فإذا كان هذا حال ركعتين فقط، فكيف بأيّام نهارها صيام، وليلها قيام ؟! نهارها ذكر وخضوع، وليلها تهجّد وخشوع ؟!
وأضع هذا الحديث بين يديك، حتّى تتذكّر نعمة الله تعالى عليك، فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال:
" كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ، أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا، وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً. قَالَ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ رضي الله عنه: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ ! فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، فقالَ: (( أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ سَنَةِ ؟! )).
لذلك كان الصّحابة والتّابعون يسألون الله تعالى وصوله وبلوغه، قال يحيى بن أبي كثير رحمه الله:" كان من دعائهم: اللهمّ سلِّمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان ".
الوصيّة الثّانية: عليك بمحاسبة النّفس.
قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]، قال قتادة رحمه الله: ما زال ربّكم يقرّب السّاعة حتّى جعلها كالغد.
ومن علم أنّ يوم القيامة ربّما كان غدا، فكيف حَلاَ له الرّقود، واطمأنّ إلى القعود ؟!
فلا بدّ للمؤمن الّذي يرجو لقاء الله عزّ وجلّ من أن يحاسب نفسَه قبل دخول شهر الصّيام، وأثناء الصّيام، وبعد الصّيام.
فاسأل نفسك عن رمضان الفارط، كيف قضيته ؟ وقديما قيل:" من استوى يوماه فهو محروم "، فكيف بمن استوى عاماه ؟
الوصيّة الثّالثة: تعرّضوا إلى نفحات الله تعالى.
قال محمّد بن مسلمة رضي الله عنه - ويُروَى مرفوعا -:" إِنَّ لِلَّهِ فِي أَيَّامِ الدَّهْرِ نَفَحَاتٍ؛ فَتَعَرَّضُوا لَهَا، فَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ نَفْحَةٌ فَلاَ يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا ".. إنّها هدايةٌ لا ضلال بعدها .. رُشدٌ لا غيّ بعده .. عملٌ لا انقطاع عنه ..
ومن أراد أن تمسّه مثلُ هذه النّفحات: فعليه أن يعزم على العمل الصّالح، والبعد عن كلّ عمل طالح ..
إذا وضعت قدمك على عتبة هذا الشّهر، فاعقِد النيّةَ والعزم على أن تكون من السّابقين، فما نوى ذلك أحد إلاّ وفّقه الله، وتخيّل - ولعلّه الواقع - أنّه آخر شهر في حياتك، كما هي وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأهل الصّلاة: (( إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ )) [رواه أحمد وابن ماجه عن أبي أيوّب رضي الله عنه].
وأعظم الأعمال الصّالحة:
1- الصّيام: قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
2- القيام: فهو من أعظم ما تقرّب به الصّالحون، وأشرف ما يبتغيه المؤمنون، وإنّ فضائله لا تحصى ولا تعدّ، ولا يمكن أن يحويها حدّ.
فيكفي: أنّه شرف المؤمن، وأنّه أفضل صلوات النّوافل، وأنّه كان في أوّل الإسلام مفروضا، وكان من أوّل ما أمر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم دخل فيه المدينة.
كفاه شرفاً أنّه من أعظم السّبل لشكر الله تعالى، فقد روى البخاري ومسلم عن المغِيرَةِ رضي الله عنه قال: قَامَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ؟! قَالَ: (( أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا )).
فهذه الفضائل يؤدّيها المسلم والمسلمة في بيت الله أحسن البلاد، مع جماعة المسلمين أحسن العباد، في شهر من أفضل الشّهور وهو شهر الصّيام.
لا جرم أن قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم - كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الشّيخين -: (( مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))..
3- الإكثار من تلاوة القرآن:
فهو شهر القرآن، قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: من الآية185]، أي: ما شرعنا صيامه إلاّ من أجل إنزال القرآن فيه، ويؤكّد ذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يعارض جبريل عليه السّلام القرآنَ كلّ سنة مرّة في رمضان، فلمّا كان العام الّذي توفّي فيه عاضه مرّتين.
وعلى ذلك مشى السّلف الصّالح، فكانوا يُكثرون من تلاوة القرآن في رمضان:
كان الزّهريّ رحمه الله يقول إذا دخل رمضان:" إنّما هو تلاوة القرآن وإطعام الطّعام ".
وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل عليه رمضان ترك قراءة الحديث ومجالس التّعليم، وأقبل على قراءة القرآن.
وكان قتادة يختم القرآن كلّ سبع ليال دائما، وفي رمضان يختمه كلّ ثلاث ليال.
4- الإكثار من الدّعاء والاستغفار: يقول الله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
ابحث عن موقع هذه الآية من القرآن، تجدْها بعد آية الصّيام، وذلك ليدلّنا المولى أنّ أيّام هذا الشّهر الكريم أيّام دعاء واستغفار.
فإن غفلت عن الدّعاء فلا تغفلنّ عن وقت الإفطار والأسحار:
أمّا وقت الإفطار؛ فلقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةً لاَ تُرَدُّ )).
وأمّا وقت الأسحار؛ فلأنّ المولى عزّ وجلّ أقرب ما يكون من عبده وقتَ السّحر، فينزل إلى السّماء الدّنيا فينادي: (( هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ )).
5- الإكثار من الصّدقة: روى البخاري ومسلم عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قال:" كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ عليه السّلام، فَلَرَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ".
وفتح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سباقا لهذا الجود، فدلّنا على سبيل يمكنك من خلاله أن تصوم رمضانين في رمضان واحد، فقد روى التّرمذي وغيره عن زَيْدِ بنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا )).
وكان كثير من السّلف يؤثر بفطوره وهو صائم، منهم عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وداود الطّائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل.
وكان ابن عمر رضي الله عنه لا يُفطر إلاّ مع اليتامى والمساكين، وإذا علم أنّ أهله قد ردّوهم لم يفطر معهم تلك اللّيلة.
وكان من السّلف كالحسن وابن المبارك من يدعو المحتاجين فيطعمهم وهو صائم، ويجلس يخدمهم ويروّحهم.
وقال أبو السوّار العدويّ: كان رجال من بني عديّ يصلّون في المسجد ما أفطر الواحد منهم وحده قط، فإن وجد من يأكل معه، وإلاّ أخرج طعامه إلى المسجد فيأكله مع النّاس.
6- العمرة: ومن النّفحات الّتي يُدعى المسلم إلى أن يتعرّض لها عمرةٌ في رمضان.
فقد روى البخاري ومسلم عنِ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: (( مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّينَ مَعَنَا ؟)) قَالَتْ: كَانَ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أَبُو فُلَانٍ، وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ، قالَ: (( فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ؛ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً مَعِي )).
7- تجديد التّوبة إلى الله تعالى.
فإنّ الله تعالى قد فرض على عباده التّوبة في أكثر من آية، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التّحريم من:8]، وقال تعالى:{وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ} [الحجرات:11].
فقسّم العبادَ إلى تائبٍ وظالِمٍ، وليس هناك قسم ثالث، وأوقع اسمَ الظّالم على من لم يتب؛ لأنّه لا أظلمَ منه لجهله بربّه وبحقّه وبعيبِ نفسه.
فلا تجعل ذنبَك أكبر وأعظم من رحمة الله ! فقد فتح الله تعالى بابَ التّوبة للمنافقين الّذين هم شرّ خلق الله فقال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:145، 146].
الوصيّة الرّابعة احذر قطّاع الطّريق !
أرى لزاما عليّ أن أذكّرك ونحن بين يدي شهر الخيرات وموسم الطّاعات، أنّ في البشر كثيرا من قطّاع الطّرق، يصدّون الخلق عن خالقهم، ويضلّونهم عن سبيل رشادهم وهدايتهم.
يمكنك أن تشبّههم بأيّ شيء، شبّههم بأنّهم خلفاءُ للّذين صُفِّدوا من الشّياطين، إلاّ أنّ هؤلاء من ماء وطين !
شبّههم بأصحاب الأخدود الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات عن صراط الرّحيم الودود !
لن تزالَ تراهم على الصّحف والمجلاّت .. في الشّوارع والطّرقات .. في الإذاعات والشّاشات .. يعِدُون ويبشّرون، ويدعون النّاس إلى قضاء أتعس الأوقات، والتنجّس بمتابعة السّهرات والحفلات .. والعجيب أن تنطلي هذه الإغراءات على أغلب الفئات ..
أيّها الأحبّة في الله .. إنّنا لسنا أمّةً تحرّكها النّكت والتّسلية .. وتخسر سبل الجنّة لأجل الضّحك والسّخرية !
حياتنا أغلى بكثير من أن نتركَها بأيدي الحمقى والمهرّجين ..
يعرض علينا ربّنا سبحانه أعظم سلعة وبضاعة، ويدعونا إلى اغتنام سبل الشّفاعة .. يعرض علينا العملَ في شهر لا كالشّهور، الذّنب فيه مغفور .. ولكنّنا آثرنا سلعةَ غيره، وحرمنا أنفسنا من خيره .. استبدلنا سبل الفلاح والمفاز، باللّهو واللّغو في التّلفاز ..
إنّ كثيرين قد استجابوا لمن قال تعالى فيهم:{أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: من الآية221].
أخي الكريم .. هذه وصايا أسأل الله أن تصل إلى قلبك، فمدّ يديك إلى ربّك .. وتب إليه واستغفر لذنبك .. وأخرج نفسك من زمرة المرضى، وقل معي:{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّي لِتَرْضَى}.
يا زارع الـخير تحصـد بعده ثـمرا *** يا زارع الشّر موقوف على الوهن
يا نفس ويحك تـوبي واعملي حسـنا *** عسى تجازين بعد الموت بالحسـن
اللهمّ فاقبل توبتنا، واستجب دعاءنا، واستر علينا عيوبنا،
اللّهم ارحمنا برحمتك واجعلنا من الفائزين برمضان، واجعلنا ممّن قام رمضان إيمانا واحتسابا فغفرْتَ له ما تقدّم من ذنبه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين