وأرد الله أن يجعل للذّكر مثل حظّ الأنثيين، فانتقى من غرس الشّباب أسبقهم إلى الإسلام، وأجمعهم للشّجاعة والإقدام .. الّذي ظلّ يقول:
أنا الّذي سَمَّتْنِي أمّي الْحَيْدَرَه *** كَلَيْثِ غاباتٍ غليظِ القَصَرَه
أَكِيلُكُمْ بالسّيف كَيْلَ السَّنْدَرَه[1]
إنّه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه الّذي نام على فراش الموت ..
كان ذلك يوم اتّفق الطّغاة على قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وجاءوا بثمانية سيوف أو أكثر، تبدو كأنّها أفاعي تريد أن تلقف الوحي المنزّل من عند الله، ولكنّ الله تعالى جعل تلكم المكايد مجرّد هواء يخرج من الفم لإطفاء نور الشّمس ..{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما[2]:
" فأتى جبريلُ عليه السّلام رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:" لاَ تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِكَ الَّذِي كُنْتَ تَبِيتُ عَلَيْه ".
قال: فلمّا كانت عتمةٌ من اللّيل، اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه.
فلمّا رأى رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم مكانَهم، قال لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (( نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الحَضْرَمِيِّ، فَنَمْ فِيهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ ))، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينام في برده ذلك إذا نام.[3]
وعلم عليّ رضي الله عنه أنّه لا يؤمن أحدٌ حتّى يكون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحبَّ إليه من ماله، وأهله، ونفسه، والنّاس أجمعين، فلم يتردّد طرفة عين في امتثال أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، شعاره:
بعنا النّفوس فلا خيـار لبيعـنا *** أعْظِـمْ بقوم بايعـوا الغفّـارا
فأَعَـاضَنَا ثمنـاً ألذَّ من المنـى *** جنّاتِ عـدن تُتْحِف الأبـرارا
روى الإمام أحمد بسند لا بأس به عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال:
" شَرَى عَلِيٌّ رضي الله عنه نَفْسَهُ: لَبِسَ ثَوْبَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ثُمَّ نَامَ مَكَانَهُ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرْمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه - وَعَلِيٌّ رضي الله عنه نَائِمٌ -، وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَحْسَبُ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ.
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَدْ انْطَلَقَ نَحْوَ بِئْرِ مَيْمُونٍ، فَأَدْرِكْهُ.
فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه ...
قال ابنُ عبّاس رضي الله عنهما: وَجَعَلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه يُرْمَى بِالْحِجَارَةِ، كَمَا كَانَ يُرْمَى نَبِيُّ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَهُوَ يَتَضَوَّرُ قَدْ لَفَّ رَأْسَهُ فِي الثَّوْبِ لَا يُخْرِجُهُ، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَلَئِيمٌ؛ كَانَ صَاحِبُكَ - يقصِدون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم- نَرْمِيهِ فَلَا يَتَضَوَّرُ، وَأَنْتَ تَتَضَوَّرُ، وَقَدْ اسْتَنْكَرْنَا ذَلِكَ !.
[( تنبيه ): لا يفوتنا أن نبيّن أنّ ما رواه ابن إسحاق وغيره من أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج عليهم، فأهلّ على رؤوسِهم التّرابَ، وقرأ قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يـس:9]، أنّه ليس بصحيح].
وتمّ اللّقاء المبارك الميمون، بين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر رضي الله عنه عند بئر ميمون.
وكان الطّريق وعرا إلى مكان الاختباء غارِ ثور .. وتراهما يواصلان سيْرَهما على عجل، إلاّ أنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يكن طبيعيّا ..
كان مرتبكا .. كان لا يحمل إلاّ روحه خلال جنبه، وخمسة آلاف درهم في جيبه، هي كلّ ما يملك ..
لكنّ المتأمّل في حركة مشيه، وهيئة اضطرابه يعلم أنّه ليس بخائف على نفسه ولا على ماله ..
روى البغويّ كما في "سيرة ابن كثير" (2/237)، وابن هشام بسند حسن[4] أنّه رضي الله عنه كان يكون مرّة أمام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومرّة خلفه، فسأله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك ؟
فقال رضي الله عنه:" إذا كنْتُ خلفك، خشيت أن تُؤْتَى من أمامِك، وإذا كنْتُ أمامَك، خشيتُ أن تُؤْتَى من خلفِك "!
ولم يطمئنّ له بال، ولم يهدأ له حال، حتّى لامسَتْ قدماه غارَ ثَوْرٍ.
بل جاء في الرّواية المذكورة أنّه رضي الله عنه قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم:" كَمَا أَنْتَ ! حَتّى أُدْخِلَ يدِي فأُحِسَّه وأَقُصَّه، فإن كانت فيه دابّة أصابتني قبلك !".
كان دِرْعاً تحمي النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم .. كان لسان حاله هذا يقول لحيّات الغار وعقاربه: ها هو جسدُ أبي بكر حيّا طريّا فالتهميه.. هاهو جسد أبي بكر اُنْشُري فيه سمومَك ومزّقيه.. أمّا أن تمسِّي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الّذي تنتظره الأرض جمعاء، بعد شوق دام قرونا وقرونا فلا !
هذا الموقف هو ما جعل عمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه يحمرّ وجهُه غضبا يوم سمع أنّ قوما يفضّلونه على أبي بكر رضي الله عنه ! إنّه كان يعرف من هو أبو بكر رضي الله عنه ؟
جاء في رواية البيهقيّ في "الدّلائل" أنّه حين بلغه ذلك، قام فصاح في النّاس قائلا:
" والله لليلة من أبي بكر رضي الله عنه خير من آل عمر، وليومٌ من أبي بكر خير من عمر ..
لقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة انطلق إلى الغار، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتّى فطِن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: (( يَا أَبَا بَكْرٍ ! مَا لَكَ تَمْشِي سَاعَةً خَلْفِي، وَسَاعَةً بَيْنَ يَدَيَّ ؟ )).
فقال: يا رسول الله ! أذكر الطّلب فأمشي خلفك، ثمّ أذكر الرّصد فأمشي بين يديك.
قال عمر رضي الله عنه: فلمّا انتهيا إلى الغار قال أبو بكر رضي الله عنه: مكانك يا رسول الله ! حتّى أستبرئ. فدخل فاستبرأ ثمّ قال: انزل يا رسول الله ! فنزل.
والّذي نفسي بيده، لتلك اللّيلة خير من آل عمر".
كيف يفلح الكفّار وهم يحاربون قوما أمثال هؤلاء ..
قوم شعارهم الأوّل والأخير:
ولو أنّـي خبّـأتـك فـي عـيـونـي *** إلـى يـوم القـيـامـة مـا كـفـانـي
عليّ ينام على فراش الموت .. وهذا جسد أبي بكر رضي الله عنه يريد أن يكتب بدمائه نشيدَ التّضحية في سبيل الله بجدران الغار ..
روى ابن إسحاق بسند صحيح عن عبد الله بن الزّبير عن أمّه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: لقد كان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الغار، فأصاب يدَه حجر، فقال:
إن أنـت إلاّ أصـبـع دَمِـيـتِ *** وفـي سبـيـل الله مـا لقـيـتِ.
هذا جسد أبي بكر رضي الله عنه، أمّا ماله، فقد وضعه رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلَّه، حتّى صار بيتُ أبي بكر خالياً من كلّ شيء، إلاّ من الإيمان.. وفتيات ربّاهنّ الإسلام.
ونرى البقيّة لاحقا إن شاء الله تعالى.
[1] والحيدرة: الأسد، وقال ابن الأعرابيّ: الحيدرة في الأُسْد مثل الملك في النّاس، وذلك لغِلظ عنقه وقوّة ساعديه، ومنه غلام حادر إذا كان ممتلىء البدن، شديد البطش، والياء والهاء زائدتان [انظر "لسان العرب"].والسّندرة الجرأة: ورجل سندر، إذا كان جريئا.
[2] هو تتمّة حديثه رضي الله عنه عن يوم الزّحمة، وقد رأيناه في الحلقة السّابقة.
[3] هذا الحديث صحيح، وهناك روايات سِيقت في ذلك ضعيفة، كما بيّنه الشّيخ الألباني رحمه الله في " السّلسلة الضّعيفة " رقم (1130).
[4] الحديث مرسل، لكنْ يشهد له ما رواه البيهقيّ في "الدّلائل" (2/477) عن عمر رضي الله عنه – وسيأتي -، ورواية مرسلة أخرى عن الحسن عند ابن هشام رحمه الله.