شرح الحديث:
- إنّما سمّى أجرُ الذّكر غنيمةً لوجوه:
أوّلا: لأنّه كالجهاد الشّاقّ على النّفس مع كثرة الصّوارف والشّواغل.
لذلك كان من صفات المنافقين أنّهم لا يذكرون الله إلاّ قليلا، كما أنّهم لمّا كانوا يتخلّفون عن الجهاد قال تعالى:{وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب: من الآية18].
ثانيا: ولأنّه أيضا جهاد للشّيطان الرّجيم كما مرّ في تشبيه الذّكر بالحصن.
ثالثا: لأنّ ما يغنمه الذّاكر أعظم من المال الّذي يغنمه المجاهد.
فقد جاء في سنن التّرمذي عن عمرَ بنِ الخطّابِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم بَعَثَ بَعْثًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَأَسْرَعُوا الرَّجْعَةَ !
فَقَالَ رَجَلٌ مِمَّنْ لَمْ يَخْرُجْ: مَا رَأَيْنَا بَعْثًا أَسْرَعَ رَجْعَةً، وَلَا أَفْضَلَ غَنِيمَةً مِنْ هَذَا الْبَعْثِ !
فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى قَوْمٍ أَفْضَلُ غَنِيمَةً وَأَسْرَعُ رَجْعَةً ؟ قَوْمٌ شَهِدُوا صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ جَلَسُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ حَتَّى طَلَعَتْ عَلَيْهِمْ الشَّمْسُ، أُولَئِكَ أَسْرَعُ رَجْعَةً وَأَفْضَلُ غَنِيمَةً )).
رابعا: بل إنّ الذّكر أعظم ما يُعين على الجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
قال ابن القيّم رحمه الله في " روضة المحبّين " (ص 264):
" والْمُحِبّون يفتخرون بذكرهم أحبابَهم وقتَ المخاوف، وملاقاة الأعداء، كما قال قائلهم:
ذَكرتُكِ والخَطِّيُّ يخْطُر بيْنَنَا *** وقد نهِلتْ منها المُثقَّفةُ السُّمْرُ
وقال آخر:
ولقد ذكرتكِ، والرِّماح كأنّها *** أشطانُ بئرٍ في لَبان الأدهم
وقال في " مدارج السّالكين " (2/427):
" وهذا كثير في أشعارهم، وهو ممّا يدلّ على قوّة المحبّة، فإنّ ذكرَ المحبِّ محبوبَه في تلك الحال الّتي لا يهمّ المرءَ فيها غيرُ نفسِه، يدلّ على أنّه عندَه بمنزلة نفسه أو أعزّ منها، وهذا دليل على صدق المحبّة ... "اهـ.
- وجعل أجر الذّكر الجنّة؛ فإنّ أقرب ما يكون العبد من الله تعالى وهو ذاكرٌ له سبحانه، فلم يبْق بينه وبين ملاقاته إلاّ الموت.
ويشهد لهذا ما رواه ابن السنّي في " عمل اليوم واللّيلة " عن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ، لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلاَّ الْمَوْتُ )) ["السّلسلة الصّحيحة" (رقم 972)].
والله الموفّق لا ربّ سواه.