مررت على المكارم وهـي تبكي *** فقلت علام تنتحب الفتـاة
فقالت: كيف لا أبـكي وأهلي *** جميعا دون خلـق الله ماتـوا
وصدق عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى حين قال:" نحن إلى قليل من الأدب أحوج منّا إلى كثير من الفقه "..
هذا قاله في العصر الذّهبي لأمّة الإسلام، يوم انتشر الفقه انتشارا عظيما، فما القول في عصر صار من الفقه عقيما ..
قال ذلك يوم كان يلتفت فإذا به يرى سفيان الثّوري، وابن عيينة، والحسن البصريّ، والفضيل بن عياض، ومنصور بن المعتمر، وغيرهم من سادات الأصفياء، وخيار الأتقياء ..
فما عسانا نقول في عصر تُحارب فيه آداب الإسلام من أصحابها، وتداس معالم الأخلاق من طلاّبها ؟!..
فتعالوا بنا لنرى ما جاء في فضل الغيرة، ولوازمها وآثارها وما يدلّ عليها، فـ:
إنّ الدّعاوى ما لم تقيموا عليها *** بيّنـات فأصحابـها أدعيـاء
فاعلموا – معاشر المؤنين والمؤمنات - أنّ أعظم ما جاء في فضائل الغيرة على الشّيء:
- أنّها صفة من صفات الله عزّ وجلّ:
فنحمده سبحانه حمداً يوافي نعمه، ويدفع نقمه، ويكافئ مزيده، على صفات الكمال ونعوت الجلال التّي اتّصف بها.
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ )).
بل ليس ثمّة أحدٌ في الوجود أشدّ غيرة من الله سبحانه, ففي صحيح البخاري ومسلم أيضا عن عبد اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ؛ وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )).
وفي الصّحيحين أيضا عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم ... فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ((.. يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، إِنْ مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِىَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ. يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟)).
وفيهما أيضا عن المُغِيرة بنِ شعبةَ رضي الله عنه قال: قال سعدُ بنُ عبادةَ رضي الله عنه: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ عَنْهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: (( أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ فَوَاللَّهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )).
عباد الله، لقد قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: من الآية180]: فينبغي للعبد أن يسارع إلى أن يتعبّد الله جلّ جلاله بهذه الصّفة العظيمة, فتظهر في حياته ومعاملاته وانفعالاته, وخطراته وسكناته وحركاته.
- ومن فضائل الغيرة أنّها دليل على المحبّة:
يقول ابن القيّم رحمه الله في " روضة المحبّين ":
" من غيرة الله على عبده أن ييسّر له أسباب النّجاة يوم القيامة فيزهّده في الدّنيا, وقد روى التّرمذي والإمام أحمد بسند صحيح عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنه أنَّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً حَمَاهُ الدُّنْيَا، كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ المَاءَ )).
فكلّ من يسّر الله له أسباب الطّاعة، والاقتراب منه تعالى فليُبشر بأنّ الله غار عليه دون كثير من الخلق.
كما أنّ من غيرة الله تعالى أنّه يحجب الهدى والنّور عمّن لا يستحقّه وليس أهلاً له، فقد كان بعض الصّالحين إذا قرأ قوله تعالى:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} [الإسراء:45] قال: " تلك غيرة الله تعالى ".
هذه غيرة الله، وهاهي آثارها، محبّة، وحماية، وقربة ورعاية .. فأين غيرتك على دينه وشرعه ؟!
من أعظم وأحلى وأحسن ما سجّلته لنا السّيرة العطرة في هذا المقام، غيرة أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على نبيّهم وحمايتهم له:
فهذا ينام مكانه في فراشه ليلة هجرته، ويرى أنّ نفسه لا قيمة لها أمام خدمة دين الله تعالى، ذلك الفتى عليّ رضي الله عنه.
وهذا يريد أن يحمي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بألف جسد لو استطاع .. فقد روى البغويّ وابن هشام بسند حسن أنّ أبا بكر رضي الله عنه كان يكون مرّة أمام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومرّة خلفه، فسأله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال رضي الله عنه:" إذا كنتُ خلفَك خشِيت أن تُؤْتَى من أمامِك، وإذا كنتُ أمامَك خشِيت أن تُؤْتَى من خلفِك ".
ولم يطمئنّ له بال، ولم يهدأ له حال، حتّى لامست قدماه غار ثور ..
كان درعا تحمي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم .. كان حاله هذا يقول لحيّات الغار وعقاربه: ها هو جسد أبي بكر حيّا طريّا فالتهميه ! هاهو جسد أبي بكر انشري فيه سمومك ومزّقيه ! أمّا أن تمسِّي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الّذي تنتظره الأرض جمعاء، بعد شوق دام قرونا وقرونا، فلا !
هذا الموقف هو ما جعل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يحمرّ وجهه يوم سمع قوما يفضّلونه على أبي بكر رضي الله عنه ! إنّه كان يعرف من هو أبو بكر رضي الله عنه.
جاء في رواية البيهقيّ في "الدّلائل" أنّه حين بلغ عُمَرَ ذلك، صاح في النّاس قائلا:
" والله لليلة من أبي بكر رضي الله عنه خير من آل عمر .. وليوم من أبي بكر خير من عمر .. لقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة انطلق إلى الغار، ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتّى فطِن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: (( يَا أَبَا بَكْرٍ ! مَا لَكَ تَمْشِي سَاعَةً خَلْفِي، وَسَاعَةً بَيْنَ يَدَيَّ ؟ )) فقال: يا رسول الله ! أذكر الطّلب فأمشي خلفك، ثمّ أذكر الرّصد فأمشي بين يديك. قال عمر رضي الله عنه: فلمّا انتهيا إلى الغار قال أبو بكر رضي الله عنه: مكانك يا رسول الله ! حتّى أستبرئ. فدخل فاستبرأ ثمّ قال: انزل يا رسول الله ! فنزل. والّذي نفسي بيده، لتلك اللّيلة خير من آل عمر".
كيف يفلح الكفّار وهم يحاربون قوما أمثال هؤلاء .. قوم شعارهم الأوّل والأخير:
أغــار عليك مـن نفسـي، ومـنّـي *** وذاك فـي سبـيـل الله مـا حـيـانـي
ولو أنّـي خبّـأتـك فـي عـيـونـي *** إلـى يـوم القـيـامـة مـا كـفـانـي
- ومن فضائل الغيرة أنّها محرّك القلوب والأبدان:
فعليها يقوم الدّين كلّه، يقول ابن القيّم رحمه الله:" إذا رحلت الغيرة من القلب ترحلت المحبّة, بل ترحّل الدّين كلّه ".
وما شرع الله النّصح، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، إلاّ لتجسيد هذا الخلق في أرض الواقع, فالغيرة سمّيت غيرة لتغيّر القلب وهيجانه وغضبه عند المساس بما يغار عليه, فمن حُرِم هذا الخلق الكريم حُرِم طُهْرَ الحياة, ومن حُرِم طُهْرَ الحياة فهو أحطّ من بهيمة الأنعام.
وللأسف الشّديد لم يرض أكثر المسلمين ما رضيه الله لهم, ورضوا بأن يتّبعوا إخوان القردة والخنازير الّذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ, فصاروا يلمزون إخوانهم الغيورين على أعراضهم وعلى دينهم وعلى قيمهم ومبادئهم, يلمزونهم بالجهل والتّخلّف, عوضاً من أن يصفوهم بالعلم والتخلّق, ونسوا أو تناسوا الوعيد الشّديد الّذي رتّبه الله على من يقرّ الفاحشة في أهله:
فقد روى النّسائي وغيره عن ابن عمرَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ: العَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ )).
وروى الطّبرانيّ عن عمّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنه عن رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ أَبَداً: الدَّيُّوثُ، وَالرَّجُلَةُ مِنَ النِّسَاءِ، وَمُدْمِنُ الخَمْرِ )). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا مُدْمِنُ الخَمْرِ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الدَّيُّوثُ ؟ قَالَ: (( الَّذِي لاَ يُبَالِي مَنْ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ )). قُلْناَ: فَمَا الرَّجُلَةُ مِنَ النِّسَاءِ ؟ قَالَ: (( الَّتِي تَشَبَّهُ بِالرِّجَالِ )).
الخطبة الثّانية:
الحمد لله على إحسانه، وعلى جزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللهمّ صلّ عليه وسلّم وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من اتّبع طريقه وسار على منواله، أمّا بعد:
فإنّ من فضائل الغيرة أيضا:
- أنّها صفة الفحول من الرّجال والطّاهرات من النّساء:
لقد بُعِث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأقرّ ما كان عليه العرب من أخلاق حسنة، وألغى ما كانوا عليه من أخلاق رديئة, وهذّب ما كان يحتاج إلى تهذيب, فقد روى الإمام أحمد عن أنَسٍِ رضي الله عنه عنِ النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ )).
ومن مكارم الأخلاق التّي كان عليها الجاهليّون: غيرة الرّجل على محارمه وعرضه وقيمه, بل كان بعضهم يشتطّ في هذا الأمر ويبالغ فيه حتّى وصل الحال ببعضهم إلى أن يئد ابنته وفلذة كبده خوفاً من أن تقع في الفَاحشة إذا كبرت !
ومن أخبار العرب في ذلك: حرب الفجّار، تلك الحرب الّتي قامت بين قريش وهوازن ودامت أربعة أعوام كاملة, وما سمّيت بحرب الفجّار إلاّ لانتهاك حرمة الأشهر الحرم الّتي أجمع العرب على حرمة القتال فيها. فلماذا قامت هذه الحرب ؟
كان ذلك بسبب أن تعرّض شباب من كنانة لامرأة واحدة, أرادوا أن يكشفوا عن وجهها, فنادت:يا آل بني عامر ! فأجابتها سيوف بني عامر.
- فجاء الدّين ليهذِّب خلق الغيرة ويقوّمها, وجعلها من شعب الإيمان .. بل جعل الّذي يموت حماية لعرضه مع الشّهداء في الجنان والخيرات الحسان ..
فقد روى الإمام أحمد وأصحاب السّنن عن سعيدِ بن زَيدٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ )).
- وقد تمسّك الصّحابة بهذا الأدب الربّانيّ، والهدي النبويّ، وهم يستمعون إلى سيّد الرّجال الفحول يُخبرهم بأنّ الموت من أجل حرمة المسلم شهادة عند عالم الغيب والشّهادة, فلم يكن غريباً ما حدث مع يهود بني قينقاع ( إحدى قبائل اليهود ):
فقد روى أهل السّير أنّ امرأة مسلمة قدمت بجلب لها - وهو ما يجلبه النّاس ليبيعوه في الأسواق - فباعته بسوق بني قينقاع, فجعل بعض اليهود يريدون كشف وجهها، فأبت, فعمد أحدهم إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها وهي لا تشعر، فلمّا قامت انكشفت عورتها ! فصاحت. هنالك وثب رجل من المسلمين على اليهودي فقتله, وقام اليهود فقتلوا المسلم, فسار إليهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وحاصرهم حتّى نزلوا على حكمه, فأجلاهم إلى الشّام.
ومن أنفس ما حفظه لنا علماؤنا قصّة تكتب بماء الذّهب - وقد ذكرها ابن الجوزي في " المنتظم "، وابن كثير في " البداية والنّهاية "- في أحداث 686 هـ، جرت لامرأة اختصمت مع زوجها إلى قاضي الرّي، ادّعت على زوجها صداقا قدره 500 دينار، وقالت: ما سلّمه لي أبدا. فأنكر الزّوج، فجاء الشّهود الّذين حضروا مجلس العقد، فقال الشّهود:" نريد أن تُظهر لنا وجهها حتّى نعلم أنّها الزّوجة ".
ومن المقرّر أنّ هذا من المواطن الّتي أباح الله فيها النّظر إلى المرأة، إذ لا يخفى عليكم أنّ نظر الرجل إلى المرأة محرّم إلاّ في مواطن ضيّقة: كالخِطبة، والمعاملة كبيع وإجارة، وفي الشّهادة كما في قصّتنا هذه .. لكن ..
لمّا سمع الزّوج ذلك صرخ .. صرخ وقال: لا تفعلوا هي صادقة فيما تدّعيه.
إنّه يريد صيانة زوجته من أن يراها الرّجال ..
فلمّا رأت الزّوجة ذلك منه، وأنّه ما أقرّ إلاّ ليصون وجهها، قالت: هو في حِلٍّ من صداقي في الدّنيا والآخرة ".
لذلك قال ابن الجوزيّ رحمه الله قبل أن يذكرها:" ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السّنة .." ثمّ روى القصّة بسنده.
وقال قاضي الريّ:" اكتبوها في مكارم الأخلاق ".
تنبيهات:
وأريد أن أذكّر إخواننا وآباءنا وأمّهاتِنا وأخواتِنا ببعض مظاهر التّفريط في الغيرة والتّقصير فيها، فإنّه لم يخطر ببال أحد من النّاس أن تصل بلادنا هذه - عمّرها الله بالطّاعة - إلى ما وصلت إليه, فالمسلم الجزائري معروف برجولته وشهامته ونخوته, والمرأة الجزائرية معروفة بعفّتها وكرامتها, فما الّذي أوصلهم إلى كلّ هذا الانحلال، وتغيّر الأوضاع والأحوال ؟! فذهاب حرارة الغيرة من القلوب أدّى إلى ظهور كثير من الفساد.
ومن مظاهر التّفريط في الغيرة:
1- أن يترك الرّجل نساءه ومن تحت ولايته تلبس ما شاءت من الللّباس، وتخرج مُبْدِيَةً زينتها للنّاس, مائلات عن منهج علاّم الغيوب, مميلات لكثير من القلوب, ونسي الجميع أنّ التبرّج عقوبة من الله تعالى لعباده.
نعم، إنّ الله يعاقب بنات آدم إذا زُغن عن منهجه بالتبرّج، وتأمّلوا يوم عصى آدمُ ربّه عزّ وجلّ فكان العقاب: كشف عوراتهما، قال الله تعالى:{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ}.
2- ومن مظاهر ترك الغيرة: أنّك ترى أحدهم لا يبالي أن تخلُوَ امرأته بالرّجال الأجانب ! بالبائع في المتجر, أو بالطّبيب في العيادة، أو غير ذلك, ولا يرى في ذلك بأساً, ونسي وصيّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثُهُمَا الشَّيْطَانَ )).
3- ومن صور التّفريط في الغيرة :خروج الرّجل مع امرأته ومحارمه إلى بعض التّجمعات العامّة الّتي يكون فيها فساد عريض، ممّا يعرض المرأة إلى الفتنة.
4- ومن صور خفّة الغيرة في الرّجل: أن يترك امرأته تسافر دون محرم، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( لاَ تُسَافِرُ المَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ )) فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً, وَإِنِّي اُكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا ؟ قَالَ: (( اِنْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَهَا )) .. هذا مجاهد في سبيل الله، أمره النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يترك الغزو في سبيل الله، كي يرافق زوجته الّتي خرجت في سفر من أعظم الأسفار، وهو: حجّ بيت الله الحرام, ومع رفقة هم أزكى النّاس وأتقاهم يومئذ، ثمّ إنّها قد خرجت ومضت، ومع هذا كلّه قال له: (( اِنْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَهَا )).
هذا غيض من فيض, وقطر من بحر, فلا يظنَّ أحد بربّه إلاّ خيرا, فالغيرةَ ! الغيرةَ ! فإن لم تَغَارُوا، فاعلموا أنّ ربّكم يغار، فلا أحد أغير منه تعالى, ولا يصدنّكم عن هذا الخلق العظيم من غرق في مستنقعات الرّذيلة، وابتعد عن أنهار الفضيلة, فاعلم أنّ أكثر النّاس لا يعلمون، وأكثرهم لا يفقهون.