* قوله: ( فَذَكَرَ اللهَ ) الظّاهر أنّ الذّكر مطلق، لكن جاء ما يقيّده بالتّسمية.
روى البخاري ومسلم عنْ جابِرٍ رضي الله عنه نفسِه عنْ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( إِذَا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقْ بَابَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ، وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ، وَأَوْكِ سِقَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ، وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ، وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئًا )).
ومعنى ( اذكُر اسمَ الله ) أي: قُل: ( بسم الله )؛ بدليل قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} [المائدة: من 4]، {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام من: 118]. فلم يُفهم من ذلك إلاّ التسمية.
تنبيه: أمّا ما رواه أبو داود عنْ أبِي مالِكٍ الأشعَرِيِّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا وَلَجَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلَجِ، وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ، بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا، وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا، وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ )). فمعناه صحيح، ولكنّ سند الحديث ضعيف؛ فيه محمّد ابن إسماعيل بن عيّاش لم يسمع من أبيه.
* قوله: ( وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ ): التّسمية على الأكل واجبة؛ لذلك قال ابن القيّم رحمه الله في "زاد المعاد" (2/396):
"والصّحيح وجوب التّسمية عند الأكل ... وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة، ولا معارض لها، ولا إجماع يُسوّغ مخالفتها ويُخرجها عن ظاهرها، وتارِكها شريكه الشيطان في طعامه وشرابه ".
أمّا الذّكر الثّاني فتناوله الحديثان الآتيان.
الحديث الرّابع:
عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ [لِي][i] رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( يَا بُنَيَّ، إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ، فَتَكُونَ بَرَكَةً عَلَيْكَ، وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ )).
[رواه التّرمذي عن عليّ بن زيد، عن ابن المسيّب عنه، وقال: " حديث حسن صحيح غريب "].
الشّـرح: الذّكر الثّاني هو: إلقاء السّلام.
* قوله: ( يَا بُنَيَّ ): فيه جواز قوله لغير ابنه: ( يا بنيّ )، واستحبابه للملاطفة، قال الإمام النّوويّ رحمه الله في "شرح مسلم":
" فيه جواز قول الإنسان لغير ابنه ممّن هو أصغر سنّا منه: ( يا بْنـي )، و( يا بُنَيَّ ) مصغّرا، و( يا ولدي )، ومعناه: تلطّف، و( إنّك عندي بمنزلة ولدي ) في الشّفقة، وكذا يقال له، ولمن هو في مثل سنّ المتكلم: ( يا أخي ) للمعنى الّذي ذكرناه، وإذا قصد التلطّف كان مستحبّاً، كما فعله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم " اهـ.
ومن ذلك قول أسماء رضي الله عنها لمولاها عبد اللهِ بن كيسان حين أرادت أن ترمي الجمرات قبل طلوع الشّمس - وكانت من أهل الأعذار - قالت: يَا بُنَيَّ، هَلْ غَابَ الْقَمَرُ ؟ ... الحديث رواه الشّيخان.
ومثله مناداة عائشة رضي الله عنها سعدَ بنَ هشام ( يا بُنَيَّ ) في حديثها الطّويل في وصف وتر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والحديث رواه مسلم.
فيُخطِئ كثيرون عندما ينهون عن ذلك، ظنّا منهم أنّه داخل في الانتساب إلى غير الوالد ! وإنّما يحرم ذلك إذا كان ينتسب فعليّا إلى غير والده، وهو من الكبائر؛ لما في الصّحيحين عن سعدِ بنِ أبي وقّاصٍ رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( مَنْ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ )).
* قوله: ( فَتَكُونَ ): في رواية التّرمذي: ((... يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ ))، والوجهان صحيحان، فالمضارع المقترن بفاء السّببيّة إذا وقع جوابا بعد أمر انتصب، وإذا حذفنا الفاء جُزِم.
* والحديث فيه امتالٌ لقوله تعالى:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: من 61].
ومن آثار هذه البركة: الفوز بمعيّة الله تعالى، والتّوسعة في الرّزق، وحصول الكفاف.
الحديث الخامس:
وعنْ أبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عنْ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ:
(( ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عزّ وجلّ:
رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ [أَوْ يَرُدَّهُ][ii] بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ.
وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ.
وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ عزّ وجلّ )).
رواه أبو داود، وابن حبّان في " صحيحه "، ولفظه: قَالَ:
(( ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ، إِنْ عَاشَ رُزِقَ وَكُفِيَ، وَإِنْ مَاتَ أَدْخَلَهُ [iii] اللهُ الجَنَّةَ، رَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلاَمٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ ..)) فذكر الحديث.
الشّـرح:
* قوله: ( ثَلاَثَةٌ ): هناك أربعةٌ آخرون: العائد للمريض، والدّاخل على السّلطان يعزّره، والمعتزل للنّاس في بيته يكفّ شرّه عن النّاس، والماشي في جنازة، ودليل ذلك ما رواه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، عنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رضي الله عنه عنْ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ:
(( مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللهِ، وَمَنْ عَادَ مَرِيضًا كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللهِ، وَمَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ أَوْ رَاحَ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللهِ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَى إِمَامٍ يُعَزِّرُهُ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللهِ، وَمَنْ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَغْتَبْ إِنْسَانًا كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللهِ )). زاد أبو يعلى: (( أَوْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ )) بدل: (( وَمَنْ غَدَا إِلَى المَسْجِدِ )).
* ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: ( ضَامِنٌ عَلَى اللهِ ) ما جاء في رواية ابن حبّان بعد، وهو قوله: (( إِنْ عَاشَ رُزِقَ وَكُفِيَ، وَإِنْ مَاتَ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ )).