير، فانطلق معي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قطّ كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثمّ استأخر عنّي، حتّى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحطّ عنه، ثمّ قيّده في الشّجرة، ثمّ تنحّى عنّي إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرّواح قام إلى بعيري، فقدّمه فرحله، ثمّ استأخر عنّي، وقال: اركبي ! فإذا ركبت واستويت علي بعيري أتى فأخذه بخطامه فقاده، حتّى ينزل بي.
حتّى أقدمني المدينة، فلمّا نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية،- وكان أبو سلمة بها نازلا - فادخليها على بركة الله.
ثمّ انصرف راجعا إلى مكّة.
فكانت رضي الله عنها تقول:" والله ما أعلم أهل بيتٍ في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قطْ كان أكرم من عثمان بن طلحة رضي الله عنه !".
- هجرة عمر بن الخطّاب، وهشام بن العاص، وعيّاش بن أبي ربيعة رضي الله عنهم..
شاع في كتب السّيرة أنّه لم يهاجر أحد من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلاّ متخفّيا غير عمر بن الخطّاب رضي الله عنه !
ويروُون عنه رضي الله عنه أنّه قال يوم خرج من مكّة:" من أراد أن يُثكل أمّه، أو يوتم ولده، أو يرمّل زوجته، فلْيلْقَني وراء هذا الوادي".
ولكنّها ضعيفة لا تصحّ.[2]
وما صحّ في هجرته هو ما رواه ابن إسحاق بسند صحيح قال:
حدّثني نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن أبيه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال:
" اتّعدت لمّا أردنا الهجرة إلى المدينة أنا، وعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السّهمي الميضأة - ميضأة بني غفار فوق سرِف-، وقلنا: أيّنا لم يُصبِح عندها فقد حُبِس، فليمض صاحباه.
قال: فأصبحت أنا وعيّاش بن أبي ربيعة عند الميضأة، وحُبِس عنّا هشام، وفُتِنَ ! [أي: عُذِّب].
فخرج أبو جهل يغرّر بعيّاش بن أبي ربيعة، فلمّا قدمنا المدينة نزلنا في بنى عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عيّاش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمّهما وأخاهما لأمّهما، حتّى قدما علينا المدينة، ورسول الله بمكّة، فكلّماه، وقالا:
إنّ أمّك قد نذرت أن لا يمسّ رأسَها مشطٌ حتّى تراك، ولا تستظلّ من شمس حتّى تراك. فرقّ لها، فقلت له:
يا عيّاش، إنّه- والله - إن يريدُك القوم إلاّ ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمّك القمّل لامتشطت، ولو قد اشتدّ عليها حرّ مكة لاستظلّت. قال فقال عيّاش رضي الله عنه:
أبرّ قسمَ أمّي، ولي هنالك مالٌ فآخذه.
قال عمر رضي الله عنه: فقلت: والله إنّك لتعلم أنّي لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي، ولا تذهب معهما.
قال عمر: فأبى إلاّ أن يخرج معهما ! فلمّا أبى إلاّ ذلك، قلت له:
أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخُذْ ناقتي هذه، فإنّها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإنْ رابك من القوم ريب فانجُ عليها.
فخرج عليها معهما، حتّى إذا كانوا ببعض الطّريق، قال له أبو جهل:
يا ابن أخي ! والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال: بلى.
قال: فأناخ وأناخا ليتحوّل عليها، فلمّا استووا بالأرض، عَدَوْا عليه فأوثقاه وربطاه، ثمّ دخلا به مكّة وفتناه، فافتُتِن.
ثمّ قالا: يا أهل مكّة، هكذا فافعلوا بسفائكم كما فعلنا بسيفهنا هذا.
قال عمر رضي الله عنه في حديثه[3]:
فكنّا نقولُ: ما الله بقابلٍ ممّن افتُتِن صرفاً ولا عدلاً ولا توبةً ! قومٌ عرفوا الله، ثمّ رجعوا إلى الكفر لبلاءٍ أصابهم !
وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم:
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55)}.
قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه، فقال هشام بن العاص رضي الله عنه: فلمّا أتتني جعلت أقرؤها بذي طُوَى أصعّد بها فيه وأصوّب، ولا أفهمها حتّى قلت: اللّهمّ فهّمنيها !
قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنّها أنزلت فينا، وفيما كنّا نقول في أنفسنا ويقال فينا.
قال: فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة "اهـ.
العبر والفوائد:
- لقد أمِن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على المجتمع المسلم بالمدينة، وأيقَن أنّ أهل المدينة قد تحوّلوا جميعهم إلى أنصار .. ولكنّه مع ذلك يتأخّر عن اللّحاق بهم، ومن أسباب ذلك: أن يردّ ودائع النّاس الّتي أودعوها إيّاه ! مع أنّ في القوم أعداء ألدّاء .. ولكنّه شعار الحبيب صلّى الله عليه وسلّم: الصّدق والأمانة.
- تأمّل كيف كان يُنظَر إلى من يعرِّض نفسه للفتنة ببقائه بين أظهر الكافرين: ما الله بقابلٍ ممّن افتُتِن صرفاً ولا عدلاً ولا توبةً ! قومٌ عرفوا الله، ثمّ رجعوا إلى الكفر لبلاءٍ أصابهم !
ولكنّك تدرك الفارق بين أولئك وأبناء هذا الزّمان: فتلك فتنة عذاب، لا قِبَل له بردّها، ولا قدرة له على صدّها .. أمّا فتنة بني قومي هذا الزّمان: فهي فتنة أكل وشراب ..وعمارة مآلُها إلى خراب ..
لشتّان ما بين اليزيدين في النّدى *** يزيد بن سليم والأغـرّ بن حاتم
فهمّ الفتى الأزديّ إتلاف مـاله *** وهمّ الفتى القيسيّ جمع الدّراهم
ولا يحسب التّمتـام أنّي هجوته *** ولكنّني فضّلت أهـل المكـارم
وبقِي علينا أن نتحدّث لاحقا إن شاء الله عن الخطوات الأولى لهجرة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم.
[1] أسلم هذا الشّهم فيما بعد.
[2] قال الشّيخ الألباني رحمه الله في "دفاع عن الحديث النّبويّ":" ذكر هذه الرّواية ابن الأثير في "أُسد الغابة" (4/58) عن عليّ رضي الله عنه، والسّند لا يصحّ، فمداره على الزّبير بن محمّد بن خالد العثماني: حدّثنا عبد الله بن القاسم الأملي-كذا الأصل ولعلّه الأيلي- عن أبيه بإسناده إلى عليّ، وهؤلاء الثّلاثة في عداد المجهولين، فإنّ أحدا من أهل الجرح والتّعديل لم يذكرهم مطلقا "اهـ.
[3] قول عمر رضي الله عنه من هنا إلى آخره أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/435) وقال:" صحيح على شرط مسلم " ولم يخرّجاه، وأقرّه الذّهبي، والشّيخ مقبل في "الصّحيح المسند من أسباب النّزول" (198-199).