- منها قسمُ الله تعالى بهذه الأيّام، وذلك في قول الله تبارك وتعالى:{وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ} قال ابن عباس رضي الله عنه وغيره:" والفجر: يريد صبيحة يوم النّحر، وليال عشر: هي العشر الأول من ذي الحجّة.
- ومنها ما يدلّ على فضل تاسع هذه الأيّام، وهو يوم عرفة، وما أدراك ما يوم عرفة ؟! روى مسلم عن أبي قتادَةَ أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ: أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ )).
- ومنها ما يدلّ على أنّ اليوم العاشر منه أعظم الأيّام في السّنة، فقد روى أبو داود عن عبدِ اللهِ بنِ قُرْطٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ تبارك وتعالى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ )).
لذلك أراد الله أن يدخل على قلوب عباده السّرور، ويثلج لهم الصّدور، فقد روى التّرمذي وأبو داود وغيرهما عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: قالَ رسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ )) فقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قالَ: (( وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ )).
فبماذا نتقرّب إلى الله هذه الأيّام ؟
- · إنّ من أعظم الأعمال التي يرغّب الله تبارك وتعالى عباده فيها في مثل هذه الأيّام ذكر الله تعالى، قال تعالى:{فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: من الآية200].
فقد كان العرب في الجاهليّة في مثل هذه الأيّام يقصدون أسواق العرب ومحافلهم كعكاظ، ومِجَنَّة، وذي المجاز، ويشرعون في ذكر الآباء والأجداد ومفاخرهم، فأراد الله تعالى أن تكون هذه الأيّام أيّام ذكر له وحده لا شريك له، وأكّد الله تعالى ذلك في أيّام التّشريق، فقال عزّ وجلّ:{وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: من الآية203].
وسنقِف عند هذا الأمر الربّانيّ قليلا:{وَاذْكُرُوا اللهَ}؛ وذلك لسببين اثنين:
السّبب الأوّل: وهو أنّ النّاس قد أجمعوا على ظاهرة قسوة القلوب، وبعد النّاس عن علاّم الغيوب، وإصرارهم على المعاصي والذّنوب، وليس ثمّة دواء أنفع ولا علاج أنجع من ذكر الله تعالى, وإنّ رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوةَ قلبي ؟ قال: أَذِبْهُ بِالذِّكْر.
فذكر الله حياة القلوي وغذاؤها، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشّورى من: 52].
وكلّما كان العبد أكثر ذكرا لله تعالى كان أكثر إحساسا، فيرى المعروف معروفا، والمنكر منكرا، والحقّ حقّا، والباطل باطلا، وإلاّ:
( ............ مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيـلاَمُ )
قال تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام من: 122].
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: (((( مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ )).
السّبب الثّاني: هو تهاون النّاس وإعراضهم عن ذكر الله بشتّى صوره، إلاّ من رحم ربّك وقليل ما هم.
فلا يخفى عليكم أنّ ذكر الله نوعان: ذكر مطلق، وذكر مقيّد:
فالذّكر المطلق: هو الّذي ورد التّرغيب فيه مطلقا من غير تقييد بزمان أو مكان أو حال، فالمسلم يذكر الله على كلّ حال، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ} [آل عمران من: 191]، يسبّح الله، ويهلّل، ويكبّر، ويحمد، ويُثني عليه الخير كلّه، ويقرأ القرآن، ويُصلّي على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ونحو ذلك.
والذّكر المقيّد: هو الّذي ورد الدّليل بتقييده بزمن أو مكان أو حال، فالمقيّد بالزّمن كأذكار الصّباح والمساء، والمقيّد بالمكان كمن نزل منزلا، أو دخل مسجدا أو بيتا، أو غير ذلك، والمقيّد بحال: كالمقيّد بحال المطر والصّحو، والمرض، و واللّباس والنّوم، والأكل، ودبر الصّلوات المكتوبة، وغير ذلك.
وإنّنا إذا عجزنا عن أن نكون من الذّاكرين اللهَ على كلّ حال تسبيحا وتمجيدا وتكبيرا وتهليلا واستغفارا وحوقلة وغير ذلك، فلا ينبغي أن نعجز عن ذكر الله في الأوقات الّتي أمرنا الله فيها وأمرنا رسول الله فيها بذكر الله ..
ولكنّك ترى بأمّ عينيك تقصيرا رهيبا وغفلة عجيبة حتّى في مواطن الذّكر القليلة: فصار النّاس يدخلون المسجد ويخرجون بلا ذكر .. يسمعون الأذان ولا يردّدون خلفه .. يلبسون ثيابهم ونعالهم ويأتون مضاجعهم ويدخلون منازلهم ويغادرونها ويركبون مراكبهم ولا يأتون على ذكر الله !! حتّى بلغ بهم الأمر إلى أن صاروا يتركون تحيّة الإسلام، فلا تُلقَى إلاّ على المعرفة والمصالح !!
فليس لدينا لمعالجة هذا الأمر إلاّ الكلمات .. وأيّ كلمات ؟! كلمات من وحي ربّ الأرض والسّموات، وأحاديث سيّد السّادات صلّى الله عليه وسلّم .. فنأتي على بعض فضائل الذّكر لعلّ فيها تذكيرا للغافلين، وتثبيتا للطّائعين ..
- الفضل الأوّل: أنّه أعظم عبادة على الإطلاق، وما عُبِد الله بمثل ذكره .. روى الإمام أحمد والتّرمذي بسند حسن عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال: قالَ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ )). قَالُوا: بَلَى. قَالَ: (( ذِكْرُ اللَّهِ تعالى )).
فإن قيل: أليست الصّلاة أعظم العبادات ؟
فالجواب: أنّ الصّلاة ما عُظّمت إلاّ لأنّها ذكر لله تعالى، قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: من الآية45]، وأنّ الصّلاة دليل على ذكر الله قال تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15]، وقدّمه في الذّكر عندما حرّم الخمر، فقال:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91].
لذلك جاء وصفه بأنّه أحبّ العمل إلى الله، فقد روى الطّبراني عنْ مالِكِ بنِ يُخَامِرَ أنّه قال لمُعاذٍ رضي الله عنه: أَخْبِرْنِي بِأَفْضَلِ الأَعْمَالِ وَأَقْرَبِهَا إِلى اللهِ ؟ فقَالَ مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ: " إِنَّ آخِرَ كَلاَمٍ فَارَقْتُ عَلَيْهِ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَنْ قُلْتُ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ ؟ قال: (( أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ )).
ولذلك كلّه أوصى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالذّكر إذا كثرت الأعمال على العبد، روى التّرمذي عنْ عبدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ: (( لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ )).
الفضل الثّاني: أنّه العبادة الّتي أمر الله تعالى بالإكثار منها، فالله لا يأمر المؤمنَ بذكره، ولكنّه يأمره بالإكثار من ذكره، لذلك جاءت أكثر النّصوص الآمرة بالذّكر واصفة له بالكثرة، ومن ذلك في القرآن الكريم:
قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35]،{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41]، وقوله:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: من الآية200].
ولذلك ذمّ الله تعالى المنافقين لأجل أنّهم يذكرون الله قليلا، قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142]، فهذا وعيد شديد للمؤمن الحقّ أن لا يكتفي بمجرّد الذّكر القليل.
- الفضل الثّالث: أنّه سبب لمعيّة الله تعالى وسبب لأن يذكرك الله في الملأ الأعلى، وسبب لقرب الله منك.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ النّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( يَقُولُ اللهُ تعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ. وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً )).
ثلاثة أمور الواحدة منها تزن الكون كلّه:
أوّلها: ( وأنا معه إذا ذكرني ) تلك هي المعيّة الخاصّة، لا تكون إلاّ للمؤمنين الصّالحين، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
ولم تقف المكافأة عند هذا، بل زاد: (( فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ )). قال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] أي: اذكروني بالمعذرة أذكركم بالمغفرة، واذكروني بالثّناء أذكركم بالعطاء، واذكروني بالسّؤال أذكركم بالنّوال، واذكروني بالتّوبة أذكركم بعفو الحوبة، واذكروني بالإخلاص أذكركم بالخلاص، واذكروني بالمناجاة أذكركم بالنّجاة .
قال أبو عثمان النّهدي: إني لأعلم السّاعة الّتي يذكرنا الله فيها. فقيل له: ومن أين تعلمها ؟ قال: يقول الله عزّ وجلّ: فاذكروني أذكركم. فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة ؟ فقال: احمدوا الله تعالى على أن زيّن جارحة من جواركم بطاعته.
الخطبة الثّانية.
فمن فضائل ذكر الله أيضا:
- الفضل الرّابع: أنّ ذكر الله نجاة يوم القيامة من حرّ الشّمس ولهيبها.
فلا يخفى عليكم قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم - فيما رواه مسلم عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه -: (( تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا )) وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ )).
ولكن هناك أصنافا من النّاس وقاهم الله شرّ ذلك اليوم ولقّاهم نضرةً وسرورا، ففي الصّحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ )).
- الفضل الخامس: الذّكر من أسباب القوّة، يعين على القيام بالعبادة.
روى الطّبرانيّ والبزّار عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ عَجَزَ مِنْكُمْ عَنِ اللَّيْلِ أَنْ يُكَابِدَهُ، وَبَخِلَ بِالمَالِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَجَبُنَ عَنِ العَدُوِّ أَنْ يُجَاهِدَهُ فَلْيُكْثِرْ ذِكْرَ اللهِ )).
فمن ابتُلِي بهذا التّقصير في الإنفاق، ومكابدة اللّيل، وعن الجهاد فليُكثر من ذكر الله تعالى، فإنّ الذّكر شفاء للقلب المريض، وحياة للقلب الميّت، وقوّة للأعضاء الكليلة، وها هي فاطمة رضي الله عنها تسأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عبدا يخدمها، فأوصاها صلّى الله عليه وسلّم بالتّسبيح والتّحميد والنّكبير، فيدلّ ذلك على أنّ الذّكر قوّة، لذلك أمر الله به عند ساعة القتال.
- الفضل السّادس: أنّ ذكر الله حصن من الشّيطان.
وقد روى التّرمذي بسند صحيح أنّ من وصايا يحيى بنِ زكريّا لبني إسرائيل قوله: (( وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً، وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ، حَتَّى أَتَى حِصْناً حَصِيناً فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يَنْجُو مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ )) الحديث.
ومن الذّكر الطّارد لوساوس الشّيطان: الإكثار من قراءة القرآن، والإكثار من الاستعاذة من الشّيطان، والبسملة؛ حتّى إنّه يصير أصغر ما يكون، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنهما أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَال الشَّيْطَانُ: لاَ مَبِيتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قاَلَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمْ المَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمُ المَبِيتَ وَالعَشَاءَ )). وغير ذلك ممّا لا يخفى.
الحاصل عبادَ الله: أنّ الله جعل ذكرَه أفضل زاد يحمله العبد في سفره إلى الله، وقد روى التّرمذي عن ثوْبَانَ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال حين سئِل عن أفضل المال: (( أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ )).
وما أشبهَ هذا بقوله تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46].
وقد جاء في المسند عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه عنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( اسْتَكْثِرُوا مِنْ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ )) قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قال: (( التَّكْبِيرُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالتَّسْبِيحُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ )).
فذكر الرّحمن هو غِراس الجنان، ففي سنن التّرمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( لَقِيتُ إِبْراَهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلاَمَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ )).
وقد صحّت أحاديث كثيرة تبيّن أنّ للمسلم بكلّ تكبيرة أو تحميدة أو تسبيحة شجرةً في الجنّة.
وإلى جانب الذّكر، فهناك من الأعمال الصّالحة ما شرعه الله تعالى هذه الأيّام العشر، منها:
- الإكثار من العمل الصّالح: فطوبى لمن أكثر من الصّلاة هذه الأيّام ! وطوبى لمن أكثر من الصّدقة على الفقراء والأرامل والأيتام ! طوبى لمن أكثر من تلاوة القرآن !
- صيام تسعٍ من هذه الأيّام: لما رواه أبو داود عن أمّ سلمة: (( أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصوم تسعَ ذي الحجّة )).
- أنّه شرع للمقيم أن يتقرّب إلى الله بالأضحية كما يتقرّب الحاجّ إلى الله بالنّسك.
- النّحر: فمن أجلّ العبادات هذه الأيّام التقرّب إلى الله تعالى بالأضاحي.
ولكن، من أراد ونوى الأضحية فلا يجوز له أن يأخذ من أظفاره أو شعر بدنه شيئا.
فقد روى مسلم وغيره عن أمِّ سلمةَ رضي الله عنها أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا دَخَلَتْ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا [ولا يقلمنّ ظفرا] )).
قال الإمام أحمد وإسحاق وداود وأصحاب الشّافعيّ: يحرم على كلّ من أراد أن يُضحِّي أن يأخذ شيئا من شعره وظفره حتّى يُضحِّي، قال العلماء: والحكمة في ذلك أن يتشبّه بالمحرم في بعض أحكامه.
- الاجتماع في صلاة العيد كما يجتمع الحجّاج عند البيت المجيد.
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وعملا متقبّلا، وأن يُلهمنا ذكره وشكره وحسن عبادته،
إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.