وقد قسّم العلماء هذه العدّة إلى مادّية ومعنويّة، وأهمّهما على الإطلاق العدّة المعنويّة، الّتي منها تعبئة الجماهير وإقناعهم بفرضيّة الجهاد وبقدرتهم على الانتصار بإذن الله تعالى، ونزع الخوف من قلوبهم.
وممّا لا شكّ فيه أنّه لا يمكن تحرير الأوطان إلاّ بتحرير الإنسان، وإلاّ كيف يتوقّع من إنسان عقله مأسور، وسلّم أمره لفرنسا باسم القضاء المقدور أن يفكّر في الجهاد ؟!
لقد صحّح ابن باديس عقائد النّاس:
فحارب الطّرقيّة الّتي نشرت الشّرك وعبّدت النّاس للمشايخ ولفرنسا.
وحارب عقيدة الإرجاء الّتي يقول أصحابها: الإيمان قي القلب ! فضيّعوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
وحارب عقيدة الجبر الّتي جعلت من فرنسا قدرا محتوما لا بدّ من الرضا به، وجعلت النّاس في ذلك الزّمان يقولون: نأكل القوت وننتظر الموت !
أحيا في قلوب النّاس عقيدة الولاء والبراء الّتي تقِي المسلمَ من الّذوبان في محبّة الكفّار وتقليدهم، والّتي هي من أسباب العزّة والتّمكين، قال تعالى:{لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22].
وحارب دعاة الإدماج ومسخ الشخصيّة الجزائريّة الإسلاميّة، فأفتى بأنّ المتجنّس بالجنسيّة الفرنسيّة كافر مرتّد عن دين الإسلام.
وربط النّاس بكتاب الله تعالى الّذي به تحيى القلوب والأمم {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
وسعى في تصحيح عقلية النّاس وعقائدهم؛ لأنّ ذلك هو الطّريق الموصل إلى الحريّة، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
وقد بدأ ابن باديس مشروع بناء الأمّة الجزائريّة من خلال التّعليم، ولا تستهينوا بذلك فقد بلغت مدراس الجمعيّة في سنة 1954 قرابة 170 مدرسة تضمّ ما يفوق 700 معلّم و50 ألف تلميذ، وليس ذلك أمرا سهلا مع جهل الجزائريّين وفقرهم ومضايقات الإدارة الفرنسيّة للتّعليم العربي.
ابن باديس يبشّر بالجهاد:
وأمّا وعده به وتنبّؤه به رحمه الله فقد جاء في النّشيد الوطّني المعروف بـ "شعب الجزائر مسلم " الّذي يقول فيه:
يا نشء أنت رجـاؤنا *** وبك الصّباح قـد اقترب
خذ للحيـاة سلاحـها *** خض الخطّوب ولا تـهب
وارفع منار العدل والـ *** إحسان واصدم من غصب
وأذق نفـوس الظّالمـ *** ـين السمّ يمزج بالرهب
واقلع جذور الخائنيـن *** فمنهـم كـلّ العطـب
واهزز نفوس الجامدين *** فربّـما حَيِـيَ الخشـب
يا قوم هـذا نشأكـم *** وإلى المعـالي قـد وثـب
كونوا له يكن لكـم *** وإلـى الإمـام ابـناً وأب
إلى أن قال:
من كـان يبغي وِدَّنـا *** فعلى الكرامة الرّحب
أو كان يبغـي ذلّـنا *** فله المـهانـة والحرب
هذا نظـام حيـاتنـا *** بالنور خُطَّ وباللّهـب
حتّى يعـود لقـومنـا *** من مجدهم ما قد ذهب
ويرى الجزائـر رجّعت *** حقّ الحياة المستـلب
هذا لكم عهـدي بـه *** حتىّ أوسد في التـرب
فإذا هلكت فصيحـتي *** تَحْيا الجزائر والعرب
وأصرح من هذا قوله:
اشهدي يا سما *** واكتبن يا وجود
أنّنا للحـمى *** سنكون الجنود
فنُـزيح البَلاَ *** ونفكّ القيـود
وننيلُ الرّضى *** من وفى بالعهود
ونذيق الردى *** كلّ عاتٍ كنود
فيـرى جيلنا *** ذكريات الجدود
ويرى قـومنا *** خافقات البنـود
ويـرى نجمنا *** للعـلا في صعود
فنـضمّ اسمنا *** صفحاتِ الخـلود
هكذا هكذا *** هـكذا سـنعود
وقد نُقِل عنه أنّه قال لبعض جلسائه عام 1936 م إذ لم يكن من مطالبهم الاستقلال:" وهل يمكن لمن شرع في تشييد منزل أن يتركه بدون سقف، وما غايتنا من عملنا إلاّ تحقيق الاستقلال ".
وفي سنة 1937 كتب مقالا عنوانه:" هل آن أوان اليأس من فرنسا ؟" لوّح فيه بالجهاد عندما تحدّث فيه عن اللّجوء إلى سلاح اليائسين، وسلاحهم النّحر أو الانتحار.
ابن باديس يهمّ بإعلان الجهاد:
وأمّا همّه بإعلان الجهاد فقد نقله الثّقات الأثبات في شهادات متعدّدة المبنى متطابقة المعنى وذلك عام 1939 عند اندلاع الحرب العالميّة، ومن ذلك أنّه لما بان الخور والعجز الفاضح في جيش فرنسا بادر بعض الزعماء السياسيّين هيبة من فرنسا أو إيمانا بها فتطّوّعوا في جيشها فاشتدّت حسرة الشيخ من فعلهم وقال:" لو استشاروني لأشرت عليهم بالصعود إلى جبالي أوراس وشنّ الثّورة منها على الاستعمار ".
وقال لبعض من كان معه في نادي التّرقي:" عاهدوني "، فلماّ عاهده مصافحة قال:" إنّي سأعلن الجهاد على فرنسا عندما تشهر عليها إيطاليا الحرب ".
وإنّما عيّن دخول إيطاليا بالذّات؛ لأنّها كانت تجاورنا ويمكن أن نستمدّ منها السّلاح.
وقال في مجلس آخر:" والله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمّة الجزائريّة يوافقونني على إعلان الجهاد لأعلنتُه ".
وشهد الشّيخ محمّد الصّالح بن عتيق أنّ ابن باديس انفلت من الرقابة الاستعمارية المضروبة عليه في قسنطينة وزار الميلية خفية وسأله عن درجة استعداد الأمّة، فأجابه إنّ رجال الميلية سيجدهم رجالَ بارود ... لكنّه لم يرجع؛ لأنّ الموت جاءه فجأةً قبل أن تدخل إيطاليا الحرب، وقد قيل: إنّه مات مسموما من طرف الإدارة الفرنسيّة !
لقد شهد بهذه الحقيقة المنصفون من الجزائريّين ومن الأجانب حتّى كتب أحد المصريّين كتابا سماّه:" الإمام عبد الحميد بن باديس القائد الرّوحي لحرب التّحرير الجزائريّة ".
وكتب مؤرّخ كنديّ أطروحة دكتوراه بعنوان:" عبد الحميد بن باديس: مفكّر الإصلاح، وقائد الحركة الوطنيّة الجزائريّة ".
الإبراهيمي يبشّر بالثّورة:
ولم يكن ابن باديس فقط هو من حمل الفكرةَ وعمِل لأجلها، بل كذلك خليفتُه الإبراهيميّ، فإنّه قال معلّقا على حوادث 8 ماي:
" إنّها فورة ستعقبها ثورة "، وقال في خطاب ألقاه في باريس بمناسبة نيل ليبيا الاستقلال عام 1951:
" إنّ الجزائر ستقوم قريبا بما يدهشكم من تضحيات وبطولات في سبيل نيل استقلالها، وإبراز شخصيتها العربيّة الإسلاميّة " نقله ممثّل العراق لدى الأمّم المتّحدة.
وقال في خطاب أيضا أمام الوفود العربية عام 1952 بباريس أيضا:" وإنّ بعد اللّسان لخطيبا صامتا هو السّنان، وإنّنا لرجال وإنّنا لأبناء رجال وإنّنا لأحفاد رجال .. وإنّ فينا لقطرات من دماء أولئك الجدود، وإنّ فينا لبقايا مدّخرة سيجلّيها الله إلى حين ".
الخطبة الثانية: من دفع الناس للاستجابة إلى بيان أوّل نوفمبر ؟
الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين والعاقبة للمتّقين، أمّا بعد:
فلمّا جاءت ساعة الصّفر، وقرّر جماعةٌ من الشبّان الأبطال أن يعلنوها ثورة عامّة على المستعمر في الفاتح من نوفمبر 1954 م، فقاموا بتنظيم أعمال فدائية وأصدروا بيانهم المعروف، وهم جماعة لم يكن لها من الشهرة وثقة النّاس ما كان لغيرهم من العلماء أو السياسيين إلاّ أنّهم قرّروا ذلك، ويشاء المولى عزّ وجّل أن يكتب القبول لتلك الشرارة والنداء.
لكن، لكم أن تسألوا: بفضل من كان ذلك ؟ من الّذي جمع النّاس حول هذه الثورة وزكّاها من أوّل يوم ؟ أهم السياسيّون الإدماجيّون ؟ أهم الشيوعيّون ؟ أهم الطّرقيّون ؟
مواقف الأحزاب السياسيّة عند إعلان الثّورة:
أمّا الحزب الشيوعي فعبّر عن أعمال الفدائيّين بأنّها اعتداءات، أي: أعمال إجرامية يستحق صاحبها العقاب، ثمّ تمادوا في البراءة من الثّورة حتّى جاء التّنديد بهم في بيان مؤتمر الصّومام، ولا يزالون يعملون ضدّ جبهة التّحرير أثناء الحرب، وضدّ ثوابت الأمّة بعدها إلى يوم النّاس هذا في مجال الصحافة والثقافة والتّربية والتّعليم.
وكذا المصاليّون، فقد وصفوها بالاعتداءات، وأصرّوا على عدم حمل السلاح ضدّ فرنسا، ثمّ حملوه ضدّ إخوانهم المجاهدين، نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وأمّا المركزيّون فقد وصفوا تلك الأعمال بالاعتداءات الإرهابيّة تزلّفا إلى فرنسا؛ فجازتهم جزاءَ سنمّار، وحلّت حزبهم في اليوم نفسه الّذي تكلّموا فيه بهذا الكلام (5 نوفمبر).
وأمّا "حزب البيان"، فظلّ يدعو إلى الاستقلال الذّاتي في إطار فيدرالية فرنسيّة إلى غاية 22 فبراير 1956 حيث قرّر فرحات عبّاس حلَّ حزبه والانضمام إلى المجاهدين.
تأييد جمعيّة العلماء للثّورة وإعلانها الجهاد:
إنّ الّذي جعل النّاس يلتفّون حول نداء أوّل نوفمبر هو موقف جمعيّة العلماء الّتي سارعت إلى المساندة والتأيّيد ابتداء من يوم 2 نوفمبر في بيان أصدره الإبراهيمي والفضيل الورتيلاني بالقاهرة عنوانه: " مبادئ الثورة في الجزائر " نشر في الصحافة المصرية، جاء فيه:
" ثمّ قرأنا اليوم في الجرائد بعضَ تفصيل ما أجملته الإذاعات، فخفقت القلوب لذكرى الجهاد الّذي لو قُسِّمت فرائضه لكان للجزائر منه حظّان بالفرض والتّعصيب، واهتزّت النّفوس طرباً لهذه البداية الّتي سيكون لها ما بعدها، ثمّ طرقنا الأسى لأن تكون تلك الشجاعة الّتي هي مضرب المثل لا يظاهرها سلاح، وتلك الجموع الّتي هي روق الأمل لا يقودها سلاح، إنّ اللّحن الّذي يشجي الجزائري هو قعقعة الحديد في معمعة الوغى، وإنّ الرائحة الّتي تعطر مشامه هي رائحة هذه المادّة الّتي يسمّنوها البارود ".
وفي اليوم التاّلي: 3 نوفمبر نشر بيان آخر عنوانه:" إلى الثائرين الأبطال من أبناء الجزائر اليوم حياة أو موت، بقاء أو فناء " جاء في مطلعه:
" حيّاكم الله أيّها الثّائرون الأبطال، وبارك جهادكم وأمدّكم بنصره وتوفيقه، وكتب ميّتكم في الشّهداء الأبرار، وحيّكم في عباده الأحرار.
لقد أثبتُّم بثورتِكم المقدّسة عدّة حقائق: الأولى أنّكم سفّهتم دعوى فرنسا المفترية الّتي تزعم أنّ الجزائر راضية مطمئنّة، فأريتمُوها أنّ الرّضا بالاستعمار كفر، وأنّ الاطمئنان لحكمها ذلّ، وأنّ الثورة على ظلمها فرض ...".
وجاء في آخره:" اعلموا أنّ الجهاد للخلاص من هذا الاستعباد قد أصبح اليومَ واجبا عامّا مقدّسا فرضه عليكم دينُكم، وفرضته عليكم قوميّتكم، وفرضته رجولتُكم، وفرضه ظلم الاستعمار الغاشم الّذي شملكم، ثمّ فرضته أخيرا مصلحة بقائكم؛ لأنّكم اليوم أمام أمرين: إمّا حياة أو موت، إمّا بقاء كريم، أو فناء شريف ".
وفي 15 نوفمبر صدر بيان آخر عنهما عنوانه:" نداء إلى الشّعب الجزائري المجاهد نعيذكم بالله أن تتراجعوا " وجاء في مطلعه:
" حيّاكم الله وأحياكم، وأحيا بكم الجزائر، وجعل منكم نورا يمشي من بين يديها ومن خلفها، هذا هو الصّوت الّذي يُسمع الآذان الصمّ، هذا هو الدّواء الّذي يفتح الأعين المغمّضة، هذه هي اللّغة الّتي تنفذ معانيها إلى الأذهان البليدة، وهذا هو المنطلق الّذي يقوِّم القلوب الغلف، وهذا هو الشعاع الّذي يخترق الحجب والأوهام ".
وجاء فيه:" إنّكم كتبتم البسملة بالدّماء قي صفحة الجهاد الطّويلة العريضة، فاملؤوها بآيات البطولة الّتي هي شعاركم في التّاريخ، وهي إرث العروبة والإسلام فيكم ...
أيّها الإخوة الأحرار، هلّموا إلى الكفاح المسلّح، إنّنا كلّما ذكرنا ما فعلت فرنسا بالدّين الإسلامي في الجزائر، وذكرنا فظائعها في معاملة المسلمين - لا لشيء إلاّ لأنّهم مسلمون -، كلّما ذكرنا ذلك احتقرنا أنفسنا واحتقرنا المسلمين وخجلنا من الله أن يرانا ويراهم مقصّرين في الجهاد لإعلاء كلمته، وكلّما استعرضنا الواجبات وجدنا أوجبها وألزمها في أعناقنا إنّما هو الكفاح المسلّح، فهو الّذي يسقط علينا الواجب، ويدفع عنّا وعن ديننا العار، فسيروا على بركة الله، وبعونه وتوفيقه إلى ميدان الكفاح المسلّح، فهو السبيل الواحد إلى إحدى الحسنيين: إمّا موت، وإمّا حياة وراءها العزّة والكرامة ".
وراسل الشّيخ الإبراهيمي في 9 جانفي 1955 الملك سعود بن عبد العزيز ملك السعودية الّذي تحدّى الجامعة العربية ودافع عن الجزائر في مجلس الأمّم المتّحدة، فحثّه على مواصلة الدفاع وأرشده إلى بعض الخبراء بالواقع الجزائري ممّن يستطيع أن يتكفّل بالقضّية الجزائرية باسم المملكة السعودية لدى الأمّم المتّحدة.
وفي 7 نوفمبر 1954 تأسّست جبهة تحرير الجزائر الّتي صدر ميثاقها في 17 فبراير 1955 م ووقّعه: الإبراهيمي، والورثيلاني، وأحمد بيّوض، وأحمد بن بلّة، وحسين آيت أحمد، وأحمد مزغنّة، ومحمّد خيضر.
دور رئاسة الجمعية في الداخل:
وفي الجزائر أيضا لم تتخلّف الجمعيّة عن الركب فلم يزل أحمد توفيق المدني الكاتب العام لجمعيّة العلماء على اتّصال دائم بعبّان رمضان حتّى جاءه الأمر بالالتحاق بالقاهرة.
وكذلك العربي التبسّي نائب الرئيس، فإنّه كان قد شعر أنّ الوقت قد اقترب قبل الفاتح من نوفمبر، فقد شهِد أحدُ المجاهدين أنّ الشّيخ رحمه الله كتب إليه رسالة يُفتِيه فيها بمشروعيّة الجهاد ضدّ فرنسا، وذلك قبل أسابيع معدودة من الفاتح من نوفمبر 1954 م.
ولمّا اندلع الجهاد فعلا أمر الشيخ رحمه الله تعالى باقتطاع عشرة بالمائة من رواتب المعلّمين في مدارس الجمعيّة لتوجّه لصالح أسر المجاهدين والمعتقلين، كما أرسل إلى العقيد عميروش رحمه الله أموالا وآلات الكتابة والطباعة والسحب.
وفي سنة 1955 م وفّق الشيخ للرحلة إلى الحجاز لأداء فريضة الحجّ، ومكث في المدينة النبوية مدّة، فلقي هناك كثيرا من الشخصيات العلمية وغيرها، فعرّفهم بحقيقة الجهاد في الجزائر، كما اغتنم الفرصة، فزار في طريق رجوعه سوريا ولبنان ومصر ليُسْهِمَ في الدّعاية للجهاد المعلن في الجزائر، وكان من الزعماء الّذين لقيهم بمصر الرئيس جمال عبد النّاصر، وصُوَرُ اللّقاء لا تزال محفوظة.
وقد كانت تحرّكات الشّيخ غير خافية على المستعمر، كما أنّ تأييدَه للجهاد كان أمرا واضحا، سواء في دروسه أو مواقفه، وقد خاطب بذلك جريدة "لومند" الفرنسية، وقد تلقى في أوّل أفريل 1957 م رسالة كتب فيها:
" إلى الشّيخ العربي التبسيّ، نطلب منك أن تخرج من الجزائر حيناً قبل أن يفوت الوقت " ! فنصحه غير واحد من إخوانه بالاختفاء أو الخروج من الجزائر، فرفض وأبى إلاّ أن يواصل عملَه وإن أصابه ما أصابه في سبيل الله، وكان جوابه دائما:" إذا كنّا سنخرج كلّنا خوفا من الموت فمن يبقى مع الشعب ؟" وكان يقول:
" لو كنت في صحّتي وشبابي ما زدت يوما واحدا في المدينة، ولأسرعت إلى الجبل فأحمل السلاح وأقاتل مع المجاهدين".
وقال:" إنّ خروجي اليوم والوطن في حرب يعدّ فرارا من الزحف، أنا لو كنت خارج الوطن ووقع هذا فيه لدخلت فورا ".
فبقي يعمل ويناضل إلى أنّ تخطّفته الأيادي الغادرة الأثيمة في الرّابع أفريل من منزله بحيّ بلكور لتغتالَه بعد ذلك بأبشع طريقة، فرحمه الله رحمة واسعة، وهو إن شاء الله تعالى ممّن صدق ما عاهد الله عليه وقضى نحبه وما بدّل تبديلا {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} [الأحزاب:23].
وكم قدّمت جمعيّة العلماء من معلّمي مدارسها وخرّيجي مدارسها من شهداء ومجاهدين نسأل الله تعالى أن يرحمهم جميعا.
وبعد كلّ هذا يأتي بعض الطّرقيّين والشيوعيّين والعلمانيّين الأقزام ليطعنوا في هؤلاء الرّجال الأعلام ! ويقولون: إنّهم لم يُسهِموا في الثّورة ولا كانوا معها ! وكثير من هؤلاء الطاعنين كان ولا زال خائنا لقومه ودينه، رمتني بدائها وانسلّت، ألا بُعدا لهم وتبّا لهم سائر الدهر وعليهم لعائن الله تترا إلى قيام الساعة.
ما أكثر الخونة:
أيّها المسلمون الأحرار: إنّنا كلّما ذكرنا شهداء هذه البلاد الأبرار، ثمّ رأينا ما آلت إليه اليوم الأّمة من محبّة وتقليد للكفّار، تمتلئ قلوبنا حزناً وتتقطّع كمداً.
هل حارب الأجداد فرنسا بعسكرها وعقيدتِها ولغتها في الأمس ليُرجعها الأبناء اليوم ؟!
أيّها المسلمون، إنّه كان في زمن الجهاد بعض الخائنين أحبّوا بقاء فرنسا وساندوها ضدّ المجاهدين، فكثير منّا اليوم مثلهم في الخيانة أو أكثر، أقصد خيانة الدّين والوطن.
وهؤلاء الشهداء الّذين دفعوا أرواحهم ودماءهم الزكيّة من أجل إعلاء كلمة الإله الجبّار وإذلال أعدائه الكفار، أليس في النّاس اليوم من يحبّ فرنسا ؟ ويهتف بحياة فرنسا ويمجّد ويعظّم فرنسا ؟ ويلبس لباس فرنسا ويقلّد الفرنسيّين في عاداتهم وتقاليدهم ؟ ويتكلّم في بيته بلغة فرنسا ؟ وأبناؤه يدرسون في مدارس فرنسا يتعلّمون لغة فرنسا وتاريخ فرنسا ؟
يا قوم إن لم يكن أخذ الجنسيّة الفرنسية خيانة فعلّموني معنى الخيانة فأنا لا أعرفها ؟
ومن النّاس من يرفع العلَمَ الفرنسي في سيّارته وفي لباسه وفي الملاعب وينصر الأندية الفرنسيّة وفريق فرنسا ولا يستحيي من الله ولا من النّاس ! ولقد رأيت بأمّ عيني منظرا أبكاني، رأيت بعض بقايا المعمّرين جاءوا لزيارة مساكنهم أيّام الاستدمار، فهل رجمهم أهل تلك المساكن ؟ هل طردوهم وسبّوهم ؟ لا .. بل خرجوا إليهم مرحبّين وعلى وجهوهم ابتسامات الفرح والسرور وعلامات التهلّل والحبور !
فاللّهم ارحم علماءنا وشهداءنا، وتقبّل أعمالهم وجهادهم، اللّهم أبرم لهذه الأمّة أمر رشد يعزّ فيه أهل طاعتك ويذلّ فيه أهل معصيتك، اللّهم اغفر لنا تقصيرنا وانحرافنا ورُدّنا إلى ديننا ردّا جميلا، اللّهم اغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
وسبحانك اللّهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك.