الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فلا شكّ أنّ من قواعد الشّريعة السّمحة أنّه يُرتكب أدنى الضّررين لدفع أشدّهما، ولكنّ ذلك يرجع إلى كبار أهل العلم، الّذين هم أهل الحلّ والعقد.
ويحسُن بنا في هذا المقام أن نتذكّر قولَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " اقتضاء الصّراط المستقيم " (ص 28):
" إنّ التّمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر يتيسّر كثيرا، فأمّا مراتب المنكر فإنّه هو خاصّة العلماء بهذا الدّين ".
أمّا اعتقاد أنّ بنودَ صلح الحديبية كان فيها تنازلٌ عن المبادئ والثّوابت فهو اعتقاد خاطئ، وسوء ظنّ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وجهل بحقيقة تلك البنود وما وراء القبول بها.
فلو ناقشنا تلك البنود بندا بندا، وسبرنا أغوارها لوجدناها نصرا عزيزا، وفتحا مبينا، كما أخبر المولى تبارك وتعالى.
1- أمّا البند الأوّل ففيه: الدّعوة إلى الصّلح ووضع الحرب.
وهذا وحده ينادي بوضوح بانتصار المؤمنين، فإنّ قريشا – وهي الممثّل للزّعامة الدّينيّة والصّدارة الدّنيويّة في جزيرة العرب – لم تكن تعترف بالمسلمين أيّ اعتراف، بل بذلت الغالي والنّفيس، والثّمين والرّخيص لتستأصل دولةَ الإسلام، فمجرّد الجنوح إلى الصّلح فيه اعتراف بقوّة المسلمين، وأنّ قريشا آن لها أن تصرخ أن: لا قوّة بها لمقاومة المسلمين.
ثمّ لا بدّ أن نتذكّر جيّدا أنّ قريشا هي من بدأ بالحرب كما قال تعالى:{وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: من الآية13]، فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حدٌّ لهذه الغطرسة القرشيّة، ودليل على فشل من بدأ الحرب.
ثمّ باقي البنود كلّها كانت لصالح المسلمين، لا نرى مقابلَها إلاّ خصلةً واحدةً لقريش – فيما يبدو لعوامّ النّاس – وهي:
2- البند الثّاني: وهي: ( أَنَّهُ مَنْ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم [رَجُلٌ] مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ ).
وهذا ليس فيه ما يضرّ المسلمين، فمن المعلوم أنّ المسلم الحقّ لا ولن يفرّ عن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، إلاّ إذا ارتدّ ظاهرا وباطنا، فحينها لا حاجة للمسلمين فيه.
جاء في رواية مسلم أنّهم قالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَكْتُبُ هَذَا ؟! فقَال صلّى الله عليه وسلّم: (( نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ))، أي: إنّ انفصال هذا الّذي يفرّ إليهم عن المجتمع الإسلاميّ خير من اتّصاله.
أمّا من يريد الفرار إلى المدينة ويُمنع من ذلك، فإنّه يُمنع من الذّهاب إلى المدينة فقط حسَبَ بنود العقد، ولكنْ له أن يفرّ إلى أرض الله الواسعة.
ألم تكن الحبشة واسعةً للمسلمين حين لم يكن للمسلمين دولة ؟! فكيف وقد انتشر الإسلام في غيرِ ما قبيلةٍ ؟ وهذا الّذي أشار إليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: (( وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجاً وَمَخْرَجاً )).
وفعلا، فإنّ الله عزّ وجلّ جعل المخرجَ والفرج لا لمن لحِقوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأعيدوا فحسب، بل لكلّ المستضعفين في حادثة أبي بصير رضي الله عنه المشهورة.
فنلحظ بعد هذا التّحليل أنّ هذا البندَ الّذي يظهر في أعين أكثر النّاس أنّه مظهر اعتزاز لقريش، هو في الحقيقة في صالح المسلمين أيضا، وأنّه يدلّ على خوف قريش وشدّة فزعها وانزعاجها، فكأنّهم اليوم يُحسّون أنّ كيانهم على شفا جرف هارٍ.
3- انظر إلى البند الثّالث، والرّابع، والخامس: ( وَإِنَّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً، وَإِنَّهُ لَا إِسْلَالَ، وَلَا إِغْلَالَ ).
و( العيبة ) هي العهد الّذي لا غشّ فيه، و( لا إسلال ) أي: لا سرقة، و( لا إغلال ) أي: لا خيانة.
وكأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول كما قال موسى عليه السّلام:{ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ}.. وهل طلب وأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم طِوالَ حياته الدّعويّة بغير ذلك ؟
ثمّ إنّ ذلك يدلّ أيضاً على ضعف المشركين، وشدّة خوفهم من المسلمين.
4- أمّا البند السّادس: ففيه قولهم: ( أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ ) !
أفليس ذلك ما كان يطلبه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم منذ أرسله الله تعالى وهو ينادي: (( خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ )) ؟!
أين تلك الأيّام الّتي كانت قريش تعذّب فيها كلَّ من آمن بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد صلّى الله عليه وسلّم رسولا ؟!
وبهذا يتسنّى لكلّ فرد أو قبيلة أن تجهر بإسلامها بعد كتمان، وأن يتنعّم بعبادة الله بعد حرمان.
ونلحظ كذلك أنّ العربيّ إذا سمع هذا البند فلن يفهم منه إلاّ أنّ قريشا تخلّت عن زعامتها الدّينيّة، وأنّه لم يعُد يهمّها إلاّ نفسُها، أمّا سائر النّاس وبقيّة جزيرة العرب فلو دخلوا جميعهم في الإسلام فلا يهمّها ذلك، ولن تتدخّل بأيّ نوع من أنواع التدخّل !
أوليس ذلك فشلا ذريعا لقريش وفتحا مبينا للمسلمين ؟!
5- أمّا البند السّابع فقولهم: ( وَأَنَّكَ تَرْجِعُ عَنَّا عَامَنَا هَذَا، فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْنَا مَكَّةَ ).
فأين هذا من قولهم من قبل:" والله لن يدخلها علينا عَنوة أبدا " ؟!
ثمّ إنّ هذا الصدّ هو آخر صدّ، منعتهم عاما لتجيزه لهم أبدا .. ولا معصية في ترك العمرة من أجل ذلك، وقد كفى الله المؤمنين الجواب عن ذلك بقوله:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: من الآية196].
والشّاهد من كلّ ذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بتأييد من الله سبحانه، وبحسن سياسته وحكمته، استطاع أن يجعل ممّا يبدُو هزيمةً للنّاس نصرا، وما يبدو للعامّة ذلاّ عزّا.
والله أعلم، وأعزّ وأكرم.