قال الرّاغب رحمه الله:
" الصّوم في الأصل: الإمساك عن الفعل مطعَماً كان، أو كلاما، أو مشياً؛ ولذلك قيل للفرس الممسِك عن السّير أو العلف: صائم ".
ومنه قوله تعالى حكاية عن مريم:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [ مريم من: 26]، أي: نذرت أن أمسك عن الكلام.
ومن خلال المعنى اللّغويّ ندركُ سرّ الصّيام، وأنّ حقيقته تقود بالعبد إلى الاعتدال.
* أمّا الصّيام شرعا: فهو الإمساك عن شهوتي الفرج والبطن، بنيّة، من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس.
وهذا التّعريف مستفادٌ من نصوص الوحي، حيث قال الله تبارك وتعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة:187].
- فالإمساك عن شهوة الفرج دلّ عليه مفهوم قولِه عزّ وجلّ:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}.
- والإمساك عن شهوة البطن دلّ عليه مفهوم قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى ..}.
- والتّوقيت من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس، دلّ عليه قوله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}، ومفهوم قوله سبحانه:{لَيْلَةَ الصِّيَامِ}؛ فإنّ اللّيلة من غروب الشّمس إلى طلوع الفجر.
والآية الكريمة أطلقت الفجر، وبيّنت السنّة أنّ المراد: الفجر الصّادق، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
- أمّا النيّة فعليها دليلان:
دليل عامّ، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِيَّاتِ، وإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى )).
ودليل خاص، وهو ما رواه أهل السّنن إلاّ ابن ماجه وأحمد والدّارمي عن حَفْصَةَ رضي الله عنها عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ )).
- حقيقة الصّيام:
فإنّ الله تبارك وتعالى قد نصّ على الحكمة من تشريع الصّيام، فقال عزّ وجلّ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
فالغرض من أمره عزّ وجلّ عبادَه بالإمساك عن المفطرات المباحة هو أن يبلغُوا مراتب البرّ، ومنازل التّقوى، وذلك من وجوه كثيرة، منها:
الوجه الأوّل: أنّ العبدَ يهجر ما أباحه الله تعالى له من الطيّبات، وهو يعلم أنّها ما حُرِّمت عليه إلاّ وقتا محدّدا، وزمنا وقيّدا، ومع ذلك تراه يتحرّز كلّ التحرّز من مخالفة أمر الله في ذلك.
فحينها يقف العاقل مع نفسه وقفة تدبّر وتأمّل: أوَ يُعقل أن أترك المباح الحلال، والعذب الزّلال، ثمّ أباشر المحرّمات من الكبائر والصّغائر ؟!
فسيكون جواب العاقل حتماً: فلأَن أهجر المعاصِي الّتي حرّمها الله في رمضان، وفي غير رمضان من باب أولى.
وهذا ما أشار إليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: (( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )) [رواه البخاري].
و( الزّور ) يُطلَق على الكذب، ويطلق على ما هو أعمّ من الكذب، كقول الباطل، والعمل بمقتضاه، ومنه قوله جلّ وعلا:{وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ}، أي: لا يشهدون مجالس الباطل والمعاصي.
و( الجهْل ): أي: السّفه، لأنّ كلّ من فعل فِعلاً لا يُقرّه الشّرع فهو جاهل سفيه، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: من 63].
وفي دعاء الخروج من المنزل: (( اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ )) [رواه أبو داود].
ومن الجهل الإساءة إلى الآخرين، والتعرّض لحرمات المؤمنين، فليس المراد بالجهل هنا الّذي هو ضدّ العلم، فهذا - وإن كان مذموماً - إلاّ أنّه لا علاقة له بما يُبطل أجر الصّائم.
أمّا قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ ))، فهو لا مفهوم له، ولا يعنِي الحديث أنّ الله في حاجة لطاعة العباد، وهو القائل سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
وإنّما معنى الحديث: أنّ من لم يدعْ قولَ الزّور والعمل به، والجهلَ، فالله جلّ وعلا غنيٌّ عن إمساكه عن الطّعام والشّراب؛ لأنّ حقيقة الصّوم هي: ترك المباح من الطيّبات، فكيف يواقع بعد ذلك المعاصي والمحرّمات ؟!
الوجه الثّاني: أنّ المسلم إذا قضى شهرا كاملا حريصا على الطّاعات، مجتنِبا المعاصي والسيّئات، فإنّه لن ينقضيَ الشّهر إلاّ وقد صار التّقوى له سجيّة، فيُرجَى أن يبقَى على ذلك بعد انقضاء شهر الصّيام. وهذا أمرٌ مُشَاهدٌ في كثير ممّن استقاموا في شهر الصّيام.
الوجه الثّالث: أنّ الصّوم جُنّة - كما سيأتي بيانه إن شاء الله في فضائل الصّيام -.
وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ )) [متّفق عليه]. والصّوم يُضيّق على الشّيطان مجراه، فيكسَل العبد عن كثير من السيّئات.
الوجه الرّابع: إنّ من بين أسباب الانحراف: فساد الوسط الّذي يعيش فيه المسلم.
فإذا جاء شهر الصّيام، حرَص عامّة المسلمين على الاستقامة والصّلاح، فيسهُل على العبد تحقيق التّقوى والحرص على الاستقامة.
والشّاهد من هذا كلِّه: أنّ الله تبارك وتعالى ما شرع الصّيامَ إلاّ لتحقيق العبوديّة والتّقوى، فيُذكر فلا يُنسَى، ويطاع فلا يُعصَى، ويُشكر فلا يُكفر.
قال الغزاليّ رحمه الله في " إحياء علوم الدّين " مبيِّناً حقيقةَ الصّوم:
" فهو كفّ الجوارح عن الآثام، وتمامُه بستّة أمور:
الأوّل: غضّ البصر، وكفُّه عن الاتّساع في النّظر إلى كلّ ما يُذمّ ويُكرَه، وإلى كلّ ما يشغَل القلبَ، ويُلهِي عن ذكر الله عزّ وجلّ ...
الثّاني: حفظ اللّسان عن الهذيان، والكذب، والغِيبة، والنّميمة، والفحش، والجفاء، والخصومة، والمراء، وإلزامُه السّكوتَ، وشغلُه بذكر الله سبحانه، وتلاوةِ القرآن، فهذا صوم اللّسان ...
الثّالث: كفُّ السّمع عن الإصغاء إلى كلّ مكروه؛ لأنّ كلّ ما حُرِّم قولُه حُرِّم الإصغاءُ إليه ...
الرّابع: كفُّ بقيّة الجوارح عن الآثام: من اليد، والرّجل، وعن المكاره، وكفّ البطن عن الشّبهات وقتَ الإفطار ... فلا معنى للصّوم - وهو الكفّ عن الطّعام الحلال - ثمّ الإفطار على الحرام ! فمثال هذا الصّائم مثالُ من يبنِي قصراً ويهدم مصراً !...
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: (( كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صَوْمِهِ إِلاَّ الجُوعُ وَالعَطَشُ )).
فقيل: هو الّذي يُفطِر على الحرام، وقيل: هو الّذي يمسك عن الطّعام الحلال ويفطرُ على لحوم النّاس بالغيبة وهو حرام، وقيل: هو الّذي لا يحفظ جوارحَه عن الآثام.
الخامس: أن لا يستكثر من الطّعام الحلال وقتَ الإفطار، بحيث يمتلئ جوفُه ! فما مِن وِعاءٍ أبغضُ إلى الله عزّ وجلّ من بطن مليءٍ من حلال.
وكيف يُستفادُ من الصّوم قهرُ عدوِّ الله، وكسرُ الشّهوة، إذا تدارك الصّائم عند فطره ما فاته ضحوةَ نهارِه ؟! وربّما يزيد عليه في ألوان الطّعام ؟! حتّى استمرّت العادات بأن تدّخرَ جميعُ الأطعمة لرمضان، فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدّة أشهر!
ومعلومٌ أنّ مقصود الصّوم: الخَواء، وكسرُ الهوى، لتقوى النّفس على التّقوى ...
السّادس: أن يكون قلبُه بعد الإفطار معلّقاً مضطرباً بين الخوف والرّجاء؛ إذ ليس يدري أيُقبلُ صومُه فهو من المقرّبين، أو يُرَدّ عليه فهو من الممقوتين ؟ ولِيَكُنْ كذلك في آخرِ كلّ عبادة يفرغ منها ..." اهـ.
وقال ابن الجوزيّ رحمه الله في " التّبصِرة " (2/80):
" للصّوم آداب يجمعها: حفظُ الجوارح الظّاهرة، وحراسةُ الخواطر الباطنة، فينبغي أن يتلقّى رمضانَ بتوبةٍ صادقةٍ، وعزيمةٍ موافقةٍ، وينبغي تقديمُ النيّة ... ولا بّد من ملازمة الصّمت عن الكلام الفاحش، والغِيبة - فإنّه ما صام من ظلّ يأكل لحوم النّاس-، وكفُّ البصر عن النّظر إلى الحرام، ويلزمُ الحذر من تكرار النّظر إلى الحلال "اهـ.
وقال ابن القيّم رحمه الله في " الوابل الصيّب " (ص 43):
" والصّائم هو: الّذي صامت جوارحُه عن الآثام، ولسانُه عن الكذب والفُحش وقولِ الزّور، وبطنُه عن الطّعام والشّراب، وفرجُه عن الرّفث.
فإن تكلّم لم يتكلّم بما يجرح صومَه، وإن فعل لم يفعلْ ما يُفسِد صومَه، فيخرُجُ كلامه كلُّه نافعاً صالحاً.
وكذلك أعمالُه، فهي بمنزلة الرّائحة التي يشمّها من جالس حامِلَ المسك، كذلك من جالس الصّائمَ انتفع بمُجالستِه، وأَمِنَ فيها من الزّور والكذب والفجور والظّلم.
هذا هو الصّوم المشروعُ، لا مجرّد الإمساكِ عن الطّعام والشّراب ...فهكذا الآثامُ تقطَع ثوابَه وتُفسِد ثمرتَه، فتُصَيِّرُه بمنزلة من لم يصم " اهـ.
وهذه بعض الآثار عن سلف الأمّة الأبرار في بيان ذلك:
- روى ابن أبي شيبة عن (2/272) عن عُمَرَ بن الخطّاب رضي الله عنه قال: ( إذا صُمت فليصُم سمعُك، وبصرُك، ولسانُك عن الكذب والمأثَم، ودَعْ أذى الخادم، وليكُنْ عليك وقارٌ وسكينة يومَ صيامك، ولا تجعل يوم صيامك ويوم فطرك سواء ).
- وروى أيضا (2/271) عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: ( إذا صُمت فتحفَّظ ما استطعْتَ ).
- وأخرج ابن أبي الدّنيا في " كتاب الصّمت " (رقم 179) بسندٍ لا بأس به عن عَبِيدةَ السّلماني قال: ( اِتَّقُوا الْمُفطِّرَيْن: الغيبةَ والكَذِبَ ).
وهناك مرتبة الكمال والإحسان، وهي تفُوق كلّ ذلك: وهي ترك المحرّمات والسّيئات، والارتقاء بالقيام بالعِبادات والقُرُبات، ومن أجلِّها:
أ) الإكثار من تلاوة القرآن.
ب) والجود والكرم بالصّدقات على الفقراء والمساكين، في وجوه البرّ والإحسان.
ج) والحِرص على قيام اللّيل.
د) والإكثار من ذكر الله عزّ وجلّ بالثّناء والدّعاء.
هـ) العمرة، فهي تعدِل حجّة مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
والله الموفّق إلى طاعته، لا ربّ سواه.