تنوّعت إجابات الجمهور في توجيه ( الواو ) في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
القول الأوّل: أنّ الواو زائدة، وهو أضعف الأقوال، قال القرطبيّ وغيره:" وهذا لا معنى له ".
لأنّ الأصل في الكلام عدم الزّيادة، وقد سبق بيانه.[" تفسير القرطبيّ "، و" البحر المحيط "، و" الجنى الدّاني "].
القول الثّاني: أنّ دخولها جائز لا يطلب لمثله حكمة ولا علّة، كما دخلت في قوله تعالى: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ }، فذكر بعضها بالواو وبعضها الآخر بغيرها، وهذا سائغ معتاد في الكلام.[" تفسير القرطبي "(8/271)].
القول الثّالث: أنّ دخولها حسنٌ، للدّلالة على أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كليهما مطلوب لذاته، ففيه التّنويه بكلا الفريضتين، فالمسلم مطالب بالأمر بالصّدق والنّهى عن الكذب، ولا يكتفي بالأمر بالصّدق فحسب، وقِس على ذلك.
قال ابن القيّم رحمه الله:
"... حَسُنَ العطف ليبين أنّ كلّ وصف منهما قائم على حِدَته مطلوب بتعيينه, لا يُكتفى فيه بحصول الوصف الآخر، بل لا بدّ أن يظهر أمره بالمعروف بصريحه، ونهيه عن المنكر بصريحه " [" بدائع الفوائد " (ج3/918-919)].
وقال ابن هشام رحمه الله في " مغني اللّبيب " بعد ما ذكر أنّها لمجرّد العطف:
" والظّاهر أنّ العطف في هذا الوصف بخصوصه إنّما كان من جهة أنّ الأمر والنّهي من حيث هما أمر ونهي متقابلان، بخلاف بقيّة الصّفات.
أو لأنّ الآمرَ بالمعروف ناهٍ عن المنكر وهو ترك المعروف، والنّاهي عن المنكر آمر بالمعروف، فأشير إلى الاعتداد بكلّ من الوصفين، وأنّه لا يُكتَفى فيه بما يحصلُ في ضمن الآخر ".
وقال أبو حيّان رحمه الله في تفسيره لآية التّوبة:
" ولمّا كان الأمر مبايناً للنّهي - إذ الأمر طلب فعل والنهي ترك فعل - حسن العطف في قوله:{ وَالنَّاهُونَ } ودعوى الزّيادة أو واو الثّمانية ضعيف "اهـ.
كذا قال المرادي في " الجنى الداني "، وصلاح الدّين العلائي في " الفصول المفيدة في الواو المزيدة " وغيرهما من أهل العلم.
النصّ الرّابع: آية التّحريم.
قوله تعالى:{ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }.
قالوا: إنّ الواو لم تذكر إلاّ عند ذكر الوصف الثّامن، فدلّ على المقصود.
والجواب عن ذلك:
أنّ هذا المثال من أضعف الأمثلة الّتي ذكرها المثبتون لواو الثّمانية، ولذلك اتّفق الجمهور على توجيه مجيء الواو في هذه الآية.
قال ابن القيم رحمه الله في " بدائع الفوائد ":
" قيل: هذه واو الثّمانية لمجيئها بعد الوصف السّابع. وليس كذلك، ودخول الواو ههنا متعيّن؛ لأنّ الأوصاف الّتي قبلها المراد : اجتماعها في النساء, وأمّا وصفا البكارة والثيوبة فلا يمكن اجتماعهما؛ فتعيّن العطف؛ لأنّ المقصود أنّه يزوجه بالنّوعين الثيّبات والأبكار ".
وقال ابن هشام رحمه الله:
" ذكرها القاضي الفاضل، وتبجّح باستخراجها، وقد سبقه إلى ذكرها الثعلبي، والصّواب: أنّ هذه الواو وقعت بين صفتين هما تقسيم لمن اشتمل على جميع الصفات السّابقة؛ فلا يصح إسقاطها، إذ لا تجتمع الثيوبة والبكارة، وواو الثمانية عند القائل بها صالحة للسقوط ... ثمّ إنّ (أبكاراً) صفة تاسعة لا ثامنة؛ إذ أولُ الصفات ( خيراً منكنّ ) لا ( مسلمات ).
فإن أجاب بأنّ مسلمات وما بعده تفصيلٌ لخيراً منكنّ فلهذا لم تُعدَّ قسيمةً لها، قلنا: وكذلك ( ثيِّباتٍ وأبكاراً ) تفصيلٌ للصفات السابقة فلا نعدّهما معهنّ "اهـ.
وهذا يدلّ على دقّة نظر ابن هشام رحمه الله، وعلى حدّ علمي القاصر جدّا لم تقع عيني على من سبق ابن هشام إلى هذه الملحوظة الدّقيقة، فعلى افتراض صحة وجود هذه الواو في لغة العرب فهذا الموضع ليس منها؛ لأنّ الواو وردت بعد الصفة الثامنة لا السابعة.
وقال المرادي في " الجنى الدّاني ":" وأمّا قوله تعالى:{ وَأَبْكَاراً } فليس من هذا الباب، لأنّ الواو فيه عاطفة، ولا بدّ من ذكرها، لأنّها بين وصفين لا يجتمعان في محلّ واحد "اهـ.
الخاتمة – نسأل الله حسنها-:
قد اشتدّ ولع كثير من محبّي البلاغة العربيّة بهذه الواو، وقد تبيّن أنّه لا أصل لها، ولو لم يعُد القول بها بالفهم السّقيم لآي القرآن لهان الخطب، أمّا وهي لها الأثر البالغ في فهم كلام الله تعالى، فإنّه لا بدّ من ردّ القول بإثباتها.
ونخشى أن يزداد ولع كثيرين منهم حتّى يحمّلوا بعض الآيات ما لا تحتمله، وها هو الإمام الثعلبي رحمه الله جعل منها الواو في قوله تعالى:{ سَبْعَ ليالٍ وَثَمَانيةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } ! وقد بيّن ابن هشام أنّه " ... سهو بيّن، وإنّما هذه واو العطف، وهي واجبة الذكر "اهـ.
والله أعلم وأعزّ وأكرم.