هذا الحديث تضمّن الرّد على شبهة كثيرا ما يثيرها الشّيطان في قلب ابن آدم، وهي البحث عن أمور الغيب، كالسّؤال: من خلق الله ؟! أو السّؤال عن بعض الغيبيّات: هل هناك رسل ؟ هل هناك جنّة ونار ؟ أيُعقل أنّ الله يسمع جميع مخلوقاته في آن واحد ؟ وغير ذلك من الأمور الّتي مدح الله عبادَه من أجل الإيمان والتّسليم بها.
فمن راودته مثلُ هذه الشّبهات لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يُبغِض ذلك، حتّى يضيقَ صدرُه، ويرى أنّ الموت أهون لديه من الخوض فيما يخوض فيه.
فليعلمْ هذا أنّه على خير، بشرط أن يأتي بما سنذكره من الخطوات في دفع الوسوسة.
أمّا الدّليل على أنّه على خير إذا هو أبغضَ ذلك، فلما رواه مسلم عن أبِي هرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: جَاءَ نَاسٌ منْ أَصحَابِ النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ؟! قالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟)) قَالُوا: نَعَمْ. قالَ: (( ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ )).
أي: إنّ الّذي وجدتموه من الحرج، وعدم الرّضا بحديث النّفس هو من صريح الإيمان.
الحالة الثّانية: أن يكون ممّن يسترسل وراء ذلك، ويحاول أن يُعمِلَ فكره ويطيل نظرَه في هذه المهالك !
فهذا إنْ لم يقعْ في الكفر، فهو رسولُ الشّيطان إلى من معه بالكفر !
وما ضلّ أكثرُ الفلاسفة إلاّ من جرّاء استرسالهم في البحث عن أجوبة لهذه القضايا. فأعرضوا عن هدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في معالجة مثل هذه الوساوس، فابتعدوا عن النّقل بحجّة العقل، ثمّ صاروا لا نقل ولا عقل:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] !
وإنّما كان هذا السّؤال ضلالا؛ لأنّ المخلوق لا يمكن أن يُحيط بالخالق: فعقلُ السّائل، والسّؤالُ نفسَه، ثمّ الموسوِسُ به، كلّ ذلك مخلوقاتٌ لله تعالى أيضا، ولولا خلقُ الله للعقل لما ورد السّؤال أصلا.
ثمّ إنّ العقلَ نفسَه يُحيل ما يحيلُه عقلُ السّائل: فمن القواعد العقليّة أنّه ما من حادث (مخلوق) إلاّ وله محدِث (خالِق)، فلا بدّ أن يكون هناك خالق غير مخلوق. قال الخطّابي رحمه الله:
" قوله: ( من خلق ربّك ) كلامٌ متهافِت ينقض آخرُه أوّلَه؛ لأنّ الخالق يستحيل أن يكون مخلوقا.
ثمّ لو كان السّؤال متّجها لاستلزم التّسلسل وهو محال، وقد أثبت العقل أنّ المحدثات مفتقِرةٌ إلى محدِث، فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات " [انتهى نقلا عن " فتح الباري " (6/341)].
إذن فما العلاج من هذه الوسوسة والعقل لا يمكنه أن يخوض في ذات الخالق ؟
لقد عجز العقل البشريّ أن يدرك مسائلَ أهونَ من هذه بكثير: كمسألة الرّوح، والموت، والعقل ! هذا في الأمور المعنويّة.
وتراه عاجزا عن إدراك كثيرٍ من المادّيات، كعدد الأجرام في السّماء، والنّجوم، والمجرّات، وغير ذلك، فأنّى له البحثُ عن الخالق ؟!
فلا سبيل إلى حماية جناب التّوحيد، وطرد وساوس الشيطان المريد إلاّ بالتماس الدّواء الشّافي من الوحي، وذلك بأربعة أمور.
أربعة أمور ينبغي للمسلم أن يفعلها، تضمّنتها أحاديث الباب:
- الأمر الأوّل: ترك الاسترسال وراء هذه الوسوسة.
- والثّاني: الاستعاذة بالله من الشّيطان ومن فِتَنِه، والتّفل عن اليسار؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ، وَلْيَنْتَهِ ! )).
وسيأتي ذكر التّفل والاستعاذة من فِتَنِ الشّيطان في بقيّة الأحاديث.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" قوله: ( وَلْيَنْتَهِ ) أي: عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنّه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها ".
فـ:" الشّيطان ليس لوسوسته انتهاءٌ، بل كلّما أُلزِم حجّةً زاغ إلى غيرها، إلى أن يُفضيَ بالمرء إلى الحيرة، نعوذ بالله من ذلك ". قاله الخطّابي رحمه الله.
ولْيحمَد اللهَ أن جعل كيدَ الشّيطان لا يتعدّى الخواطر، فلم يسترسلْ ولم يتحدّث؛ ففي سنن أبي داود عنْ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: جاءَ رجلٌ إلى النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فقالَ: يا رسولَ اللهِ، إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ، لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ؟! فقالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( اللهُ أَكْبَرُ ! اللهُ أَكْبَرُ ! اللهُ أَكْبَرُ ! الحَمْدُ للهِ الّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ )).
- الأمر الثّالث: هو أن يقول: " آمنت بالله ورسله ". كما في الحديث الأوّل والرّابع من هذا الباب.
وهذه الكلمة تقال لشياطين الجنّ، وشياطين الإنس كذلك:
فتُقالُ للدّجالين: ففي صحيح البخاري يومَ قال ابنُ صيّادٍ للنّبِيّ صلّى الله عليه وسلّم: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ ؟ قالَ له النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( آمَنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ )).
وتقال لمن يجادلُ أهلَ الكتاب، ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود عنْ عمّارِ بنِ معَاذِ بنِ زُرَارَةَ رضي الله عنه أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ )).
- الأمر الرّابع: أن يقرأ بعض القرآن:
إمّا سورة الإخلاص، كما دلّ عليه الحديث الرّابع من الباب.
وإمّا أن يقرأ قوله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3].
ووجه قراءة سورة الإخلاص ظاهر من قوله تعالى:{اللهُ أَحَدٌ} و{وَلَمْ يُولَدْ}، لأنّ ( الأحد ) في اللّغة هو الأوّل المنفرد، لذلك قال الخطّابي في "شأن الدّعاء" (ص 82):" هو الفردُ الّذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر ".
أمّا قول من قال:" الّذي لا شبيه له ولا نظير " - كما في "الاعتقاد" للبيهقيّ (ص 67) - فهو من لوازم وحدانيّته وأوّليّته.
أمّا قراءة آية سورة الحديد فواضح أيضا، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسّر لنا معنى الأوّل؛ فقال - كما في دعائه في صلاة اللّيل الّذي رواه مسلم -: (( اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ )).
الحديث الثّاني:
ورواه الطّبراني في "الكبير"، و"الأوسط"، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
الحديث الثّالث:
ورواه أحمد أيضا من حديث خزيمة بن ثابت رضي الله عنه.
وتقدّم في "الذّكر"، وغيرِه حديثُ الحارث الأشعريّ رضي الله عنه وفيه:
(( وَآمُرُكُمْ بِذِكْرِ اللهِ كَثِيرًا، وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ العَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ، حَتَّى أَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ العَبْدُ لاَ يَنْجُو مِنَ الشَّيْطَانِ إِلاَّ بِذِكْرِ اللهِ )).
[رواه التّرمذي وصحّحه، وابن خزيمة، وابن حبّان، وغيرهما].
الحديث الرّابع:
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ )).
[رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنّسائي].
وفي رواية لمسلم:
(( فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ[2])).
وفي رواية لأبي داود والنّسائي[3]:
((... فَقُولُوا {اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، ثُمَّ لِيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ )).
وفي رواية للنسائي[4]:
(( فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْهُ وَمِنْ فِتَنِهِ [5])).
الحديث الخامس:
وَعَنْ أَبِي زُمَيْلٍ سُمَاكِ بْنِ الوَلِيدِ قَالَ:
سَأَلْتُ ابنَ عبَّاسٍ رضي الله عنه، فقلتُ: مَا شَيْءٌ أَجِدُهُ فِي صَدْرِي ؟ قالَ: مَا هُوَ ؟ قُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَتَكَلَّمُ بِهِ.
قَالَ: فقالَ لِي: أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ ؟ وَضَحِكَ. قالَ: مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ، حتَّى أَنْزَلَ اللهُ عزّ وجلّ:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ[6] لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: من الآية94] الآيةَ، فقالَ لِي: إِذَا وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُلْ:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ".
[رواه أبو داود].
[1] في الأصل وفي "صحيح الترغيب والتّرهيب": ( وَرَسُولِهِ )، والتّصويب من "المسند". ورواية الإفراد صحيحة، وهي في "المسند" أيضا، لكنّها من رواية خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، وسيشير إليها.
[2] في الأصل وفي "صحيح الترغيب والتّرهيب": ( وَرَسُولِهِ ) أيضا، والتّصويب من "صحيح مسلم".
[3] أي: في " الكبرى ".
[4] قال الشّيخ الألبانيّ رحمه الله:" لم أجدها عنده، وما قبلها في كتابه " عمل اليوم واللّيلة " (419/661-663)".
[5] كذا في " صحيح التّرغيب والتّرهيب "، وفي الأصل ( ومن فتنه ) بالجمع.
[6] تتمّة الآية ليس عند أبي داود.