[رواه البزّار].
· شـرح الحـديـث:
سبق أن ذكرنا في المقدّمة أنّ الرّاجح من أقوال أهل العلم أنّ الحجّ يجب على القادر على الفور، وذكرنا النّصوص المرهّبة من تركه والتّقاعس عن أدائه.
وهذا الباب يؤكّد ما سبق ذكره، ثمّ يخصّ المرأة بترغيبها بأن تكتفِي بأداء فريضة الحجّ، ولا تتوسّع في الخروج.
- قوله: " وتقدّم حديث حذيفة .." الخ، أي: في " كتاب الصّدقات ".
- قوله: ( الإِسْلاَمِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الإِسْلاَمُ سَهْمٌ ) الإسلام في الجملة الأولى المقصود به الدّين، و( الإِسْلاَمُ ) في الجملة الثّانية المقصود به الشّهادة، لأنّ الإسلام لا يتمّ إلاّ بها.
ويؤيّد ذلك رواية أخرى عند البزّار نفسِه بلفظ: (( الإِسْلاَمُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الشَّهَادَةُ سَهْمٌ )).
وقد رأى بعض أهل العلم أنّ هذا الحديث يعارض ما هو معلوم من أنّ أركان الإسلام خمسة، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه، وليست ثمانيةً، وممّن تكلّم عن هذا التّعارض الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله في " التّمهيد " (16/161) حيث قال بعد ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنه:
" وعلى هذا أكثر العلماء، أنّ أعمُدَ الدّين الّتي بُنِي عليها خمس، على ما في خبر ابن عمر هذا، إلاّ أنّه جاء عن حذيفة خبرٌ يخالف ظاهرُه خبرَ ابن عمر هذا في الإسلام، قال: (( الإِسْلاَمُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الشَّهَادَةُ سَهْمٌ، وَالصَّلاَةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَحَجُّ البَيْتِ سَهْمٌ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ سَهْمٌ، وَالجِهَادُ سَهْمٌ، وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ سَهْمٌ، وَقَدْ خَابَ مَنْ لاَ سَهْمَ لَهُ )).
قال: وقد ذكرنا فرضَ الجهاد وما يتعيّن منه على كلّ مكلّف، وما منه فرض على الكفاية، وأنّه لا يجري مجرى الصّلاة والصّوم.
وأمّا الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر فليس يجري أيضا مجرى الخمس المذكورة في حديث ابن عمر رضي الله عنه، لقول الله عزّ وجلّ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: من الآية105]".
والصّواب أنّه لا تعارض، وإنّما يقال:
إنّ الأركان الخمسة المعروفة تجب في كلّ زمان ومكان، وعلى كلّ شخص قادر.
بخلاف الأمور الأخرى الثّلاثة فهي لا تجب بذاتها، وإنّما تجب عندما يقتضي الأمر ذلك، فعند وقوع المنكر يجب النّهي، وعند ترك الطّاعة يجب الأمر، وعند وقوع الضّرر بالمسلمين ورفض الكفّار للدّين يجب الجهاد في سبيل الله.
والدّليل على أنّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، ما رواه أحمد عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( ثَلَاثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ:
لَا يَجْعَلُ اللَّهُ عزّ وجلّ مَنْ لَهُ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ كَمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ، فَأَسْهُمُ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةٌ: الصَّلَاةُ، وَالصَّوْمُ، وَالزَّكَاةُ.
وَلَا يَتَوَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا فَيُوَلِّيهِ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَلَا يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْمًا إِلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ عزّ وجلّ مَعَهُمْ.
وَالرَّابِعَةُ لَوْ حَلَفْتُ عَلَيْهَا رَجَوْتُ أَنْ لَا آثَمَ: لَا يَسْتُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
فلم يذكر الشّهادة لأنّ الخطاب للمؤمن، ولم يذكر الحجّ لأنّه إنّما يجب على المستطيع.
- ( فائدة ): غاير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، كما في سائر الآيات والأحاديث، وذلك: ليدلّ على أنّ الأمر بالمعروف لا يسقط بالنّهي عن المنكر، وأنّ النّهي عن المنكر لا يسقط بالأمر بالمعروف، وذلك من وجهين اثنين:
أ) فأحيانا يكون نهي ولا يكون أمر، كالسّارق وشارب الخمر، فإنّهما يُنهيان عن الخمر والسّرقة، ولا يؤمران بشيء مقابل ذلك.
ب) أنّ الأمر أحيانا يكون مجملا، يقابله عددٌ من المنهيّات، فيأتي النّهي للتّفصيل.
مثال على ذلك: أنّك تأمر غيرك بالإحسان إلى الزّوجة، ثمّ تفصّل في المنهيّات حتّى يتبيّن معنى الإحسان، فتنهاه عن الشّتم، والتّحقير، وعن البخل والتّقتير، وعن الضّرب والإيذاء، والتّجاهل والبذاء، وغير ذلك ممّا يضادّ مظاهر الإحسان.
وبهذا تعلم أنّ الواو في قوله تعالى:{ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [التوبة من:112] لها وزنها الثّقيل في الكلام، وأنّها ليست واو الثّمانية الّتي ذكرها بعض العلماء الأعلام.
· الحـديـث الثّـانـي:
1166-وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( يَقُولُ اللهُ عزّ وجلّ: إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي المَعِيشَةِ تَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لاَ يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ )).
رواه ابن حبّان في "صحيحه"، والبيهقيّ وقال:
" قال عليّ بن المنذر: أخبرني بعض أصحابنا قال: كان حسن بنُ حَييّ يعجبه هذا الحديث، وبه يأخذ ويحبّ للرّجل الموسِر الصّحيح أن لا يتركَ الحجّ خمس سنين ".
· شـرح الحـديـث:
ذهب بعض الشّافعيّة إلى وجوبه كلّ خمسة أعوام كما في " إعانة الطّالبين " (2/285).
والصّواب أنّ هذا الحديث خرج مخرج تأكيد الحجّ كلّ خمس سنوات، لا وجوبه، كما في المصدر السّابق، و" الإقناع " للشّربيني (1/250)، و" مغني المحتاج " (1/460)، و" كفاية الطّالب الربّاني " (1/650)، و" الثّمر الدّاني " (1/360).
وقد ردّ القرطبيّ رحمه الله في تفسيره لسورة " آل عمران " هذا القول بالحديث الّذي رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: (( أَيُّهَا النَّاسُ ! قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا )).
فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ )) ثُمَّ قَالَ: (( ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ )).
وردّ النّووي هذا القول بإجماع الصّحابة والتّابعين.
وما ذكره المصنّف عن الحسن بن حُييّ، ذكره البيهقيّ في " السّنن الكبرى " (5/262) أيضا عن الحسن بن صالح – وهو أحد كبار التّابعين –، قال رحمه الله:" الحجّ في كلّ خمسة أعوام أفضل ".
ووجه التّرهيب من ترك الحجّ في هذا الحديث من وجهين اثنين:
الأوّل: أنّه سمّاه محروما، والحرمان من ألفاظ التّرهيب كما لا يخفى.
الثّاني: أنّ الله تعالى حكم على عبده الّذي لم يحجّ بعد خمس سنوات فقط بالحرمان، فكيف بمن لم يحجّ أصلا ؟!
والله الموفّق لا ربّ سواه.