الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، على آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فالجواب عن هذا السّؤال في نقطتين:
النّقطة الأولى: إنّ كلّ من كفر بالله عزّ وجلّ فهو مغضوب عليه وضالّ عن سواء السّبيل.
قال تعالى في بيان ضلال كلّ كافر:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النّساء: من الآية116]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:167].
وقال سبحانه في بيان غضبه على كلّ كافر:{مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: من الآية106].
فالنّصارى مغضُوبٌ عليهم أيضا؛ لكفرهم وصدّهم عن سبيل الله تعالى، فكلام الشّيخ رحمه الله غاية في الصّحة بهذا الاعتبار.
النّقطة الثّانية: إنّما يُخصّ النّصارى بوصف الضّلال في مقابلة اليهود فحسب.
فجمهور المفسّرين قالوا: إنّ المقصود بالمغضوب عليهم في الآية هم اليهود، والضّالّون هم النّصارى، وذلك لوجوه كثيرة:
أ) أوّلها: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسّر الآية بذلك، فقد روى الإمام أحمد والتّرمذي والطّبريّ وغيرهم عن عدِيِّ بنِ حاتِمٍ رضي الله عنه أنّ النّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ: الْيَهُودُ، وَالضَّالِّينَ: النَّصَارَى )).
ب) ما رواه البخاري عن ابنِ عمَرَ رضي الله عنهما أنّ زَيْدَ بنَ عمْرِو بن نُفَيْلٍ خرَجَ إِلَى الشَّام يسأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ.
فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ، فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ ؟ فقال: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي ؟
فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ الله !
قال زيدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللهِ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ ؟ فَهَلْ تَدُلّنِي على غَيْرِهِ ؟
قال: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا.
قال زيدٌ: ومَا الحَنِيفُ ؟
قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا الله.
فَخَرَجَ زيدٌ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ !
قال: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ الله، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ ؟ فهل تَدُلُّنِي على غَيْرِه ؟
قال: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا.
قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ ؟
قَالَ: دين إبرَاهِيمَ عليه السّلام، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا الله.
فَلمّا رَأَى زيدٌ قولَهمْ في إبرَاهِيمَ عليه السّلام خرجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فقال:" اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إبرَاهِيمَ عليه السّلام ".
ج) وصفهم في القرآن: فأكثر ما جاء وصف اليهود في التّنزيل هو نزول غضب الله عليهم، وأكثر ما جاء في وصف النّصارى هو أن حلّ عليهم الضّلال:
قال تعالى في شأن اليهود:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية89]، حتّى قال:{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: من الآية90]، وقال:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ..} حتّى قال:{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61]، وقال:{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: من الآية60]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152].
وقال عن النّصارى بعد ما ذكر كفرهم:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
وإنّ اليهود خُصُّوا بالغضب؛ لأنّهم عرفوا الحقّ، ثمّ لم يعملوا به، بل إنّهم كتموه.
والنّصارى خصُّوا بالضّلال لأنّهم جهلة لا يُبصِرون الحقّ، فكان الضّلال ملازما لهم.
وتأمّل جيّدا النّقاط الآتية يتّضح لك ذلك إن شاء الله:
- إنّ بني إسرائيل الّذين اشتهروا بقتل الأنبياء هم اليهود، والنّصارى طورِد نبيُّهم حتّى إنّهم ليَظُنُّون أنّه قُتِل عليه السّلام هو الآخر !
- وإنّ اليهودَ هم أهمّ عامل لطمس معالم دعوة عيسى عليه السّلام؛ إذ ظاهروا عليه الرّوم الوثنيّين من عبّاد الكواكب.
- وإنّ أتباع موسى عليه السّلام تمرّدوا عليه في حياته، وخرجوا عن التّوحيد في حياته، بخلاف النّصارى فقد دخلهم التّحريف والكفرُ بعد رفع عيسى عليه السّلام إلى السّماء.
- وإنّ الدّيانة النّصرانيّة لم تشتهر بين العرب كاشتهار اليهوديّة، ويظهر ذلك جليّا في قول ورقة بن نوفل رضي الله عنه: (( هَذا النَّامُوس الَّذي أُنْزِل على موسى عليه السّلام )) مع أنّه كان قد تنصّر، ولم يذكر عيسى عليه السّلام.
- ثمّ إنّ القرآن يشير إلى أنّ الملتزم بالدّيانة النّصرانيّة أقرب إلى أن يُسلم ممّن هو معتنق لليهوديّة، قال تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82].
ولذلك قال العلماء في تفسير قول الله عزّ وجلّ لعيسى عليه السّلام:{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: من الآية55] قالوا: المسلمون فوق النّصارى إلى يوم القيامة، والنّصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة.
وقال كثير من السّلف: كلّ من علم ولم يعمل كان فيه شبهٌ باليهود، وكلّ من عمل بلا علم كان فيه شبه من النّصارى.
هذا ما بدا لي جوابا عن سؤالك، والله أعلم.