كما قال الحافظ – وهو الإمام المنذريّ رحمه الله – فقد سبق بيان بعض فضائل رمي الجمار في شرح الأحاديث السّابقة، ومجموع ما ثبت من الفضائل:
1- أنّ الله ادّخر له من الأجر العظيم، والخير العميم، ما لا يمكن إحصاؤه، ولا يُستطاع استقصاؤه، فقال صلّى الله عليه وسلّم : (( وَإِذَا رَمَى الجِمَارَ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَا لَهُ ))، وفي رواية قال: (( وَأَمَّا رَمْيُكَ الجِمَارَ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } )).
2- أنّه من مكفّرات الذّنوب حتّى الكبائر: حيث قال صلّى الله عليه وسلّم : (( فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ رَمَيْتَهَا تَكْفِيرُ كَبِيرَةٍ مِنَ المُوبِقَاتِ )).
من أجل ذلك كان الأفضل والأكمل والأكثر أجرا هو أن يبقى الحاجّ أيّام التّشريق كلّها بمنًى، حتّى يكون مجموع ما رماه في حجّه سبعين حصاةً كاملة، أمّا لو تعجّل فلم يبقَ بها إلاّ يومين فإنّه لا يرمِي إلاّ تسعا وأربعين.
3- أنّه إحياءٌ لسنّة خليل الرّحمن، وإمام الحنفاء إبراهيم عليه السّلام، وفي ذلك ساق الحديث التّالي.
· الحديث الثّاني:
1156-وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللهِ عليه السّلام المَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ العَقَبَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ )).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: " الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ، وَمِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ تَتَّبِعُونَ ".
[رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم واللّفظ له، وقال: "صحيح على شرطهما"].
· الشّــرح:
فإنّ رمي الجمار من شعائر الحجّ العِظام الّتي شرعها الله على يد نبيّه وخليله إبراهيم عليه السّلام، وهي تدخل في قوله تعالى عن بيته المعظّم: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ }، فبعض العلماء ذهب إلى أنّ ( مقام إبراهيم ) جنس يدخل فيه جميع شعائر إبراهيم عليه السّلام، ولم يخصّه بالمقام المعروف.
- فيخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا أتى على جميع تلك المقامات، (عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ )، أي: بدا له، وذلك لأنّه يغتاظ من إظهار شعائر الله تبارك وتعالى.
وإذا كان الشّيطان (( إِذَا سَمِعَ النِّداءَ للصّلاةِ أدبَرَ ولَهُ ضُراطٌ حَتَّى لا يسمَع التَّأذين ))، فكيف بأيّام عبيرها الدّعاء والتّوحيد، ونسيمها التّلبية والتّمجيد ؟!
لذلك عرض إبليس لإبراهيم عليه السّلام ثلاث مرّات عند كلّ جمرة، فكان إبراهيم عليه السّلام يرميه بسبع حصيات.
- قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : (( حَتَّى سَاخَ فِي الأَرْضِ )): ساخ بمعنى غاص في الأرض، لذلك قال العلماء: ( ساخ في الأرض ) هو مثل الغرق في الماء، وتقول العرب: ساخت بهم الأرض، إذا خسف بهم.
- قول ابن عبّاس: " الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ، وَمِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ تَتَّبِعُونَ ": يريد من ذلك بيان الحكمة من تشريع رمي الجمار، وأنّ الغاية منه إظهار شعائر الأنبياء، وتذكير النّاس بأنّ الله يدحر الشّيطان في تلك المقامات.
ومن فضائل رمي الجمار:
3- أنّه نور يوم القيامة، وهذا ما يدلّ عليه الحديث التّالي:
· الحديث الثّالث:
1157-وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِذَا رَمَيْتَ الجِمَارَ كَانَ لَكَ نُورًا يَوْمَ القِيَامَةِ )).
[رواه البزار من رواية صالح مولى التوأمة].
· الشّــرح:
- قوله: ((كَانَ لَكَ نُورًا )) أي سببا للنّور.
- قوله: ((يَوْمَ القِيَامَةِ )): أي: في عرصاتها ومواقفها:
أ) بدءاً من الحشر، فإنّ الغرّة والتّحجيل يكونان من أثر الوضوء، ويزيدهم الله نورا بالأعمال الصّالحة، ومنها الشّيب الّذي يكون على وجه المسلم ورأسه، ومنها رمي الجمرات.
ب) على الصّراط: قال تعالى:{ يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ اليَوْمَ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتهَا الأنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا ذلكَ هُو الفَوْز العَظِيم } [الحديد:12] .
فـ( عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ النَّخْلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الرَّجُلِ القَائِمِ، وَأَدْنَاهُمْ نُوراً مَنْ نُورُهُ فِي إِبْهَامِهِ، يَتَّقِدُ مَرَّةً وَيَطْفَأُ مَرَّةً ) [رواه الطّبريّ عن ابن مسعود رضي الله عنه].
وقال الضحاك رحمه الله:
" ليس أحد إلاّ يُعطى نوراً يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصّراط طَفِئ نور المنافقين، فلمَّا رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفئَ نور المنافقين، فقالوا: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}.
وقال الحسن { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني: على الصراط.
فمن أراد أن يُتِمّ الله له نوره، فعليه أن يحرِص على إتمام رمي الجمار على سنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، مجتنبا طرفَي الإفراط والتّفريط.
نسأل الله تعالى من فضله العظيم، وخيره العميم.