{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) )فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)}.
وهذه الأسطر تذكير بوجوب شكر هذه النّعمة؛ وبيان لمنزلتها وحرمتها في الإسلام، ويظهر لنا ذلك من عدّة وجوه:
- الوجه الأوّل: أنّ الله امتنّ بها على عباده.
قال الله تبارك وتعالى:{وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)}.
وسورة النّحل هي سورة النِّعم - كما ثبت ذلك عن قتادة رحمه الله عند ابن أبي حاتم في تفسيره -؛ لأنّ الله ذكر في هذه السّورة أصولَ النّعم وفروعَها.
وتأمّل كيف ختم هذه الآية بقوله:{كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أسلمنا إليك ربّنا، واعترفنا بعجزنا عن شكرها.
- الوجه الثّاني: تسمية البيوت سكناً.
فكثيرا ما يمتنّ الله على عباده بنعمة السّكن، ويجعله من الآيات، كما هو الشّأن في اللّيل، قال تعالى:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام:96]، وقال سبحانه:{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73].
وكما هو الشّأن في الأزواج، حيث قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
ولكن هل يمكن أن يكون اللّيل والأزواج سكنا دون مكان يُستقرُّ فيه ؟!
- الوجه الثّالث: البيوت من مظاهر الغِنَى.
جاء في صحيح مسلم عن أبي عبدِ الرّحمنِ الحُبُلِيّ قال: سمعتُ عبدَ اللهِ بنَ عمْرٍو وقد سَأَلَهُ رَجُلٌ فقالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ؟ -أي: الذين يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم- فقال له عبدُ اللهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ ؟ قال: نَعَمْ ! قَالَ: فَأَنْتَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ. قال الرّجل: فَإِنَّ لِي خَادِمًا ! قال رضي الله عنه: فَأَنْتَ مِنْ الْمُلُوكِ !
ذلك؛ لأنّ السّكن قد حصل له من جهاته كلّها، فتمّت عليه النّعمة.
وفي بعض التّفاسير لقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20] أنّ بني إسرائيل كان الرجل منهم إذا كان له بيت وزوجة وخادم يُعدّ ملكا.
- الوجه الرّابع: تخصيص البيوت بالذّكر دون سائر النّعم.
قال عزّ وجلّ:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُون (13)} [الأنبياء] خصّ المساكن بالذّكر لأنّها من أعظم ما يترفّه به العبد.
ومثله قول الله تعالى في حقّ قارون:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
- الوجه الخامس: البيوت من أسباب الأمن.
ويكفي في بيان ذلك قول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكّة: ((مَنْ دَخَلَ بَيْتَهُ فَهُوَ آمِنٌ )).
وروى التّرمذي وابن ماجه والبخاري في "الأدب المفرد" عن عبيد الله بن محصن وابن حبّان عن أبي الدّرداء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا )).
السّرب: النّفس، وروي: سَرَبه: في طريقه في إيابه وذهابه.
- الوجه السّادس: إنّ الله قد جعل للبيت حصانة، ولمن فيه مكانة.
فحرّم الله على صاحب البيت أن يدخل بيته على أهله بعد غياب حتّى يُعلِمها.
روى البخاري ومسلم عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما قال: قَفَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ غَزْوَةٍ ... فَلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، قَالَ: (( أَمْهِلُوا ! حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا - أَيْ عِشَاءً - لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ )). وفي رواية قال له: (( إِذَا دَخَلْتَ لَيْلًا فَلَا تَدْخُلْ عَلَى أَهْلِكَ حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ، وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ )).
وفي صحيح البخاري عن أنسٍ رضي الله عنه قال: كانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ، كَانَ لَا يَدْخُلُ إِلَّا غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً.
الطّروق: هو الإتيان ليلا، سمّي بذلك لأنّ الإنسان يحتاج إلى أن يطرق البيت بشدّة ذلك الوقت المتأخّر من اللّيل، ومنه الطّريق لأنّه يُطرَق بالأقدام.
وقيل: إنّه من السّكون ومنه أطرق رأسه إذا سكن، وهو يأتيهم في وقت سكون.
وفي تشريع هذا الحكم ثلاث حِكَم:
1- لئلاّ يرى الرّجل ما تنفر منه نفسه ممّا هو حلال، فكيف بما هو حرام ؟ وهذه العلّة منصوص عليها.
2- لئلاّ يتخوّنها، فقد روى مسلم وأحمد عن جابرٍ رضي الله عنه قال: ( نَهَى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا: يَتَخَوَّنُهُمْ، أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ ).
وفي سنن التّرمذي والنّسائي والدّارمي: أنّ صحابيّين طرق كلّ منهما أهله طروقا، فوجد كلاهما مع زوجته ما يكرهه.
وبوّب له الدّارمي قائلا:" باب: تعجيل عقوبة من بلغه حديثٌ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلم يعظّمه ولم يوقّره "اهـ.
3- لئلا يقع الرّجل في مغبّة سوء الظّن:
فقد روى أحمد والحاكم عن عبد الرّحمن بن رواحة أنّه جاء من سفر فطرق على أهله طروقا، فوجد مع امرأته من يمشّطها ويسرّح شعرها، فهمّ ليضربها، فقالت: إليك عنّي، إنّها جارتي.
- الوجه السّابع: أنّ الله تعالى قد عظّمها حتّى خصّها بما تختصّ بها المساجد.
فقد روى مسلم عن ابنِ عمرَ رضي الله عنه عنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا )).
فشكراً لهذه النّعمة والمنّة، أمر الله تعالى عباده بالإكثار من الصّلاة فيها وذكر الله في جنباتها.
- الوجه الثّامن: أنّ الله تعالى أمر بلزومها:
فقد روى أحمد والترمذي عن عُقبةَ بنِ عامرٍ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلِيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ )).
وعن إمام التّابعين طاوس رحمه الله قال: نِعْمَ صومعةُ الرّجلِ بيتُه، يكفّ فيه سمعه وبصره.
فالنّجاة أن تمسكَ لسانَك، ولا سبيلَ إلى ذلك إلاّ بأن يَسَعَك بيتُك، ولا يمكن ذلك إلاّ إذا تذكّر العبد ما عليه من الخطايا، فيبكي عليها.
وروى الطّبراني في "الأوسط" و"الصّغير" عن ثَوْبَانَ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( طُوبَى لِمَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ )).
وقد حضّنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على لزوم البيوت، إلاّ لمصلحة شرعيّة، ففي معجم الطّبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَسَعْهُ بَيْتُهُ، وَلْيَبْكِ عَلَى خَطِيئَتِهِ ..)).
الوجه التّاسع: أنّ الله علّق بها أسباب السّعادة أو الشّقاء.
ففي الصّحيحين وغيرهما عن ابنِ عمَرَ رضي الله عنهما قال: ذَكَرُوا الشُّؤْمَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ )).
وشؤم المرأة أن تكون خبيثة، لا تحفظ لسانها ولا عفافها، ولو بقي عزبا لكان أفضل.
وشؤم المركب: الفرس ونحوها، ألاّ تكون مسرعة، ولا تنقاد لرغباته، فتخرب ويخرب معها، ولو مشى على رجليه لكان أفضل.
وشؤم الدّار، أن يكون من فوقه يعصي الله تعالى، ومن تحته يعصي الله تعالى، ومن خلفه يعصي الله تعالى، فهو يعيش بينهم في شقاء.
قال الحافظ رحمه الله:
" كأنّه يشير إلى اختصاص الشّؤم ببعض النساء دون بعض، ممّا دلت عليه الآية من التّبعيض - يقصد قوله تعالى:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ}-... وقد جاء في بعض الأحاديث ما لعلّه يفسّر ذلك، وهو ما أخرجه أحمد وصحّحه ابن حبان والحاكم من حديث سعد مرفوعا: (( مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاَثَةٌ : المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالمَسْكَنُ الصَّالِحُ، وَالمَرْكَبُ الصَّالِحُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاَثَةٌ: المَرْأَةُ السُّوءُ، وَالمَسْكَنُ السُّوءُ، وَالمَرْكَبُ السُّوءُ )).
وفي رواية لابن حبّان: (( المَرْكَبُ الهَنِيُّ، وَالمَسْكَنُ الوَاسِعُ ))، وفي رواية للحاكم: (( وَثَلاَثَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ: المَرْأَةُ تَرَاهَا فَتَسُوؤُكَ وَتَحْمِلُ لِسَانَهَا عَلَيْكَ، وَالدَّابَّةُ تَكُونُ قَطُوفاً، فَإِنْ ضَرَبْتَهَا أَتْعَبَتْكَ، وَإِنْ تَرَكْتَهَا لَمْ تَلْحَقْ أَصْحَابَكَ، وَالدَّارُ تَكُونُ ضَيِّقَةً قَلِيلَةَ المَرَافِقِ )).
فسوء الدّار يكمن في ضيق مساحتها، وخبث جيرانها.
والله نسأل أن ينعم على المسلمين بالمسكن الواسع، وأن يُلهمَنا شكر نعمه الظّاهرة والباطنة، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.