ويطلق الوسواس على صوت الرّيح، وعلى صوت الْحُليّ، قال الأعشى في " معلّقته ":
( تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاسًا إِذَا انْصَرَفَتْ *** كَمَا اسْتَعَانَ بِرِيـحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ )[1]
وتطلق الوسوسة أيضا على حديث النّفس، يقال: وسوست إليه نفسه، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
ويقال في الأفصح: مُوَسْوَسٌ إليه، وإنّما شاع استعمال " موسوَس " على إسقاط حرف الجرّ.
وأصل الكلمة " وسّ " ومضاعفة الحرف تدلّ على الاستمرار، مثل:"زلّ"، و"كبّ"، و"عسّ"- بمعنى طلبه ليلا -، فإذا كان يتكرّر منه ذلك قيل: زلزل، وكبكب، وعسعس، لذلك كان حال الشّيطان والنّفس أنّهما يوسوسان، فهم في استمرار وعلى دوام.
* ثانياً: أنواع وساوس الشّيطان الرّجيم: وساوسه أنواع ثلاثة: وساوسُ هي: خيالات وتشويشات، ووساوسُ: هي شهواتٌ، ووساوسُ: هي شبهات. وتحت كلّ نوع ما لا يُحصى من الطّرق والوسائل.
أ) فوساوس الخيالات: سببها الجهل بشرع الله تعالى وبِحِيَل عدوّ الله، فيأتي العبدَ فيشكّكَه في عمله ! وكلامه ! وصلاته ! وصيامه ! ووضوئه ! وعِرضه ! حتّى يكاد يُصاب بالجنون !
وهذا دواءه العلمُ النّافع إلى جانب الإكثار والموظبة عل ذكر الله عزّ وجلّ.
ب) أمّا وساوسُ الشّهوات: فسببها قوّة الشّهوة الكامنة في الإنسان، وهذا حال أكثر الخلق، فهو يجعل الشّهوات طريقا لصدّ النّاس عن ذكر الله، فيقعون في حبائل الشّرك والضّلال، والبدع والانحلال، لذلك قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر} [النور: من 21].
وعلاجه التّقوى والعمل الصّالح، والصّبر على ذلك، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
ج) وأمّا وساوسُ الشّبهات: فسببها الجهل المركّب، فيقع العبد ضحيّة الشّيطان للاسترسال وراء شبهات تطرح عليه.
ودواؤها: هجر وسائل الشّبهات:
فإن كان من شياطين الإنس قاطعْتَه، وإن كان من شياطين الجنّ استعذْتَ بالله منه، قال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}..
ونظير هذه الآية في الأعراف، قال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200].
وأخرى في فصّلت، قال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}.
قال الحافظ ابنُ كثير رحمه الله:
" فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها، وهو أن الله يأمر بمصانعة العدوّ الإنسيّ والإحسانِ إليه، ليردَّه عنه طبعُه الطيّب الأصلِ إلى الموادّة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدوّ الشّيطاني لا محالة؛ إذ لا يقبلُ مصانعةً ولا إحساناً، ولا يبتغي غيرَ هلاكِ ابن آدم، لشدّة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل ".
* وإنّ للشّيطان أكثرَ من طريق للوصول إلى إضلال بني آدم، وقد أقسم قائلا:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39]، ولكنّ الله عزّ وجلّ ردّ عليه قوله:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42].
وقد ذكر المصنّف رحمه الله في هذا الباب ستّة أحاديث:
خمسةً منها تعالج الوسواس من الشّبهات الّتي يوردها إبليس على بني آدم.
وحديثاً في بيان ما يُدفع من تشويش الشّيطان في الصّلاة.
مع العلم أنّ الذّكر بجميع أنواعه يطرد الشّيطان الرّجيم، كما سبق أن رأينا في فضائله، لذلك نبّه المصنّف على حديث أبي مالك الأشعريّ رضي الله عنه.
[1] العشرق: شجيرة مقدار ذراع، فيها حبّ صغار إذا جفّت ومرّت بها الرّيح تحرّك الحبّ فيُسمع له خشخشة على الحصى.
والزّجل: الصّوت الرّفيع العالي