الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فإنّ من فضائل هذه الآية: أنّ الله سبحانه أنزلها في أفضل الأيّام، وأفضل الشّهور، وأفضل الأماكن، على أفضل الخلق صلّى الله عليه وسلّم، ومعه أفضل الخلق رضي الله عنهم.
لذا جاء في الصّحيحين عن طارقِ بنِ شهابٍ عن عمَرَ بنِ الخطّابِ رضي الله عنه أنَّ رجلًا من اليهُودِ قال له: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا !
قال عمرُ رضي الله عنه: أَيُّ آيَةٍ ؟ قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا}.
قال عمَرُ رضي الله عنه: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.
أمّا معنى قوله تعالى:{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}: يعني أن ترجعوا إلى دينهم كفّارا.
وفي ( يئس ) لغتان:
أ) يئس ييئَس يأسا.
ب) وأَيِسَ يَأْيِسُ إِيَاساً. وهو انقطاع الأمل والرّجاء، ومنه المرأة اليائس، وهي الّتي انقطع أملها عن الولادة لكبر، فلا تحيض، قال تعالى:{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطّلاق: من الآية4].
ومنه اليأس من رحمة الله، وهو من الكبائر، قال تعالى على لسان يعقوب عليه السّلام:{إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: من الآية87].
والمقصود: أنّه بعد فتح مكّة وظهور الإسلام، وانتشاره، علم الكفّار أنّهم لن يقدروا على أن يطمسوا نور دين الله الحنيف، وأن يردّوا المؤمنين إلى دينهم، وأن يُشابهوهم في عباداتهم ومعاملاتهم.
قال ابن كثير رحمه الله:
" وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثّابت في الصّحيح - يقصد صحيح مسلم - عن جَابِرٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ )).[1]
ومقتَضَى ذلك ونتيجته: الثّقة بالله عزّ وجلّ، والاستغناء بشرعه الكامل؛ لذلك قال بعدها:
{فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ}: فيأمر الله تعالى عبادَه المؤمنين أن يصبروا، ويثبتوا في مخالفة الكفّار، ولا يخافوا أحدا إلاّ الله {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} في مخالفتكم إيّاهم، {وَاخْشَوْنِ} أنصركم عليهم، لأنّه تعالى جعل الذلّة والصّغار على من خالف أمره.
ثمّ علّل السّبب الّذي ينبغي للمسلم أن يتذكّره لئلاّ يشابه الكافرين، ولا يخشى كيد الكائدين، فقال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
أمّا الفرق بين الكمال والتّمام: فتأمّل أنّه سبحانه أطلق الكمال على الدّين، والتّمام على النّعمة، والسرّ في ذلك ما قاله ابن القيّم رحمه الله في " اجتماع الجيوش الإسلاميّة ":
" والّلفظتان - وإن تقاربتا وتواخيتا - فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمّل:
فإنّ الكمال أخصّ بالصّفات والمعاني. ويطلق على الأعيان والذّوات ولكن باعتبار صفاتها وخواصّها، كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ))...
وأمّا التّمام فيكون في الأعيان والمعاني، ونعمة الله أعيان وأوصاف ومعان، وأمّا دينه فهو شرعه المتضمّن لأمره ونهيه ومحابّه، فكانت نسبة الكمال إلى الدّين والتّمام إلى النّعمة أحسن "اهـ.
والله تعالى أعلم، وأعزّ وأكرم.
[1] ( أن يعبده المصلون ) أي: أيس من أن يعبده المؤمنون، سمّوا بذلك لأنّ الصّلاة أشرف الأعمال، وأظهر الأفعال الدّالة على الإيمان.
وعبادة الشّيطان - كما قال القاضي -: عبادة الصّنم، لأنّه الآمر به، والدّاعي إليه، بدليل قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السّلام:{ يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}.
( ولكن في التحريش ) أي: يسعى في التّحريش ( بينهم ) أي: في إغراء بعضهم على بعض، والتّحريض بالشرّ بين النّاس من قتل وخصومة، والمعنى: لكن الشّيطان غير آيس من إغراء المؤمنين، وحملهم على الفتن، بل له هو مطمع في ذلك.