الجواب: اعلم أنَّ شهر رجب من الأشهر الحُرُمِ الّتي قال الله سبحانه فيها:{إنَّ عدَّةَ الشُّهورِ عند الله اثنا عَشَرَ شهراً في كتاب الله يوم خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ منها أربْعة حُرُمٌ ذلك الدِّين القَيِّم فلا تظْلِمُوا فيهنَّ أَنْفُسَكمْ} [التوبة: 36].
وفي الصّحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم خطب في حجَّة الوداع فقال في خطبته: (( إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ )).
السّؤال الثّاني: لِمَ سُمِّيت هذه الأشهر الأربعة حُرُماً ؟
الجواب: في ذلك قولان صحيحان لا تعارض بينهما:
أ) الأوّل: سمّيت بذلك؛ لأنّ الذّنب فيها يعظم ويُضاعف، قال ابن عبّاس رضي الله عنه:" اختصَّ الله أربعة أشهر، جعلهنّ حُرُماً وعظَّم حُرُماتهنّ، وجعل الذَّنب فيهنّ أعظم، وجعل العمل الصّالح والأجر أعظم ".
ولا دليل يدلّ على مقدار هذه المضاعفة، وإنّما الذّنب يعظُم كلّما كان الدّاعي إلى تعظيم الله أكبر، نظيره ما قاله ابن العربيّ رحمه الله في البلد الحرام:" فإنّ المعصية معصيتان: إحداهما بنفس المخالفة، والثّانية: بإسقاط حرمة البلد الحرام " ["أحكام القرآن" (3/1276)].
فذنب القريب ليس كذنب البعيد، ومن أنعم الله عليه ليس كمن لم يُنعَم عليه، قال ابن القيّم رحمه الله في " أعلام الموقّعين " (2/129):
" فإنّ الرّجل كلّما كانت نعمة الله عليه أتمّ كانت عقوبته إذا ارتكب الجرائم أتمّ، ولهذا قال تعالى في حقّ من أتم نعمته عليهنّ من النساء:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً (31)} [الأحزاب] ...
ولهذا كان أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه، فإنّ نعمة الله عليه بالعلم أعظم من نعمته على الجاهل، وصدور المعصية منه أقبح من صدورها من الجاهل ..."اهـ
ب) وقيل: لتحريم القتال فيها. ولا شكّ أنّ القتل داخل في المعاصي دخولا أولويّا.
السّؤال الثّالث: لِمَ سُمِّي رَجَبٌ رَجَباً ؟
الجواب: ذكروا أنَّ لشهر رجب أربعة عشر اسماً، هي:( شهر الله - رجب - رجب مضر - منصل الأسنَّة - الأصمّ - الأصبّ - منفس - مطهر - معلى - مقيم - هرم - مقشقش - مبرىء - فرد ).
وسمّي رجباً؛ لأنه كان يُرَجَّب، أي يُعظّم، يُقال: رَجَبَ فلانٌ مولاه، أي عظَّمه.
ولقد كان الجاهليون يُعظِّمون هذا الشهر، خصوصاً قبيلة مُضَر، ولذا جاء في الحديث السّابق تسميته بـ: (رجب مُضَر)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري":" أضاف رجباً إلى مضر؛ لأنهم كانوا يُعظِّمونه خلاف غيرهم، فكأنهم اختصُّوا به ".
ولقد كانوا يُحرِّمون فيه القتال، حتّى إنهم كانوا يُسمُّون الحرب التي تقع في هذه الأشهر (حرب الفجّار).
ومن مظاهر تعظيمهم له أنّهم كانوا يذبحون ذبيحةً تُسمَّى (العَتِيرة)، وهي شاة يذبحونها لأصنامهم، فكان يُصبُّ الدم على رأسها! والإسلام أبطلها، لحديث الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ )) وَالْفَرَعُ: أَوَّلُ النِّتَاجِ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ، وَالْعَتِيرَةُ: فِي رَجَبٍ.
السّؤال الرّابع: هل من العلماء من بيّن البدع في رجب ؟
الجواب: ما زال العلماء ينبّهون على البدع ومحدثات الأمور، ومن أبرز من تكلّم عن بدع شهر رجب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيِّم، والشاطبي، وابن الحاجّ، والطرطوشي-وهؤلاء الثّلاثة من المالكيّة-، وابن رجب الحنبلي، وابن حجر الشّافعيّ، ومن المعاصرين: الشيخ عليّ محفوظ، والقشيري، والشيخ ابن باز، والألباني، والعُثيمين رحمهم الله، وهيئة كبار العلماء وغيرهم.
السّؤال الخامس: ما هذه البدع ؟
الجواب: اعلم أنّ النّاس تفنّنوا في هذا الشّهر كلّ فنّ، فجاءوا بكلّ عفن، ولا بدّ أن تعلم أخي القارئ أنّ العبادات التي تقرّب إلى الله، إذا عيّن لها العبد وقتا خاصّا أو كيفية خاصّة انقلبت فصارت تبعد عن الله عزّ وجلّ، فابتدعوا:
أ) ما يُسمَّى بـ (الصَّلاة الألفية)، وهي تُصلَّى في أول يوم من رجب، وفي نصف شعبان.
ب) صلاة أُمِّ داود، وهي تُصلَّى في نصف رجب. [" اقتضاء الصّراط المستقيم " (ص 293)].
ج) صلاة الرَّغائب، ويُسمِّيها البعض (الصَّلاة الإثنى عشرية)، وهي تُصلَّى في أوّل ليلة جمعة بعد العشاء، وقيل: بين العشائين. وهي اثنتا عشرة ركعة، يُقرأ في كلِّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة و (إِنَّا أَنزلناه في ليلة القدر) ثلاثاً، و(قل هو الله أحد)؛ اثني عشر مرّة، يفصل بين كلِّ ركعتين بتسليمة. وهي صلاة أُحدثت بعد المائة الرابعة.
قال ابن رجب في"لطائف المعارف" (ص 140):" فأمّا الصلاة فلم يصحّ في شهر رجب صلاة مخصوصة تختصّ به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرَّغائب في أوّل ليلة جمعة من شهر رجب كذب، وباطل لا تصحّ "اهـ.
السّؤال السّادس: وهل يشرع الصِّيام في رجب ؟
الجواب: إنّ الصّيام يشرع في كلّ زمن، إلاّ إذا صحّ النّص في تحريم صوم يوم بعينه فيحرُم، ولكن أن يقصد النّاس شهر رجب فيخصّوه بصيام أو قيام، فهذا القصد والتّخصيص هو الّذي يجعل الصّيام بـدعـة، والنّاس في هذا الصّوم المبتدَع أنواع:
أ) فمنهم من يحرص على صيام اليوم الأوّل والثّاني والثّالث منه، ويروون في ذلك الأحاديث الموضوعة، كحديث: (من صام ثلاثة أيام من شهرٍ حرامٍ: الخميس، والجمعة، والسّبت، كتب الله له عبادة تسعمائة سنة )!. وفي لفظ: (ستين سنة).
وحديث: (صوم أول يوم من رجب كفارة ثلاث سنين، والثاني كفارة سنتين، ثم كلّ يوم شهراً).
وحديث: (رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أُمَّتي). وكلُّ ذلك كذب مصنوع.
ب) ومنهم من يصوم اليوم السّابع منه فقط، ويُصلِّي صلاة الرَّغائب في تلك اللّيلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" والصّواب الذي عليه المحقِّقون من أهل العلم: النّهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم ".
ج) ومنهم من يصوم الشّهر كلَّه، قال ابن رجب رحمه الله:" وأمّا الصِّيام، فلم يصحّ في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا عن أصحابه " اهـ.
بل جاء عن السَّلف أنهم كانوا ينهون عن صيام رجب كاملاً:
فقد ثبت عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه كان يضرب أكفَّ الرِّجال في صوم رجب حتّى يضعوها في الطّعام، ويقول: ( مَا رَجَبُ ؟! إنَّ رجباً كان يُعظِّمه أهل الجاهليّة، فلمّا كان الإسلام تُرِكَ ).
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه كان ينهى عن صيام رجب كلِّه.
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنّه رأى أهله يتهيّئون لصيام رجب، فقال لهم: ( أجعلتم رجب كرمضان !) وألقى السِّلال، وكسر الكِيزان.
قال الحافظ ابن حجر في " تبيين العجب بما ورد في فضل رجب ":" لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه، ولا صيام شيء منه معيَّن، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث "اهـ.
السّؤال السّابع: [حول الإسراء والمعرج]
إنّنا نرى ونسمع كثيرا من النّاس يَدْعُون إلى الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج في ليلة السّابع والعشرين من رجب، وقراءة قصّة المعراج، وإطعام الأطعمة والولائم، فما حكم ذلك ؟
الجواب: هذا ممّا أحدثه النّاس في هذا الشّهر، وهو من البدع المنكرة، فيقرؤون في ليلة السابع والعشرين منه قصة المعراج المنسوبة إلى ابن عبّاس، وكلُّها أكاذيب وأباطيل. فهذا الاحتفال بدعة ودخيل على الشّريعة، وذلك من وجوه:
الأوّل: أنَّ أهل العلم مختلفون في تحديد تاريخ وقوع حادثة الإسراء والمعراج اختلافاً كبيراً، ولم يقم دليل على تعيين ليلته التي وقع فيها، ولا على الشّهر الذي وقع فيه.
الثّاني: لو ثبت تعيين تلك الليلة لم يجزْ لنا أن نحتفل فيها، ولا أنْ نُخصِّصها بشيء لم يشرعه الله ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
الثّالث: أنّه يحصل في تلك الليلة وذلك الاحتفال أمورٌ منكرة، كالاجتماع في المساجد، وإيقاد الشُّموع والمصابيح فيها.
قال الشّيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى:
" وهذه اللّيلة الّتي حصل فيها الإسراء والمعراج، لم يأتِ في الأحاديث الصّحيحة تعيينُها، لا في رجب ولا في غيره، وكلُّ ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند أهل العلم بالحديث ".
وقال: " ولله الحكمة البالغة في إنساء النّاس لها، ولو ثبت تعيينُها لم يجزْ للمسلمين أن يخصُّوها بشيء من العبادات، ولم يجزْ لهم أن يحتفلوا بها؛ لأنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لم يحتفلوا بها ولم يخصُّوها بشيء، ولو كان الاحتفال بها أمراً مشروعاً لبيَّنه الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم للأُمّة، إمّا بالقول، وإمّا بالفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعُرفَ واشتهر، ولَنَقَلهُ الصّحابة إلينا، فقد نقلوا عن نبيِّهم صلّى الله عليه وسلّم كلَّ شيء تحتاجه الأُمّة، ولم يُفرِّطوا في شيء من الدّين، بل هم السّابقون إلى كلِّ خير، ولو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعاً لكانوا أسبق إليه ..." اهـ.
وخلاصة القول: أنَّ البدع زيادةً على أنها إحْدَاثٌ في الدِّين وتغييرٌ للملّة؛ فهي آصارٌ وأغلالٌ تُضاع فيها الأوقات، وتُنفق فيها الأموال، وتُتْعب فيها الأجساد ! والله المستعان.