وكذلكم الحال فيما يخصُّ استرجاع جامع "أيا صوفيا"، فإنّه من أعظم النّعم على المسلمين، لا يدركُها إلاّ من عاينَ وعايشَ زمنَ تحوّله إلى متحفٍ.
وهذا مقال كتبه أديبُ الفقهاء وفقيه الأدباء الشّيخ عليّ الطّنطاويّ رحمه الله سنة ١٩٣٥ تحت عنوان: (الشّريف عدنان)، وهو في كتابه: "من نفحات الحرم" (ص 68-71) يوضّح المقصودَ.
قال رحمه الله:
" كنّا في ( أوتِيل مكّة المكرّمة )، ذلك القصر الفخم الّذي كان للشّريف عدنان حِمىً منيعاً، وحِصناً حصينا ..
وكان خادمُ ( أوتيل مكّة المكرّمة ) قد جاءنِي بأعدادِ "الرّسالة"، فأقبلت أصفحها، وأقرأُ من كلّ مقالةٍ عنوانَها، فرابَنِي منها خبرٌ هائلٌ تصدع لهوله قلوب المؤمنين حزنا وألماً، وتندى له الجباه حياء وخجلا ، وتكِلّ عن وصفه الألسنة دهشةً وتفظّعا.
ذلك أن تلك الجمهورية [يقصِد "تركيا" أيّام أتاتورك] لَم يشْفِ غيظَ قلوبِها كلُّ ما صنعته بالإسلام، وما أنزلتهُ بأهلِه، فعمدت إلى بيتٍ من بيوت الله، تُقام به شعائرُ الله، فجعلته بيتا للأصنام، ومثابةً للوثنيّة ..
أماتت فيه التّوحيدَ، وأحْيَتْ فيه الشّركَ، وطمست منه آيَ القرآن، وأظهرت فيه الصّورَ والأوثان ..
لم تضق بها الأرضُ حتّى ما تجدُ مكاناً لمتحفِها هذا إلاّ المسجدَ الجامعَ.
ولكنّ النّفوسَ الملحدةَ ضاقت بهذا المسجد، وأحسّ أصحابُها كأنّ هذه المآذن في عيونهم، وكأنّ هذه القبّةَ على ظهورِهم ! وعَشِيت أبصارُهم من نور الله فأرادوا ليًطفِئوه بأفواهِهم، ويمنعوا مساجد الله أن يُذكرَ فيها اسمُه ..
فعُطّلت الصّلاةُ في ( أَيا صوفيا ) فلا تقام فيها صلاةٌ بعدَ اليومِ، وسكت المؤذّنُ فلا يدعُو في مآذِنِها إلى الله، ولا يصدع بالتّهليل والتّكبير ..
ونأى عنها المؤمنون فلا يدخلونها إلاّ مستعبِرِين باكين، يندبون فيها مَجْدَ الإسلامِ وعظمةَ الخلافة وجلالةَ السّلطان ..
وذلّ فيها المسلمون وصاروُا غرباء عنها وهم أصحابُها وأهلُوها ..
وعزّ فيها المشركون، وشعروا أنّ ( أَيا صوفيا ) قد خُتِمت فيها صفحةُ الإسلام باسم ( أَتَاتُورك ) كما فتِحَت باسمِ ( محمّد الفاتح ) !
( أَيا صوفيا ) الّتي صِيحَ في مآذِنِها خمسين وثلاثمائة مرّة واثنين وسبعين وثمانمائة ألف مرّة (٨٧٢٣٥٠): "حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ "، "حيّ على الفلاح"، "الله أكبرُ اللهُ أكبرُ"، "لا إلهَ إلاّ اللهُ" .. فاصطفّ فيها المسلمون خاشعةً أبصارُهم، مؤمنَةً قلوبُهم، ساكنةً جوارحُهم، قد وضعوا الدّنيا تحت أقدامهم، ودَبْرَ آذانهم ..
( أَيَا صوفيا ) الّتي بات فيها المسلمون سبعين وأربعمائة ليلةً وأربعا وسبعين ومائة ألف ليلة (١٧٤٤٧٠) ليلةً ولهم في جوفها دويٌّ بالتّسبيح والتّكبير والتّهليل ..
( أَيَا صوفيا ) الّتي يشهدُ كلُّ حجَرٍ فيها، وتشهد أرضُها وسماؤُها، وتشهدُ قبّتُها المشمخرّة، وتشهدُ مآذنُها السّامقةُ، ويشهد اللهُ وملائكتهُ أنّها بيتٌ من بيوتِ الله، وحِصنٌ من حصونِ التّوحيد، ودارٌ من دُورِ العبادة ..
( أَيَا صُوفيا ) تعودُ للجبت والطّاغوت، وتحمِلُ الصّورُ والأصنام، ويخسرها الإسلام والشّرق ليربحها الكفر والغرب ؟!
لقد أُريقت حول ( أَيَا صوفيا ) دماءٌ ذكيّة، وزهقت في سبيل ( أَيَا صُوفيا ) أرواحٌ طاهرةُ من لدن معاويةَ إلى عهد الفاتح، إلى عهد عبد الحميد .. أَفراحت الدّماءُ هدراً ؟ وذهبت النّفوسُ ضياعاً ؟ وعادت بعد سبعٍ وثمانين وأربعمائة سنة (٤٨٧ ) وكأنما لم يذكر فيها الله، ولم يُتلَ فيها القرآن، ولم تَقُمْ فيها الأئمّة ؟ ولم تتجاوب مآذِنُها بالأذان ؟
لقد بنَى المسلمون هذا المجدَ على جماجمهم، وسقَوْه بدِمائِهم، وحَمَوْه بسيوفِهم، ثمَّ وقفوه على الإسلام .. أفيأتِي في ذيلِ الزّمان من يعبث بالوقف ! ويهزأَ بالدّماء ! ويلعب بالجماجم ولا يردعُه رادعٌ ولا يعِظُه واعِظٌ ؟!
ومن هم الأتراك لولا الإسلام ؟
على أيِّ حَسَبٍ يتّكلون ؟ وبأيّ نسَبٍ يفخرون ؟ وبأيِّ ماضٍ يعتزّون ؟ وبأيِّ مجدٍ يُباهُون ؟
أبِمَجْد رعاة البقر في تركستان ؟ أم بِمَجْد "أرطغرل بك " وقد جاء من مشرقِ الشمس بدويا جافيا فقيرا لا يملك إلاّ أعِنَّة ركائبِه، وطُنُبَ خيامِه، يفترشُ الغبراءَ، ويلتحفُ السّماءَ، فصار أحفادُه بالإسلام سادةَ القارّات الثّلاث ؟ ...
وإنّ الإسلام إلاّ يكنْ بالتّرك يكنْ بغيرِهم، ولكنّ التّركَ إلاّ يكونوا بالإسلام لا يكونوا والله بغيره أبداً ...".