قال ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنه: فَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي القِتَالِ. [" الصّحيح المسند من أسباب النّزول" ص (156) للشّيخ مقبل رحمه الله].
وقوله رضي الله عنه:" هي أوّلُ آيَةٍ نزلتْ في القتالِ "، المراد منه القتال للدّفاع عن النّفس والمال والعرض.
ثمّ نزلت بعدها آيات الإذن بقتال من يقاتلهم، وذلك في سورة البقرة:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].
فعندئذ حميت قلوب المؤمنين لنار الشّوق إلى الجهاد، ففي آخر السّنة الأولى من الهجرة، وكان الموسمُ موسمَ حجّ، اتّجه سعد بنُ معاذ رضي الله عنه إلى مكّة، فكان صورةً حيّةً لما أفرغته تلك الآيات من الإيمان، والتحدّي لعُبّاد الأوثان .. شعاره: موعد الحرب قد حان !
روى البخاري عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال:
" انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه مُعْتَمِرًا، قال: فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَبِي صَفْوَانَ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا انْطَلَقَ إِلَى الشَّأْمِ فَمَرَّ بِالمَدِينَةِ نزَلَ على سعْدٍ، فقالَ أُميَّةُ لِسَعْدٍ:
انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَغَفَلَ النَّاسُ، انْطَلَقْت فَطُفْت.
فَبَيْنَا سَعْدٌ يَطُوفُ، إِذَا أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ ؟
فَقَالَ سَعْدٌ رضي الله عنه: أَنَا سَعْدٌ.
فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: تَطُوفُ بِالكَعْبَةِ آمِنًا، وَقَدْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ ؟!
فَقَالَ: نَعَمْ !
فَتَلَاحَيَا بَيْنَهُمَا، فقالَ أُميَّةُ لسَعْدٍ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الحَكَمِ؛ فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الوَادِي !
ثمَّ قالَ سَعْدٌ: واللهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالبَيْتِ لَأَقْطَعَنَّ مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ.
قال: فَجَعَلَ أُميَّةُ يقولُ لِسَعْدٍ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ، وَجَعَلَ يُمْسِكُهُ.
فَغَضِبَ سَعْدٌ، فقالَ: دَعْنَا عَنْكَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صلّى الله عليه وسلّم يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ.
قال: إِيَّايَ ؟! قال: نَعَمْ.
قالَ: واللهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ.
فَرَجَعَ إلى امْرَأَتِهِ، فقالَ: أَمَا تَعْلَمِينَ ما قالَ لي أخِي اليَثْرِبِيُّ ؟ قالتْ: وَمَا قَالَ ؟
قال: زَعَمَ أَنَّه سَمِعَ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلِي. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ !
فقالَ أُمَيَّةُ: وَاللهِ لاَ أَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ.
وانقضى موسم الحجّ، وجاء شهر الله المحرّم، ثمّ انقضى دون قتال لحرمته فيه .. وجاء شهر صفر فبدأ الغزو.
ذكر الصّحيح من الأقوال في الغزوات والسّرايا.
أهمّ حدث هذا العامَ هو: تشريع الجهاد في سبيل الله تعالى، فكانت السّنة الثّانية حافلةً بالسّرايا والغزوات.
والسريّة من حيث اللّغة هي الجيش الصّغير، والغزوة اسم يطلق على كلّ قتال، إلاّ أنّ علماء السّيرة اصطلحوا على تسمية الغزوة بالقتال الّذي خرج فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والسريّة بالجيش الّذي لم يخرج فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
أمّا الغزوات فقد اختلف العلماء في عددها على أقوال:
1- فمنهم من قال: هي تسع عشرة، استدلالا بما رواه البخاري ومسلم عن أبي إسحاقَ السّبيعيّ قال: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه فقيل لهُ: كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ غَزْوَةٍ ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ. قِيلَ: كَمْ غَزَوْتَ أَنْتَ مَعَهُ ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ.
كذا قال، ومراده: الغزوات الّتي خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيها بنفسه سواء قاتل أو لم يقاتل.
2- ومنهم من قال: هي إحدى وعشرون غزوةً، استدلالا بما رواه أبو يعلى من طريق أبي الزّبير عن جابر رضي الله عنه أنّ عدد الغزوات إحدى وعشرون، قال الحافظ: " وإسناده صحيح، وأصله في مسلم ".
فعلى هذا فقد فات زيدَ بن أرقم ذكرُ ثنتين منها، ولعلّهما "الأبواء" و"بُواط"، وكأنّ ذلك خفي عنه لصغره، ويؤيّد ما قلته ما وقع عند مسلم بلفظ:" قلت: أوّل غزوة غزاها ؟ قال: ذات العُشير أو العُشيْرَة ". والأبواء وبواط قبلها.
3- وقيل: أربعة وعشرون غزوة، فقد أخرج عبد الرزّاق بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيّب قال: " غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعا وعشرين ".
4- وقد توسّع ابن سعد فبلّغ عدّة المغازي الّتي خرج فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه سبعا وعشرين، وتبع في ذلك الواقدي، وهو مطابق لما عدّه ابن إسحاق.
توضيح سبب الخلاف:
يرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب:
الأوّل: أنّ من توسّع يكون قد فصل بين غزوتين، ومن نَقص جعلهما واحدة.
فإنّ كثيرا من أهل العلم يجعل غزوة الأحزاب (الخندق) وغزوة بني قريظة غزوتين منفصلتين، ويجعل غزوة الطّائف وحُنين منفصلتين كذلك. في حين أنّ فريقا منهم يجعل الغزوتين واحدةً لقرب بعضهما من بعض، أو لكون الأولى سببا للثّانية. والصّواب هو الفصل بينهما.
الثّاني: اختلافهم في مفهوم الغزوة، فربّما كان منهم من يعدّ الغزوة هي الّتي حدث فيها قتال دون الّتي لم يحدث فيها قتال، والفريق الآخر يعدّ الّتي لم يحدث فيها قتال غزوةً أيضا.
وعليه، فمنهم من لم يعدّ الحديبيّة ولا عمرة القضاء ولا الفتح غزوات، والصّواب عدّها؛ لأنّهم خرجوا بأسلحتهم، وكانوا متأهّبين لقتالهم متى اقتضى الأمر ذلك.
الثّالث: توسّع بعضهم أحيانا، فقد يطلِقون على السريّة أحيانا غزوة لعظمتها ومنزلتها، كسريّة مؤتة مثلا.
فيكون مجموع الغزوات على الصّحيح تسعةً وعشرين غزوة متسلسلة على النّحو التّالي:
- · ثماني غزوات في العام الثّاني من الهجرة: الأبواء، فبواط، فالعُشيرة، فسفوان (بدر الأولى)، فبدر الكبرى، فبنو سليم، فبنو قينقاع، فالسّويق.
- · أربع غزوات في العام الثّالث: ذو أمرّ، فبحران، فأحد، فحمراء الأسد.
- · ثلاث غزوات في العام الرّابع: غزوة نجد الأولى، فبنو النّضير، فبدر الموعد.
- · أربع غزوات في العام الخامس: دومة الجندل، فبنو المصطلق، فالأحزاب، فبنو قريظة.
- · غزوتان في العام السّادس: بنو لحيان، فالحديبيّة.
- · أربع غزاوت في العام السّابع: الغابة، فخيبر، فذات الرّقاع، فعمرة القضاء.
- · ثلاث غزوات في العام الثّامن: فتح مكّة، فحنين، فالطّائف.
- · غزوة واحدة في العام التّاسع: تبوك.
ولقد قاتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنفسه في سبعٍ منها: بدر الكبرى، وأحد، والخندق، وبني قريظة، وبني المصطلق، وخيبر، وحنين.
البعوث والسّرايا: فلا يمكن ضبط ذلك؛ لذا اختلف العلماء في عددها على أقوال:
1- فعدّ ابن إسحاق ستّا وثلاثين.
2- وعدّ الواقدي ثمانيا وأربعين.
3- وحكى ابن الجوزي ستّا وخمسين.
4- وعدّ المسعودي ستّين.
5- وأوصلها العراقيّ في " نظم السّيرة " إلى ما يزيد على السّبعين.
6- ووقع عند الحاكم في " الإكليل " أنّها تزيد على مائة، فلعلّه أراد ضمّ المغازي إليها.
والله تعالى أعلم.