الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
الجواب عن الشقّ الأوّل من السّؤال:
فإنّ الواجب على المسلم والمسلمة إذا فُعِل المنكر أمامهما أحدُ أمرين اثنين:
الأمر الأوّل: أن ينصَحَ بالّتي هي أحسن.
فيستعمل عباراتِ الرِّفق واللّين ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ لأنّ الحقّ ثقيل بنفسه، ولو قَسَا المسلم في عَرضِ هذا الحقّ، لزاده ثِقلاً.
وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ الرِّفْقَ مَا كَانَ فِي شَيءٍ إلاَّ زانَهُ ))، وقال صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ، يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ )).
وإنّ القرآن على حلاوته، وطلاوته، يقول فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ )) .. زيّنوه حتّى يكون أشدّ تأثيرا على النّفوس، وأكثَر جذباً للقلوب ..
فكيف بكلامنا نحن ؟! فمن باب أولى أن نقول لأنفسنا: زيّنوا الدّعوة بحُسن كلامكم وجميلِ عرْضِكُمْ.
وإلاّ ازداد فاعل المنكر طغيانا، وفجورا وعِصيانا، وفي الحديث الصّحيح: (( إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ !)).
وتأمّل قول الحقّ سبحانه لموسى وهارون عليهما السّلام – وهما من هما ؟-، وهو يأمرهما دعوة فرعون – وهو من هو ؟-:{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه].
ثمّ تأمّل - حفظك الله - نداءَ إبراهيم عليه السّلام لوالده المشــرك ! ..
يناديه أربع مرار بأرقّ وأحلى نداء:" يا أبَتِ "!
ويقول له:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}: ولم يقل: إيّاك أن .. وآمرك بأن ...
ثمّ يقول له:{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}: ولم يقُل له: أنت جاهل .. أنت لا تعرف شيئا ..
ثمّ يُضِيف:{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}: ولم يقل: أنت العاصي ! بل نسبه العصيان إلى الشّيطان.
وهنا ضرب على الوتر الحسّاس - كما يقال -:{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ}: وإنّ وراء عبارة ( أخـاف عليـك ) ما وراءها !
الأمر الثّاني: أن ينـصـرف.
ربّما لم يستجب من قُدّمت له النّصيحة على هذا الطّبق الذّهبي من الرّفق واللّين .. فكيف يكون تصرّف المسلم ؟
أ) فإن كان هو ولِيَّ الأمر، كالحاكم في بلدته، والوالد في بيته، وصاحب المعمل في معمله، والإمام في مسجده، فهذا يعمل بأوّل مراتب حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً، فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَـدِهِ )).
ب) وإن لم يكن وليّ الأمر، فلا يحلّ له التّغييرُ باليد، وإنّما ينصح بالعلم والبيان، والحكمة والبرهان، كما سبق بيانه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَبِلِسَـانِهِ )).
ج) فإن لم يستطِع ذلك، إمّا لقلّة علمه، أو لضِيقِ صَدْرِه فيخرُج عن الرّفق، فعليه أن يُنْكِر فِعلَهُم بقلبه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَبِقَِلْبِـهِ )).
وعلامة الإنكار بالقلب أن ينصرفَ، لقول الله تبارك وتعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النّساء:140].
وهذا الّذي فعله نبيّ الله إبراهيم عليه السّلام، فبعد ذلك الحوار الرّقيق، يقول له والده:{أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} !
فما كان منه عليه السّلام إلاّ أن:{قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}
فلم يصرُخ .. ولم يرفع صوته .. ولكنّه قابل الوعيد بالرّجـم بالسّـلام ثمّ انصـرف ..
وفي كلام الحكماء:" قل كلمتك وانصـرِف " .. لأنّنا مأمورون بالتّذكير، والتّذكير في حدّ ذاته تغيير؛ فقد علّمت العاصِيَ أو من كان جالسا معه حُكما شرعيّا لم يكُن يعلمه .. وقد ينتفع الحضور بالموعظة الحسنة، أو بانصرافك.
الجواب عن الشقّ الثّاني من السّؤال:
أمّا السّبيل إلى دعوة النّاس عموما، والمجاهرين بالمعصية خصوصا:
فاعلم أنّ أكثر القلوب اليوم هشَّةٌ ضعيفة، بينها وبين الله حبلٌ هشٌّ رقيق .. لو تزاحمت عليه التّكاليف لانقطع .. ولو ثقُل الحِمل على البناء لانصدع.
فلا بدّ إذن من أن نُقوِّيَ هذا الحبل حتّى يصير قويّا متينا .. ثمّ نبدأ بالأمر والنّهي.
وأقصِد من كلامي هذا، أنّ المعاصي والآثام الّتي تقع اليوم من أكثر الأنام، لا تُعدّ ولا تُحصَى، فعلينا أن نبدأ دعوتهم بمراعاة الأولى فالأولى، والأهمّ فالمهمّ.
فلا بدّ من تعليمهم حبّ الله وتعظيمه، وذلك بالكلام عن أسماء الله وصفاته .. الكلام عن مراقبته وسعةِ علمه .. عن حكمته وسعةِ رحمته .. عن عذابه وشدّة نِقْمَتِه.
ومن الكلام في العقيدة: تحديثُهم عن اليوم الآخر، وعذاب القبر، وغير ذلك ممّا يُليِّن القلوب، ويزكّي النّفوس.
وسترى - وأنت تتحدّث عن هذه الأمور - أنّك تذْكُر وتبيّن لهم كثيرا من المعاصي والكبائر الّتي سبّبت لهم عذابهم في القبور، وسوء منقلبهم يوم البعث والنّشور، وحينها يستقبل القلب الأمرَ والنّهيَ تحت سياط التّرغيب والتّرهيب، فتستقرّ فيه استقرار الماء العذب في التّربة الطيّبة.
والله الموفّق لما يحبّه ويرضاه، لا معبود بحقّ سواه.