الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فالفحص الطبيّ قبل الزّواج من القضايا النّازلة؛ وذلك لانتشار الأمراض المستعصِية الّتي طفت على سطح المجتمعات هذا العصر.
ولقد تطوّرت الهندسة الوراثيّة إلى حدّ كبير مُذهل، ممّا جعل هناك دعوةً قويّة لإلزام النّاس بالفحص الطبّي.
وإنّ للوقاية من الأمراض المُعدِية أصلاً في الشّريعة، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ )) [رواه البخاري]، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا تُورِدُوا الْمُمْرِضَ عَلَى الْمُصِحِّ )) [رواه البخاري أيضا]، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ ضَرَرَ، وَلاَ ضِرَارَ )) [رواه أحمد].
فهناك أمراض وراثيّة تنتشر في بعض المجتمعات، وحامل المرض لا يلزم أن يكون مُصابا به بالضّرورة، ولا تظهر عليه أعراضه أصلاً، إنّما يحمل المرض وينتقل إلى بعض ذرّيته.
وللفحص الطبّي مصالح ومفاسد نوجز ذكرَها فيما يلي:
المصالح:
1- أنّ المُقدمين على الزّواج يكونون على علم بالأمراض الوراثيّة المحتملة إن وُجدت، فتتّسع الخيارات في عدم الإنجاب أو عدم إتمام الزّواج.
2- المحافظة على سلامة أحد الزّوجين من الأمراض.
3- أنّ هناك أمراض وراثيّة تنتشر بشكل واضح - خاصّة في بلدان البحر المتوسّط -، ولها وسائل وقائيّة قبل الزّواج، ومن أشهر هذه الأمراض التّلاسيميا ( مرض فقر الدّم ).
4- إنّ عقد الزّواج عقد عظيم يُبنَى على أساس الدّوام والاستمرار، فإذا تبيّن بعد الزّواج أنّ أحد الزّوجين مصاب بمرض معيّن فإنّ هذا يكون سببا في إنهاء الحياة الزّوجيّة.
5- تقليل نسبة المولودين المشوّهين.
المفاسد:
1- إيهام النّاس أنّ الفحص الطبّي وقاية كاملة من الأمراض الوراثيّة، وهذا غير صحيح، فإنّ الفحص الطبّي لا يبحث غالبا إلاّ عن مرضين أو ثلاثة قد تنتشر في مجتمع معيّن.
2- قد تتسرّب نتائج الفحص الطبّي فيتضرّر المريض، لا سيّما المرأة الّتي قد يعزف عنها الخُطّاب إذا علموا بسبب فسخ العقد ! وإنّما الحقيقة والواقع أنّها لا تصلح للأوّل فحسب.
3- الكلفة المادّية الّتي يتعذّر على بعضهم الالتزام بها في بعض المجتمعات.
فإذا علمنا كلّ ذلك، فيبقَى علينا معرفة أمرين اثنين:
الأمر الأوّل: حكم إلزام الدّولة كلّ من يتقدّم للزّواج بإجراء الفحص الطبّي، أي: هل يُجعل شرطا أو أمرا اختياريّا ؟
فهناك قولان لأهل العلم في هذه النّازلة:
أ) القول الأوّل: أنّ لوليّ الأمر إلزامَ الرّعية بهذا الفحص، فلا يتمّ العقد إلاّ به.
وممّن قال بذلك: الدّكتور محمّد الزّحيليّ، والدّكتور حمداتي ماء العينين (وهو من علماء المغرب وعضو مجمع الفقه الإسلاميّ)، ومحمّد عثمان شبير (أستاذ الفقه بكلّية الشّريعة بالجامعة الأردنيّة).
ب) القول الثّاني: أنّه لا يجوز إجبارُ النّاس على مثل هذا الفحص، ولكن يُكتفى بتشجيع النّاس على القيام به، ونشر الوعي بالوسائل المختلفة، وبيان أهمّية هذا الفحص.
وهو الأقرب إلى الصّواب إن شاء الله تعالى.
وممّن قال بذلك الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والدّكتور عبد الكريم زيدان (أستاذ الشّريعة الإسلاميّة بالجامعتين العراقيّة واليمنيّة)، ومحمّد رأفت عثمان (عميد كلّية الشّريعة بالأزهر).
الأمر الثّاني: حكم التهرّب من هذا الفحص.
إذا تبنّى وليّ الأمر أحدَ هذين القولين، وألزم به الرعيّة، فإنّه لا يحلّ التملّص والتهرّب منه؛ لأنّ طاعة ولاة الأمر فيما لا معصية فيه واجبة.
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم.