الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فهذه القصّة ذكرها القاضي عياض رحمه الله في "الشّفا" (2/92)، وهي لا تثبت عن الإمام مالك رحمه الله.
قال ابن عبدالهادي رحمه الله في "الصّارم المنكي" (259):
" وهذه الحكاية التي ذكرها القاضي عياض ورواها بإسناده عن مالك ليست بصحيحة عنه ... بل هو إسناد مظلم منقطع، وهو مشتمل على من يُتّهم بالكذب ! وعلى من يجهل حاله، وابن حميد هو محمّد بن حميد الرازي، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته، ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقَه؛ بل روايته عنه منقطعة غير متّصلة ..." اهـ.
ثمّ إنّ هذا الأثر مخالفٌ للمشهور عن الإمام مالك رحمه الله من تشديده في آداب زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - كما في " مجموع الفتاوى " (17/471) ومواضع أخرى منه، وفي " الردّ على الإخنائيّ "-:
" ولم يكن أحدٌ من الصّحابة يفعل ذلك، ولا كانوا إذا سلّموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقفون يدعون لأنفسهم !
ولهذا كره ذلك مالك وغيره من العلماء، وقالوا: إنّه من البدع الّتي لم يفعلها السّلف. واتّفق العلماء الأربعة وغيرهم من السّلف على أنّه إذا أراد أن يدْعُوَ يستقبلُ القبلة، ولا يستقبلُ قبْرَ النّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وأمّا إذا سلّم عليه فأكثرهم قالوا: يستقبل القبرَ، قاله مالك والشّافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة أيضا ويكون القبر عن يساره ..."اهـ
تنبيه: يتعلّق بالآية المذكورة في الأثر.
قوله تعالى:{جَاءُوكَ} إنّما هذا المجيء خاصّ بزمن حياته صلّى الله عليه وسلّم؛ بدليل فعل الصّحابة، فلم يثبُت عن صحابيّ واحد أنّه أتى قبره صلّى الله عليه وسلّم طالبا منه الاستغفار.
وإنّ هناك أثرا شاع وذاع في كثير من كتب التّفسير، وهو ما ذكره البيهقيّ في "شعب الإيمان" (2/1/82/2) - وهي الحكاية المشهورة عن العُتَبي - قال:
" كنت جالسا عند قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فجاء أعرابيّ فقال: السّلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}، وقد جئتك مستغفرا لذنبي، مستشفعا بك إلى ربّي، ثمّ أنشأ يقول:
يا خير من دُفنت بالقاع أعظمه *** فطاب من طيبهنّ القاع والأكم
نفسي الفـداء لقبر أنت ساكنه *** فيه العفـاف وفيه الجود والكرم
ثمّ انصرف الأعرابيّ، قال العتبي: فغلبتني عيني، فرأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في النّوم فقال:" يا عُتَبيّ اِلحق الأعرابيّ فبشّره أنّ الله قد غفر له " !
فهذا الأثر - للأسف - قد ذكره ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" ساكتا عنه.
وعليه ملحوظات:
1- إنّه لا يُدرَى من هذا العُتبيّ ؟ لذلك قال الشّيخ الألباني رحمه الله في "السّلسلة الصّحيحة" (6/1033 رقم: 2928):" إسنادها ضعيف مظلم ".
ثمّ قال عن العتبيّ:" ويمكن أن يكون هو أيّوب الهلالي في إسناد البيهقي. وهي حكاية مستنكرة، بل باطلة، لمخالفتها الكتاب والسنة، ولذلك يلهَجُ بها المبتدعة؛ لأنها تجيز الاستغاثة بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وطلبَ الشّفاعة منه بعد وفاته، وهذا من أبطل الباطل، "اهـ.
2- إنّ الرّؤى لا ينبني عليها شيء من الأحكام الشّرعيّة، فكيف بالأحكام الغيبيّة كالحكم بالمغفرة لأحدٍ من الخلق.
3- أنّ فعل الصّحابة لم يَجْرِ قطْ على ذلك، وقد كانوا أحرصَ النّاس على الخير.
والله تعالى أعلم.